الاثنين، 24 أغسطس 2009

عاشت الخنازير.. حرة مستقلة!


الإعلام الغربى يواصل حقنه للمشاعر القومية العربية بسموم الطائفية والانقسامات العقائدية. نجح فى ذلك بجدارة على المسرح العراقى، واللبنانى، والآن جاء الدور على مصر!
قبل أسبوعين نشرت الصحافة البريطانية تقريراً مقحماً، يجدد الحديث عما وصفها بمذبحة الخنازير فى مصر ـ خوفاً من تفشى ما بات يعرف بأنفلونزا الخنازير ـ وذلك بعد نحو ثلاثة أشهر من الشروع فى تنفيذ هذا القرار الحكومى المثير للجدل!
برر المراسل الإنجليزى الغرض من تقريره بأنه يرصد آثار تنفيذ القرار صحياً واقتصادياً على جامعى القمامة، وسكان المناطق العشوائية، وهو ما أوحى للقارئ بأن لموعد نشر التقرير مغزى صحفياً مجرداً.. وأن فى محتواه معلومة موضوعية.. والحقيقة أن التقرير خلا من هذا ومن تلك.
انتبهوا معى للطريقة التى سيقت بها الحجج فى هذا التقرير.. انطلق المراسل من الأسباب التى دفعت مجلس الشعب للتصديق على القرار، فذكر نصاً أن (البرلمان ذا الأغلبية المسلمة) صوّت عليه بالموافقة قبل أن ينفذ، هكذا لم يجد من وصف للبرلمان غير ديانة أعضائه، الأمر الذى يجعل المشاهد أمام وجهة نظر تلبس لباس الحقيقة، فالقرار الحكومى بإعدام الخنازير - التى يحرّم الإسلام أكلها - وضع فى سياق دينى، وهو ما يخالف طبيعة النظام السياسى المصرى من ناحية، والرهبة السياسية فى الوقت الحالى من الإساءة للأقباط من ناحية أخرى!
يتصور المراسل أن البرلمان ـ مع كل تحفظاتنا على تشكيلته وأدائه ـ سوف يقامر بتداعيات قرار كهذا، ويوصى به، لأنه فقط ينسجم مع قناعات دينية لدى بعض أو أغلبية أعضائه! وفى تقديرى لم تنتظر الحكومة فيروس أنفلونزا الخنازير كى تنتقم من المسيحيين، لقد عاشت الخنازير فى «مزابل» مصر منذ مئات السنين حرة مستقلة! لم تفكر أشد الحكومات جهلاً أو تطرفاً فى المس بها.. فلماذا الآن؟
ويواصل المراسل مهمته فى استعراض آثار تلك (المذبحة) - على حد وصفه - على لسان نائبة قبطية فى البرلمان، استنكرت على الحكومة قطع أرزاق الغلابة، وتقصد جامعى القمامة، أو (الزبالين) كما لفظها المراسل بالعربية، فقد زادت على نفقات جامع القمامة تكلفة التخلص من أطنان الطعام العفن الذى كانت تتغذى عليه الخنازير، فحرمت أسرة (الزبال) المسيحى من الخنزير الذى كان ينمو مجاناً ثم يباع فيوفر دخلاً معقولاً، كما أضيف لميزانية تلك الأسرة بند إضافى، لنقل مخلفات الطعام إلى مقالب أخرى!
يضيف المراسل استنتاجاً آخر مبتوراً يخلص فيه إلى أن بقايا الأطعمة - التى لا يتمكن جامعو القمامة من إزالتها بالكامل -تبقى فى الشوارع، وأن المستشفيات بدأت بالفعل تتلقى (الحالات الأولى) - بحسب تعبيره - من الأطفال المصابين بالتلوث والتسمم.. فهل طفح الطعام الفاسد فجأة فى شوارع مصر بعد ذبح الخنازير؟ وهل انتظره الأطفال الجوعى لينكبوا عليه ويلتهموا منه، فيصابوا بالأمراض؟ وهل استقبال (الحالات الأولى) - إن صحت المعلومة - يعنى أن هناك ظاهرة؟
إن العفن يملأ شوارع مصر منذ عقود، وهناك مئات الآلاف من الأطفال الذين يفضلون التغذى على القمامة بدلاً من الموت جوعاً.. هذا هو حال بلدنا.. لكن ليس للخنازير علاقة بالأمر.. ولم يزد أو ينقص شىء بالقضاء عليها.. فماذا عساها تفعل قطرة ماء فى بحر؟
أراد التقرير أن يوفر سبباً جديداً للاعتقاد بأن الحكومة والبرلمان يضطهدان المسيحيين فى مصر، بل وعندما يأتى التوافق البرلمانى على قرار يهدف ـ من وجهة نظر المراسل ـ إلى الإضرار بتجارة فئات كادحة أغلبها من المسيحيين، فإن ذلك يعنى أن التصويت بنعم للقرار يمثل رغبة الشعب الذى انتخب (كما يفترض) أعضاء البرلمان.. والخلاصة التى أراد المراسل لها أن تستقر فى وعى المشاهد، هى أن المسلمين والمسيحيين فى مصر أعداء!
أعتقد أن هذا التقرير يتجانس تماماً مع الطريقة التى يغذى بها الإعلام الغربى الانقسامات الطائفية فى المنطقة العربية، بتصنيف حوادث القتل بين سنى وشيعى، وتفسير التوترات السياسية على أنها مذهبية، وإبراز الخصومات الدينية على أنها جوهر أى جدل أو نقاش.. لمست ذلك شخصياً فى تناول الشأن العراقى واللبنانى والفلسطينى سياسياً وأمنياً على السواء - فى الصحف وقنوات التليفزيون الغربية، وهى فرص لا يدخرها الغرب سواء بقصد أو بدون قصد.
ومن المؤسف بالفعل، أن بعض وسائل الإعلام العربى تحاكى ذلك عن جهل!

الأربعاء، 5 أغسطس 2009

مستقبل البلاد!


يتقدم زعيم الحزب بخطواته الواثقة نحو غرفة الاجتماعات، متأبطاً عشرات الأوراق التي سيعرضها على رجال حزبه في اجتماعهم الأسبوعي! يبادر الساعي بفتح الباب والانحناء لدى دخول الزعيم، ثم يغلقه من خلفه، مشيراً لزميله قبل أن يشرع في الثرثرة: شششش! الاجتماع بدأ..!


يتخذ الزعيم مكانه على رأس الطاولة، فيما يتحلق حولها نوابه ورفاق كفاحه من قيادات الحزب.. يفتح الجميع ملفاتهم المتخمة بالبرامج والخطط.. كل منهم يطمع في التصويت لاقتراحه بشأن موضوع الاجتماع المصيري: مستقبل البلاد وسبل الخروج من أزمتها! يستهل الزعيم كلمته الافتتاحية، بعبارة قاطعة: مستقبل البلاد على المحك، وعلينا أن... وفجأة، يرن جرس هاتفه المحمول.. يتلعثم، يلقي نظرة خاطفة على شاشته، ثم يلقي به إلى سكرتيره الشخصي ـ الذي يجلس إلى جواره ـ متظاهراً بعدم الاكتراث، ليستكمل من بعد ذلك الكلمة..

ينتحي السكرتير جانباً وهو يجيب على المتصل بصوت هامس: (...) أهلاً وسهلاً!! (...) لا، الزعيم مشغول الآن! (...) لا يمكن على الإطلاق، لديه اجتماع هام! (...) أي تصريحات تلك؟ لم نسمع بها! (...) ابق معي على الخط، سأعرض عليه الأمر!

من جديد، يضطر الزعيم للتوقف عن استعراض التحديات التي تواجه بلاده، إذ يهمس السكرتير في أذنه: صحفي من محطة تليفزيونية يؤكد أن زعيم الحزب المنافس يدلي الآن على الهواء بتصريحات مضادة لحزبنا، يشكك فيها بولائنا للشعب!!

ينتفض الزعيم واقفاً، وينتزع الهاتف من السكرتير، ويصيح فيما يبتعد عن طاولة الاجتماعات العريضة: كيف يجترىء على حزبنا العتيق؟ كيف يجسر على انتهاك تاريخنا في النضال؟ كيف يقدم على المس بوطنيتنا؟!.. كان المجتمعون قد توقفوا عن التقليب في أوراقهم، ليتابعوا في ترقب ثورة الزعيم..

يسود الصمت لحظة، والزعيم ما زال متشبثاً بالهاتف، قبل أن يندفع مستفسراً من الصحفي بغضب: أنا وهو على الهواء الآن؟ وما أن يأتيه الرد ـ فيما بدا للحاضرين ـ بالإيجاب، حتى ينبرى مجدداً في كيل الاتهامات لزعيم الحزب المنافس، والهجوم عليه، والنيل منه.. يستعرض الزعيم بفخر ماضي حزبه، والمعارك التي خاضها ضد الاستعمار، والانتفاضات الشعبية التي قادها وحقق بها الأمجاد... ثم يستنكر على الحزب المنافس كونه وليداً، تنقصه الحنكة السياسية، وتستقطب شعاراته الحماسية صغار السن فقط...

يخرج الزعيم من الغرفة ليواصل اشتباكه مع منافسه الشاب ـ عبر القناة الفضائية ـ في الردهة المهيبة، أمام عينيْ الساعي الحائرتين... أما السكرتير ـ الذي تسمر في مكانه منذ بدأت ثورة رئيسه ـ فيتناول الريموت كنترول، ويضغط على الزر رقم واحد، وهو يصوبه باتجاه جهاز التليفزيون الضخم، لتظهر الشاشة وقد انشطرت لنصفين، على أحدهما صورة الزعيم بكوفيته التقليدية، وعلى الآخر صورة منافسه بلحيته الكثة..

وتمضي ساعة على الحديث الهاتفي المذاع، وقيادات الحزب لا يغادرون مقاعدهم كما لو كانوا في دار لعرض الأفلام الإباحية.. فبعضهم يجفف عرقه، والآخر يبل ريقه برشفة ماء، وكلما ألقى المذيع بسؤال ماكر على الزعيم، يبالغ الجميع في الإصغاء، ثم يهتفون ويصفقون بعد أن يدلي زعيمهم بالإجابة الشافية، وكأنه أحرز هدفاً في مباراة...

ينتهي البرنامج، ويشكر المذيع ضيفيه، اللذيْن كثيراً ما يلتقيان على وسائل الإعلام، لكنهما لم يجتمعا في غرفة واحدة منذ سنوات.. يردد المذيع شعار القناة الشهير بسعادة، ثم يختم البرنامج، تاركاً جمهوره في غرفة الاجتماعات مستغرقاً في تجهيز عبارات المديح التي سيستقبل بها زعيمه..

تمضي دقائق، نصف ساعة، ساعة.. ولا يعود الزعيم إلى الاجتماع الخطير.. وما زال معاونوه مرابطين حول الطاولة، يمتنعون حتى عن تبادل الرأي في المقابلة أو جدول أعمال الاجتماع انتظاراً لعودة الزعيم.. لكن الزعيم لا يعود...

يخرج السكرتير باحثاً عن رئيسه، يصادف الساعي، يسأله: أين الزعيم؟ يرفع الساعي حاجبيه، ويخفض جفنيه، ويقول: معرفش! لقد ظل يصيح في الهاتف وهو يسير على غير هدى، حتى خرج من مبني الحزب..!!

يسارع السكرتير بالاتصال بالزعيم، متحدثاً إليه بنبرة خافتة كعادته.. وبعد لحظات ينهي المكالمة، ويعود أدراجه إلى غرفة الاجتماعات.. يفتح الباب على مصراعيه، ويهتف في المجتمعين: لقد ألغي الاجتماع...

يقفز الرجال من مقاعدهم، ويسألونه بصوت واحد: لماذا؟؟ فيجيب، مجاهداً ابتسامة: الزعيم نسي نفسه! وظل يسير وهو يتحدث للقناة التليفزيونية، حتى وصل إلى منزله!!

يتطوع أحدهم بسؤاله: وماذا عن مستقبل البلاد؟ فيرد السكرتير بهدوء: سنناقشه الأسبوع المقبل، أو الذي يليه...

أما الساعي فينظر إلى زميله ملياً... لكنهما لا يجرؤان على التعليق!