السادة أعضاء لجنة التحكيم في مسابقة الأم المثالية..
أكتب لكم من لندن، حيث أدرس للحصول على درجة الدكتوره في الإعلام بمنحة من جامعة رويال هولواي، بعد أن حصلت في العام الماضي من نفس الجامعة على درجة الماجستير بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف بمنحة من وزارة الخارجية البريطانية.. هذه الرحلة الدراسية، أعقبت مشواراً مهنياً حافلاً بالإنجازات والجوائز في مجال الصحافة والتليفزيون.. انتسبت فيه لأكبر المؤسسات الإعلامية العربية والعالمية (الأهرام، تليفزيون أبو ظبي، بي بي سي)، كما تنقلت بين عشرات الدول للدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان من خلال برامجي التليفزيونية، التي أنقذ أحدها ذات مرة مواطناً صومالياً بريئاً من السجن مدى الحياة في إيطاليا...
الحقيقة أنني ـ بمقاييس الكثيرين ـ أعد شخصاً ناجحاً.. لكنني أود في هذه الرسالة أن أشرح لكم، كيف أنني لا أملك على الإطلاق أي نصيب من هذا النجاح والتفوق، وأن كل الثناء والمديح والتكريم ينبغي أن يتوجه إلى إنسان واحد فقط، هو الذي صنع هذا المجد في صمت وبلا مصلحة، إنه أمي...

شجعتني أمي على حب القراءة عندما تجاوزت منتصف عقدي الأول، بوضع قصص على المائدة، وحين أنتبه إليها، تزعم أنها مكافأة لتلاميذها النابغين.. ويدفعني الفضول للتعرف على تلك الهدية الثمينة، فأطلب من أمي استعارتها، لتقبل أن تعطيني إياها، متعهدة بشراء غيرها للتلاميذ... ومن هنا بدأت رحلتي الطويلة مع القراءة، ولا أظن أنني كنت لأمتهن الصحافة والفكر، دون أن أدخل من بوابة القراءة والاطلاع، التي أرشدتني أمي إليها، وكأنها تؤهلني بثقة وبصيرة لما سيقتضيه عملي في المستقبل..
وعندما بلغت الثانية عشر، نصحتني أمي بقراءة عمود صحفي في مناسبة عيد الأم، وزادني المقال حباً وتقديراً لأمي، لكنه أيضاً علق مشاعري بأسلوب كاتبه الأستاذ الكبير مصطفى أمين، فواظبت يومياً على قراءة أعمدته، وبحثت عن كتبه، وقرأت أغلبها، فتعلقت أكثر وأكثر بأسلوبه وحكاياته، وبعد أشهر قليلة كنت أردد اسمه مصحوباً بلقب (مثلي الأعلى)، وتمنيت أن أصبح مثله صحفياً وطنياً يساهم في صنع تاريخ بلاده، وسعدت أمي لذلك، بل وأرسلت إليه تطلب منه استقبالي ومراسلتي.. وزاد الحلم بداخلي، حتى درست الإعلام وتفوقت فيه، فرشحني مصطفى أمين لجائزته، ومنحها لي أمام نخبة من رجال السياسة والإعلام والفن، في حضور أمي، التي حيته بعد الاحتفال، فطمأنها إلى أن ولدها سيكون له شأن في المستقبل..
لم توفر أمي فرصة لإسعادي.. كانت ـ فيما بدا لي ـ تنفرد بنفسها ليلاً وتفكر، كيف لها أن تساعدني على الارتقاء والتقدم إلى الأمام.. كيف يمكن أن تصنع لي وبي تاريخاً تزهو به وتفخر..
كانت أمي كذلك زوجة صالحة.. وبرغم اقتسامها أعباء الأسرة مع والدي، إلا أن صوتها ظل خفيضاً حانياً في وجوده وحتى رحيله، لا تحتفظ ذاكرتي بمشهد واحد تعدت فيه أمي على منزلة أبي كرب وقائد للأسرة، أذكرها وهي تتبادل المزاح معه في الصباح، وهي تعد له ولنا الفطور، وهي تساعدنا على ارتداء ملابسنا، ثم تصطحبنا إلى المدرسة، وهناك عليّ أن أنسى تماماً أنها أمي، وأن أخاطبها كمعلمتي في الفصل، وقد قست عليّ كثيراً في حين دللت زملائي لغرس فضيلة التواضع لديّ، وبعد انتهاء اليوم الدراسي نعود للمنزل، ويعود أبي من عمله، ويتسابق الاثنان في إعداد وجبة الغداء، ثم يتبعاننا إلى المائدة، ويتباهي كل منهما بالتهامنا الطبق الذي أعده.. والحقيقة أن نكهتهما في الطعام كانت واحدة على نحو يصعب تصديقه..
ظلت أمي لسنوات تسعى لنيل فرصتها في السفر بحثاً عن رزق أوفر للارتقاء بمستوى الأسرة، أملاً في أن تحل محل أبي الذي لم يكف عن السفر لنفس الغرض منذ زواجهما، وعندما وقع عليها الاختيار لتعار إلى سلطنة عمان، لم يتردد أبي في العودة من السعودية، وإفساح المجال لها كي تخوض التجربة نزولاً على رغبتها، وتبادل الاثنان أدوارهما، غابت أمي عن الأسرة أربعة أعوام لتوفير دخل أكبر، بينما بقي أبي في البيت يمارس الأعمال المنزلية بمهارة، مازجاً بين حنان الأم وشدة الأب.. لكن رسائل أمي لم تنقطع، وعندما أراجعها اليوم، أدرك كيف اهتدى بها أبي في تلك السنوات الأربع.. إن العشرات من تلك الرسائل التي بعثت بها أمي إلى أبي وأختى وإلىّ من مقر عملها وإقامتها في مدرسة ابتدائية بقرية جبلية نائية في سلطنة عمان، تصلح منهاجاً يسترشد به الآباء في تقويم أبنائهم...
أنهكت هذه الرحلة الشاقة صحة أمي، فعادت منها مريضة، وتحتم ـ لكي تعود إليها عافيتها ـ نقل نحو خمسة لترات من الدم إلى جسدها الواهن، وسارعت بمد ذراعي لنقل كل نقطة دم في جسمي إلى أمي، لكن المستشفى لم توافق على سحب أكثر من لتر واحد فقط، فهرعت إلى أصدقائي أستغيث، وإذا بالعشرات منهم يفدون إلى المستشفى، مشمرين عن سواعدهم، وتم نقل الدم، وعادت أمي إلى البيت، مدينة بحياتها إلى أصدقائي، الذين فعلوا ما فعلوا بفضل تربيتها لي على كل الصفات الحميدة...
لم يأل أبي جهداً في رعاية أمي خلال مرضها، لكن سرعان ما أصابه المرض هو الآخر، وغادر الحياة.. وكان علي القارب أن يواصل المسيرة، فتولت أمي قيادته وحيدة.. بينما كنا في سنوات الجامعة، نتأهل لمواجهة المستقبل..
كنت ـ بعكس معظم أقراني من الشبان ـ ممنوعاً من اللهو في الشوارع والطرقات، أبت أمي إلا أن أجتنب رفقاء السوء، بتشجيعي على قضاء أوقات الفراغ في البيت بين القراءة والكتابة.. وبرغم ذلك الحرص الفائق على تنشئتي في ظلها كي يطمئن قلبها، خضعَت لرغبتي في الانتقال للقاهرة، بحثاً عن ذاتي وأحلامي.. دفعَت بي إلى زحام العاصمة، إيماناً بأن موسم الحصاد سوف يبدأ من هناك.. من حيث بدأت مسيرتي المهنية في صحيفة الأهرام..
بعد زواج أختى، صارت أمي وحيدة، لكنها لم تتمرد مطلقاً على تلك الوحدة، بل وظفت فراغها الجديد للتفكير في المستقبل، أعدت الكثير، ولم تكشف عنه إلا بعد سنوات، كأغراض زواجي والادخار وسداد الزكاة والصدقات نيابة عني..
وشاء القدر أن تسقط أمي في فخ المرض الخبيث، كان يوماً فارقاً في عمري، ذلك الذي خصتني فيه أمي بالسر، أذكره بأدق تفاصيله كأنه كان بالأمس.. وأشد ما أدهشني يومها هو أن أمي كانت تبلغني بنتيجة تحاليلها الطبية، وهي تضحك.. وأغلب ظني أنها أرادت بذلك أن تخفف عني أثر الخبر المفزع...
وانطلقت إلى سماعة الهاتف، وسألت كل من أعرف ومن لا أعرف عن الطبيب المناسب لإجراء العملية الجراحية اللازمة، حتى رشح لي كبار أساتذتي طبيباً مرموقاً، استقبلنا بمستشفى القصر العيني في اليوم التالي، وتمت العملية بدون أن يعرف بها من العائلة سواي.. حملت المسؤولية على كتفي الصغير، ولم أجد من أشكو له قلقي على أمي إلا الله.. حتى أختي ـ التي كانت حاملاً في أشهرها الأخيرة ـ أصرت أمي على ألا أبلغها..
بعد أن تعافت أمي بأيام تلقيت عرضاً سخياً للعمل في تليفزيون أبو ظبي، ولم أعرف ماذا أفعل.. حتى قطعت أمي حيرتي، وأمرتني بقبوله فوراً، خاصة أن صمودها اللافت جعلها تتخطى المرحلة الحرجة بعد الجراحة، وتعود للوقوف على قدميها..
خلال عملي التليفزيوني ظلت أمي جمهوري الأمين الذي يصدقني النصيحة حتى لو آلمتني، كثيراً ما كانت تناقشني في الطريقة المثلى التي ينبغي أن أناقش بها القضايا، وتلومني بقسوة إذا لم أزن بين ضيوفي بالعدل، وتسهر الليالي في جمع قصاصات من الصحف قد توحي لي بأفكار جديدة..
أنابت عني أمي في إنجاز مصالحي بمصر منذ انتقالي إلى أبو ظبي ومن بعدها إلى لندن للدراسة والعمل، تحملت عني مراراً عبء السفر إلى القاهرة لتجديد إجازتي من صحيفة الأهرام بكافة إجراءاتها المعقدة، وكانت تصر على ذلك بحماس ورضا..
لذا فقد كان سعيي الدؤوب لتحقيق حلمها في حصولي على الماجستير من بريطانيا، وتحول الحلم إلى حقيقة عندما شهدت حفل تخرجي الأسطوري، واستمعت إلى إشادة أساتذتي بي، وكنت أُعَرفهم بها مردداً بفخر: هذه هي أمي ومعلمتي، لولاها ما كان لي مكان بينكم..
تختزل هذه السطور عشرات القصص الملهمة، التي أنكرت فيها أمي ذاتها ودفعت بي للمقدمة.. نجحت أمي في مهمتها التي كلفت نفسها بها ربما قبل مولدي، قدمت للعالم إنساناً صالحاً يحب الخير ويسعى له، ويجتمع على حبه وتقديره الكثيرون.. لكن ربما لا يعلم هؤلاء أن أمي هي الأساس، إنها أم نادرة، مثالية بكل ما تنطوي عليه تلك الكلمة من دلالات ومعان..
إن أمي تستحق التكريم بما عانت، وما نالت.. ينبغي أن يُتوجها المجتمع بأرفع الألقاب، وأن يسجل اسمها في صفحات التاريخ، عنواناً للتضحية ونكران الذات..
أشكركم على سعة صدركم، ولكم مني كل التقدير والاحترام،،،
محمد سعيد محفوظ
لندن