نكأت مقابلتي على برنامج (البيت بيتك) ـ ليلة 14 يوليو الماضي ـ جراحاً مزمنة في جسد الإعلام العربي، اتسعت وغارت وتعفنت، ومات الإحساس بها.. استدرجني خيري رمضان بمهارة لنزع الجبيرة الهشة التي أخفينا بها هذه الجراح لسنوات، فإذا بنا أمام وضع صادم يثير الغضب والشفقة في آن.. كان فيلمي عن الواقع الإعلامي من خلال تجربتي الشخصية ـ وهو الذي أطلقت عليه بلا تردد (أي كلام) ـ هو المناسبة التي شجعتنا على إعادة النظر في كل شيء.. لقد نجح الفيلم في أن يقرع أجراس الإنذار من داخل البيت الإعلامي الرسمي، والثمن دفعته طوعاً، عندما شبهت نفسي ـ في لقطة ترمز لما آلت إليه المهنة ـ بالصحفي المهرج، الذي يصفق له الجمهور كما لو كان يؤدي فقرة في السيرك..
كانت هذه الفكرة ـ التي تحديت بها نفسي وزملائي والجمهور ـ هي ما أثار حفيظة البعض على مقابلتي في (البيت بيتك)، إذ كيف ـ من وجهة نظرهم ـ أختزل جمهوراً متفاوت الثقافة والميول، في بعض أفراده فقط ممن يقتلون الوقت بمشاهدة حلقات التوك شو والمغامرات الصحفية وبرامج الميدان، كتلك السيدة التي صارحتني قبل سنوات بأن سر متابعتها لبرنامجي هو أنه (يسليها) وقت إعداد الغداء!! قالتها على سبيل الإطراء، لكنني اختزنت المشهد بألم ودهشة في عقلي الباطن، حتى تمكن الجراح من استخراجه مع ورم في رأسي بعد حين، ليظهر في لقطة سيريالية بالفيلم، أدركت منذ اللحظة الأولي أنها ستصيب زملائي الصحفيين بالصدمة..
لقد حفلت ردود الأفعال على المقابلة والمقتطفات التي عرضت من الفيلم بالعديد من الالتباسات، فمن الزملاء من عاتبني على (تنكري للمهنة)!!، ومن المدوّنين من أشاد بصراحتي بوصفي (المهرج التائب)!!، ومن النقاد من اعتبر التركيز على لقطة المهرج وإغفال الإسقاطات الأخرى استغلالاً للفيلم في حرب بالوكالة ضد الصحافة والصحفيين... لم يهتد أي من هذه التفسيرات للحقيقة التي أراد الفيلم أن يبلغها، وأردت من خلال مقابلة (البيت بيتك) أن أبرزها...
ولعل من تسنت له متابعة أعمالي التليفزيونية خلال الفترة بين عامي 1999 و2005 ـ قبل أن أذهب إلى بريطانيا للدراسة ـ سوف ينتبه للفخ الذي سقط فيه هؤلاء لدى تفسيرهم للفيلم والمقابلة، فلقد كانت برامجي ـ وبعضها على "يوتيوب" ـ منابر لضحايا المنع والرقابة، وميداناً للدفاع عن حقوق الإنسان والحريات.. كل ما في الأمر أنني أردت ـ من خلال الفيلم ـ أن أنقي ثوبي الإعلامي من "دنس" ما يعرف لدى بعض الصحفيين بالـ (الفرقعة)، تلك التي غالباً ما تتحقق على حساب الأمانة والمصداقية..
أما الحقيقة الأهم، التي ضلت طريقها في غمرة النقاش مع زميلي خيري، فهي أن المهرج لم يكن أنا، وإن كنت قد أديت دوره في الفيلم.. كان المهرج هو صورة الإعلام في مرآة الجمهور، محاطاً بكل عناصر التشويق التي توفرها المؤثرات الصوتية والبصرية.. أذكر أنني في شتاء عام ألفين صوّرت حلقة من برنامجي (مقص الرقيب) في معتقل الخيام بعد أشهر من تحرير الجنوب اللبناني، واستعنت بمدير إضاءة لابتكار جو من الإثارة في ممرات السجن.. وهكذا ظهرت في الحلقة وأنا أتجول ـ برفقة أسير محرر ـ في هذه الممرات الضيقة وداخل الزنازين الموحشة، ممسكاً بمصباح، وهامساً بملاحظاتي وأسئلتي في أذن مرافقي... وبعد إذاعة الحلقة كان أطرف ما نشر عنها مقال لكاتب مرموق في صحيفة الحياة اللندنية، أطرى فيه على شجاعتي في (اقتحام السجن سراً بعد منتصف الليل للكشف عن خباياه)!!.. واصفاً حلقة البرنامج بالمغامرة!! لذلك تحديداً فإنني لا أرى اختلافاً بين صناعة الإعلام وصناعة الشيكولاته، كلاهما ينبغي تغليفه بالشيفون والسوليفان قبل بيعه!! وهذه القاعدة الموروثة هي التي أنتجت جمهوراً استهلاكياً، ينجذب فقط للشكل، بغض النظر عن المضمون...!!
الصحفي المهرج ـ الذي لم يتوفر له السياق الدرامي فغاب عن الفيلم ـ كان حاضراً بقوة خلال مقابلتي مع خيري رمضان في (البيت بيتك)، فقد تحدثنا عن الذين يخلطون الرأي بالمعلومة، والذين يبالغون في استعراض القضايا، ويستغلون مشاعر الجمهور، والذين يستحثون ضيوفهم على الصياح، وينافقون السلطة، وينشدون الشهرة على حساب الأمانة والموضوعية، كما تحدثنا عمن يلعبون دور القاضي، ويجارون (أو يخربون) أذواق الجمهور.. تمنيت لفيلمي أن ينوب عني في الاستهزاء بهؤلاء.. لكن خيري دفع بي إلى ساحة الكلام، مطمئناً لتسلحي بفيلم جريء، طالت جرأته صانعه المسكين..!