الإعلام الغربى يواصل حقنه للمشاعر القومية العربية بسموم الطائفية والانقسامات العقائدية. نجح فى ذلك بجدارة على المسرح العراقى، واللبنانى، والآن جاء الدور على مصر!
قبل أسبوعين نشرت الصحافة البريطانية تقريراً مقحماً، يجدد الحديث عما وصفها بمذبحة الخنازير فى مصر ـ خوفاً من تفشى ما بات يعرف بأنفلونزا الخنازير ـ وذلك بعد نحو ثلاثة أشهر من الشروع فى تنفيذ هذا القرار الحكومى المثير للجدل!
برر المراسل الإنجليزى الغرض من تقريره بأنه يرصد آثار تنفيذ القرار صحياً واقتصادياً على جامعى القمامة، وسكان المناطق العشوائية، وهو ما أوحى للقارئ بأن لموعد نشر التقرير مغزى صحفياً مجرداً.. وأن فى محتواه معلومة موضوعية.. والحقيقة أن التقرير خلا من هذا ومن تلك.
انتبهوا معى للطريقة التى سيقت بها الحجج فى هذا التقرير.. انطلق المراسل من الأسباب التى دفعت مجلس الشعب للتصديق على القرار، فذكر نصاً أن (البرلمان ذا الأغلبية المسلمة) صوّت عليه بالموافقة قبل أن ينفذ، هكذا لم يجد من وصف للبرلمان غير ديانة أعضائه، الأمر الذى يجعل المشاهد أمام وجهة نظر تلبس لباس الحقيقة، فالقرار الحكومى بإعدام الخنازير - التى يحرّم الإسلام أكلها - وضع فى سياق دينى، وهو ما يخالف طبيعة النظام السياسى المصرى من ناحية، والرهبة السياسية فى الوقت الحالى من الإساءة للأقباط من ناحية أخرى!
يتصور المراسل أن البرلمان ـ مع كل تحفظاتنا على تشكيلته وأدائه ـ سوف يقامر بتداعيات قرار كهذا، ويوصى به، لأنه فقط ينسجم مع قناعات دينية لدى بعض أو أغلبية أعضائه! وفى تقديرى لم تنتظر الحكومة فيروس أنفلونزا الخنازير كى تنتقم من المسيحيين، لقد عاشت الخنازير فى «مزابل» مصر منذ مئات السنين حرة مستقلة! لم تفكر أشد الحكومات جهلاً أو تطرفاً فى المس بها.. فلماذا الآن؟
ويواصل المراسل مهمته فى استعراض آثار تلك (المذبحة) - على حد وصفه - على لسان نائبة قبطية فى البرلمان، استنكرت على الحكومة قطع أرزاق الغلابة، وتقصد جامعى القمامة، أو (الزبالين) كما لفظها المراسل بالعربية، فقد زادت على نفقات جامع القمامة تكلفة التخلص من أطنان الطعام العفن الذى كانت تتغذى عليه الخنازير، فحرمت أسرة (الزبال) المسيحى من الخنزير الذى كان ينمو مجاناً ثم يباع فيوفر دخلاً معقولاً، كما أضيف لميزانية تلك الأسرة بند إضافى، لنقل مخلفات الطعام إلى مقالب أخرى!
يضيف المراسل استنتاجاً آخر مبتوراً يخلص فيه إلى أن بقايا الأطعمة - التى لا يتمكن جامعو القمامة من إزالتها بالكامل -تبقى فى الشوارع، وأن المستشفيات بدأت بالفعل تتلقى (الحالات الأولى) - بحسب تعبيره - من الأطفال المصابين بالتلوث والتسمم.. فهل طفح الطعام الفاسد فجأة فى شوارع مصر بعد ذبح الخنازير؟ وهل انتظره الأطفال الجوعى لينكبوا عليه ويلتهموا منه، فيصابوا بالأمراض؟ وهل استقبال (الحالات الأولى) - إن صحت المعلومة - يعنى أن هناك ظاهرة؟
إن العفن يملأ شوارع مصر منذ عقود، وهناك مئات الآلاف من الأطفال الذين يفضلون التغذى على القمامة بدلاً من الموت جوعاً.. هذا هو حال بلدنا.. لكن ليس للخنازير علاقة بالأمر.. ولم يزد أو ينقص شىء بالقضاء عليها.. فماذا عساها تفعل قطرة ماء فى بحر؟
أراد التقرير أن يوفر سبباً جديداً للاعتقاد بأن الحكومة والبرلمان يضطهدان المسيحيين فى مصر، بل وعندما يأتى التوافق البرلمانى على قرار يهدف ـ من وجهة نظر المراسل ـ إلى الإضرار بتجارة فئات كادحة أغلبها من المسيحيين، فإن ذلك يعنى أن التصويت بنعم للقرار يمثل رغبة الشعب الذى انتخب (كما يفترض) أعضاء البرلمان.. والخلاصة التى أراد المراسل لها أن تستقر فى وعى المشاهد، هى أن المسلمين والمسيحيين فى مصر أعداء!
أعتقد أن هذا التقرير يتجانس تماماً مع الطريقة التى يغذى بها الإعلام الغربى الانقسامات الطائفية فى المنطقة العربية، بتصنيف حوادث القتل بين سنى وشيعى، وتفسير التوترات السياسية على أنها مذهبية، وإبراز الخصومات الدينية على أنها جوهر أى جدل أو نقاش.. لمست ذلك شخصياً فى تناول الشأن العراقى واللبنانى والفلسطينى سياسياً وأمنياً على السواء - فى الصحف وقنوات التليفزيون الغربية، وهى فرص لا يدخرها الغرب سواء بقصد أو بدون قصد.
ومن المؤسف بالفعل، أن بعض وسائل الإعلام العربى تحاكى ذلك عن جهل!