الأربعاء، 30 يونيو 2010

مصر الجديدة

يا أنا يا أنت أيها القلم اللعين.. كلما أسلمتُك قريحتي، غدرتَ بها وأكرهتَها على الدخول في قاموس اليأس والقنوط.. في كل مرة أكتب عن بلادي تزحف شكواك لا إرادياً على سطور الصفحات، وتمضي ألفيْ خطوة بعدد الكلمات.. كلمة كلمة تنتظر دورها أمام مشنقة الأسطر لتطوق عنقها وتضغط، فتخرج عباراتك مخنوقة وموجوعة... خذلتَني كثيراً يا قلمي... ولكن ليس بعد الآن! لقد عزمتُ هذ المرة على مواجهتك بالحقيقة.. والحقيقة هي أن في بلادي أمل.. شئتَ يا قلمي أم أبيت!

تسألني كيف؟ وأمتي ممزقة؟ ومستقبلها على المحك؟ وزعامتها تؤول لإيران وتركيا وإسرائيل بعد أن شاخت مصر واستقالت من ريادتها؟ والجامعة العربية لا تهش ولا تنش؟ والمحتل الأمريكي يحظى بالشرعية على أراضينا؟ وكل بلد في أمتي مقسوم من الداخل؟ والجسد الفلسطيني مذبوح لنصفين؟ ونداءات التنصل من مسئولياتنا القومية والعربية تعلو وترتفع؟ وولاء العرب للأمة ضعُف وصار موضة قديمة، وينال المدافعون عنه صنوفاً من السخرية والهجوم؟ والعراق يسبح في دم أبنائه؟ والسلاح ينتشر خارج القانون؟ والتدين يحل محل الدين بأوهام النصر السهل؟ والشعوب غارقة في الفوضى؟ والأنظمة غارقة في الديكتاتورية والفساد؟... كيف يعرف الأمل طريقاً لأمتي وهذا هو المشهد؟

أعرف.. أعرف أننا مقهورون.. أسمع صيحات الجوعى وآهات المرضى وهتافات الفقراء.. أرى الاعتصامات والإضرابات، وأشم رائحة الفساد.. أتقيأ كلما قرأتُ صحيفة حكومية.. وأبكي كلما قرأتُ عن ضحية للتعذيب.. وأنتفض غيظاً كلما شاهدتُ أقطاب النظام اللي واكلينها والعة... بلدي جرجرها هذا العهد إلى جوف بحر من الأزمات والكوارث، ثم أعجزته شيخوخته عن إعادتها إلى بر الأمان.. وبدلاً من إتاحة الفرصة للأحزاب وحركات التغيير كي تنقذ ما يمكن إنقاذه، يواصل النظام تطبيق القوانين الاستثنائية والعرفية، ويضاعف من أعداد القتلى في السجون والمعتقلات والشوارع، ويرتكب مزيداً من السرقات عيني عينك.. لا يرحم هذا النظام، ولا يخللي رحمة ربنا تنزل..

أفهم أسباب الإحباط عند المواطن الذي انتحر من فوق كوبري قصر النيل.. وعند خريج الجامعة الذي يرى ابن الأستاذ يفوز بالتعيين رغم عدم كفاءته.. وعند الموظف المرغم على الاستدانة للوفاء باحتياجات أبنائه.. وعند الشاب الذي توخزه الشهوة كلما شاهد فيديو كليب، ويعجز عن تكاليف الزواج.. وعند الأسرة التي تعيش في المقابر لأنها لم تجد سكناً يليق بآدمية أفرادها.. وعند الشباب والفتيات الذين سمعوا عن شهيد التعذيب خالد محمد سعيد، ويسمعون عن أمثاله كل يوم.. وعند الجيل الجديد الذي يشعر بالتخلف مقارنة بأقرانه في الغرب.. أفهم أسباب الإحباط عند أمثالي ممن تنفسوا نسيم الحرية في بلاد الفرنجة، بينما يستنشقون الغاز المسيل للدموع في شوارع مصر.. التشاؤم من المستقبل ليس وليداً من رحم الصدفة، ولا تجنياً بلا مبرر على أحد..

ولكن مهلاً أيها القلم.. لا تحبسني من جديد في النصف الفارغ من الكأس.. فالصورة لمن يرى ليست كالحة السواد.. وعلينا أن ندين لهذه الإحباطات المتوالية بالفضل في خروج الشعب المصري من قمقم الاستسلام والرضا بالمقسوم.. ألا ترى ما يجري في الشارع؟ المعتصمون يتشبثون لأول مرة منذ عقود بالأرصفة المقدسة.. والوقفات الاحتجاجية أمام المقار الحكومية تجاوز عددها ألفين في ثلاث سنوات، يغذيها بالأمل على صفحات الإنترنت شبابٌ في سن المراهقة.. ازداد الوعي.. وعرف الناس حقوقهم بعد أن فاض بهم الكيل.. لم يعد النقد من الكبائر.. ولم يعد الاضطهاد حاجزاً ومانعاً من التعبير عن الرأي.. صار لسائق التاكسي وبائع الفاكهة والمتسول مواقف سياسية واضحة.. أبصر الشعب بعد أن أعماه النظام البوليسي لسنوات طويلة.. ألا يمنحنا هذا شعوراً كافياً بالاطمئنان والأمل؟

وإذا اتفقت معي على أن التاريخ يعيد نفسه، ألا ترى أن الفصل الذي نحاكيه اليوم هو ذاته الذي جرت أحداثه في مصر بعد الحرب العالمية الثانية؟ عندما أُغلِقت المصانع، وانتشرت البطالة، وارتفعت تكاليف المعيشة، وواظبت النقابات العمالية على تنظيم المظاهرات لمطالبة الحكومة بإصلاح الأحوال السياسية والاقتصادية؟ وقتها ساد الاتجاه إلى تشكيل جبهة موحدة للوقوف في وجه النظام الحاكم، قوامها العمال وفقراء الطبقة الوسطى والمثقفون والفلاحون.. كان الدكتور محمد البرادعي في ذلك الوقت لا يزال في المهد.. لكن من يدري؟ ربما كان والده المحامي والمناضل السياسي مصطفى البرادعي عضواً في تلك الجبهة أو أحد زعمائها! كان الشعب ساخطاً.. وكانت الحكومة عاجزة.. ووجد فكر الإخوان مسرحاً مؤاتياً للانتشار.. وبدأ الصراع الأزلي بينهم وبين الوفد والشيوعيين، إضافة للخلايا الماركسية التي نشأت خلال الحرب، واتسعت في مدن مصر الكبرى..

كانت قائمة الاغتيالات السياسية قد ضمت حتى ذلك الحين عشرات الخونة والفاسدين، بداية باغتيال بطرس باشا غالي رئيس الوزراء عام 1910 انتقاماً من حكمه على أربعة مصريين بالإعدام عام 1906 بعد حادثة دنشواي، وعقاباً له على إعلان الأحكام العرفية (التي يسميها نظامنا اليوم من قبيل الدلع قوانين الطوارىء).. واغتيال السير لي ستاك سردار الجيش المصري وحاكم السودان عام 1924، الذي أعقبته استقالة وزارة سعد زغلول احتجاجاً على توبيخ الاحتلال له.. ثم الاغتيالات التي استهدفت الجنود والضباط الإنجليز لبث الرعب في نفوسهم وإرغامهم على الجلاء.. واكتملت أسباب السخط والتمرد بنكبة حرب فلسطين عام 1948، التي تجلى فيها الضعف العربي، رغم مشاركة معظم الجنسيات العربية فيها..
تحول الغضب الشعبي في يناير من عام 1952 إلى حريق هائل التهم أكثر من سبعمائة منشأة بالقاهرة في أقل من عشر ساعات.. فإلى أين قاد ذلك؟ الإجابة: إلى التحرير.. إلى ثورة عارمة انتهت بمغادرة الاحتلال، وإلغاء الملكية، وإعلان الجمهورية، والقضاء على الإقطاع وسيطرة رأس المال.. ولم يعد هناك توريث ولا رجال أعمال ونواب فاسدين، ولا رشوة من شركة مرسيدس.. وإن كانت حمى الفساد قد عادت من جديد بعد سنوات...

ضاقت (في بلادنا مرات عديدة).. فلما استحكمت حلقاتها (مثلما نرى اليوم).. فُرِجت! ليس هذا مجرد شطر في قصيدة نظمها الإمام الشافعي قبل اثنتي عشر قرناً.. إنها بشرى تحققت في القرن الأخير مرة، فلِمَ لا تتحقق ثانية؟ هذه هي المقدمات تتكرر، فلم لا تتبعها نفس النتائج؟ سألت نفسي هذا السؤال عشية إعلان خبر اغتيال شهيد التعذيب بالإسكندرية خالد محمد سعيد.. كنت قد شرعت في كتابة مقالي الأسبوعي، وقررت بالصدفة منذ الصباح أن يدور حول التعذيب.. وبينما كنت أجمع المعلومات، وقعت عينيّ على الخبر المروع في إحدى المدونات منقولاً عن صفحة الدكتور أيمن نور على الفيس بوك.. بعد نصف ساعة فقط تشكلت مجموعة على الموقع الاجتماعي عنوانها (أنا اسمي خالد محمد سعيد)، بدأَتْ في نشر ما تسنى لمشرفيها من أخبار مقتضبة عن الحادث، ودعت جمهور الموقع للانضمام.. كان ذلك في حوالي الساعة السادسة مساءاً بتوقيت لندن، ومع حلول منتصف الليل كان قد انضم للمجموعة قرابة خمسين ألف عضو، أمطروا صفحاتها بالتعليقات الغاضبة والحزينة.. وليس سراً أنني كنت في تلك الساعات أكتب المقال بينما تنهمر دموعي، ليس فقط بتأثير الحادث، وإنما تفاعلاً مع هذه الثورة الناعمة التي تتأجج أمامي من الشرفات وغرف النوم ومقاهي الإنترنت.. لقد تصدرت صورة خالد منذ الساعات الأولى وحتى هذه اللحظة أغلب الصفحات على الموقع بما فيها صفحتي.. وتطوع العشرات من الموهوبين فوراً بتصميم شعارات جريئة على الصورة تهاجم النظام ووزارة الداخلية وتعد خالد بالثأر.. وبادر ذوو الملكات الشعرية بنظم القصائد على عجل، ومنها: (خالد سعيد.. الدم نازف م الوريد.. والظلم قابض من حديد.. بس الصراحة فيه جديد.. فيه جيل عنيد.. عزمه شديد.. مفيهوش عبيد.. فيه ألف إيد.. حالفة تجيب حق الشهيد)... ما أحلاها كلمات وما أصدقها!
لم يلتق القائمون على هذه المجموعة وجهاً لوجه.. تبادلوا الآراء من خلال الإنترنت، وتبلورت أهدافهم دون أن يرى أحدهم الآخر إلا عن طريق الرسائل والتعليقات.. كلف هؤلاء أنفسهم بعدد من الأهداف على رأسها جعل المتابعين للقضية على صلة بدقائقها ومستجداتها لحظة بلحظة، من خلال نشر تقارير الطب الشرعي، وأخبار تحقيقات النيابة، ونقل ما تنشره الصحف عنها مصحوباً بالنقد والتحليل، والسعي للكشف عن هوية الضابط الذي أشرف على تعذيب خالد، ونشر الفيديو الذي تسبب بقتله، وكذلك فضح حالات التعذيب الأخرى..

وعندما انتشرت الدعوة للوقفة الاحتجاجية أمام وزارة الداخلية في لاظوغلي بعد يومين، كان قد تم الاتفاق على موقعها ومسارها، واقتراح مسارات بديلة، ونشر خرائط تفاعلية لمساعدة المشاركين في الوصول.. وفي اليوم التالي كان عدد المنضمين إلى المجموعة قد تخطى مائة ألف، معظمهم من المراهقين غير المنتسبين لأي تيار سياسي أو ديني.. وفي صباح اليوم المشهود كان العدد قد وصل لمائة وخمسين ألفاً.. شارك منهم بضعة آلاف بالفعل في تلك الوقفة الاحتجاجية، التي سعت قوات الشرطة لمنعها بكافة السبل..

وعلى الأرض صار للمواقع التفاعلية الأخرى دور لا يقل أهمية في نقل الحقيقة.. فقد كان هناك من يبث لقطات حية على مواقع يوتيوب وفيميو وهولو وغيرها، تكشف ممارسات قوات الشرطة وحصارها للمتظاهرين.. كما لعب بعضهم دور "الصحفي المواطن"، فبحث عن شهود الحادث، وأجرى معهم مقابلات مصورة بالفيديو، وبثها على اليوتيوب.. وصارت هذه المادة ينبوعاً نهلت منه الصحف ومحطات التليفزيون.. بل نجح هؤلاء في العثور على وثائق حيوية تفيد التحقيق، أو تثبت أوجه القصور فيه، مثل شهادة تأديته الخدمة العسكرية التي نفت ادعاء الشرطة بأنه كان هارباً من الجيش.. والفيديو الذي حصل عليه الشهيد قبل اغتياله، ويصور ضباطاً وجنوداً في قسم شرطة سيدي جابر يتقاسمون بسعادة ضبطية مخدرات، وهو الفيديو الذي هدد خالد ببثه على الإنترنت، ويُعتقد أنه كان السبب في تخلص أفراد الشرطة منه.. لم يعوّل شباب الفيس بوك الواعد على الإعلام سواء الحكومي أو المستقل.. وكأنه أراد أن يستعرض قوته وقدرته على تحريك الشارع دون أدني مساعدة من أحد.. وما زالت تلك المجموعة الثورية ـ التي وصل عدد أعضائها الآن إلى ربع المليون ـ تمارس حقنها للرأي العام بأفكار ومعلومات، وتدعوه لفعاليات بهدف الثأر من قتلة خالد، ومناهضة جرائم التعذيب وانتهاك حقوق الإنسان في مصر بوجه عام...

ولأن هذا الشباب الصاعد يعيش الحدث ويتفاعل معه في نفس اللحظة، فإن أياً من حركات التغيير لم تضارعه في هذه الفورية، فاضطر الدكتور محمد البرادعي إلى الانضمام لمجموعة الفيس بوك عندما اختطفت منه المبادرة، وكذلك فعل الدكتور أيمن نور، وبات المعارضان في الصف الثاني، خلف شباب يمارس التغيير بكاميرا الموبايل وعلى اللاب توب.. دون الدخول في تعقيدات السياسة والتورط في أشكال التنظيم ثقيلة الحركة..

لمست في هذه الأزمة روحاً وطنية نادرة بين شباب بلادي، وأحسست بها تسري في عروق الشعب بخفة وسرعة.. الفيس بوك صار منبراً للتغيير، يعتليه طلبة المدارس والجامعات.. إنها مصر الجديدة.. مصر التي أدارت ظهرها للتبعية والخمول واللامبالاة.. وتستهل بأصغر فتيانها وفتياتها عهداً من الحرية والتغيير... كيف حالك أيها القلم، وأنت ترى كل ذلك؟
في بلادي أمل، وفي شبابها رجاء.. ولو لم يكن هذا هو الحال لما حشدت قوات الأمن المركزي جنودها وأغلقت الشوارع وحاولت منع المسيرات والمظاهرات والوقفات الاحتجاجية كل يوم، وحتى كتابة هذه السطور، إذ تتحول منطقة سيدي جابر في الإسكندرية الآن إلى ثكنة عسكرية استعداداً لزيارة الدكتور محمد البرادعي.. ولو لم تكن لتلك الطفرة في عقول شبابنا آثار إيجابية متوقعة ومؤكدة، لما أشهر الإعلام الحكومي خناجره في وجوه المطالبين بتغيير الدستور وإلغاء قوانين الطوارىء، ومعظمهم من طلبة المدارس والجامعات.. النظام البوليسي صار يرتعد من شباب الإنترنت.. الشباب الذي صدق وعده، وهزم الخوف والإرهاب وحده.. وهكذا يشعر كل نظام جبان يستعين على الشعب الأعزل بالقتل والتعذيب، بما في ذلك إسرائيل.. فبين نظامنا ونظامهم اتفاقية سلام وسلاح وبطش وتنكيل.. ما جمّع إلا اما وفّق!

بيني وبين التفاؤل المفرط شعرة.. أعرف! وأعرف أن كلامي قد يبدو كآيات الغلبة على الكفار وأحاديث النصر المبين التي يرددها البعض وهو يتقوقع في دور العبادة بلا عمل.. ينتظر الأمل! لكن الحقيقة أن هذا أمل ملموس، وليس غيبياً.. فمن ظل يدعي أن شبابنا رخو ويبحث عن الموضة ويميل إلى التقليد، عليه أن يعترف الآن بخطأه عندما يرى هذه القوة الثورية الجديدة، تنطلق بجموح في الشارع المصري، تزينها وجوه بريئة من أبنائنا وإخواننا الصغار، وترتفع فيها هتافات عفوية، ليس من بينها الإسلام هو الحل، ولا الحق فوق القوة.. تيار اللا تيار فاز بالشارع، وحزب اللا حزب تمكن من قلب الموازين وأحدث الحراك المنشود.. سلم لي بقى على الأحزاب العتيدة، التي تحرث في الرأي العام منذ عشرات السنين، ولم تفلح في زحزحة نفسها خطوة للأمام، فما بالك بالثمانين مليون!

ستغير هذه المجموعات غير المنظمة وجه مصر.. عفويتها وعشوائيتها ستكون جواز مرورها إلى الشارع المتعطش للتغيير.. ستنتقل رسالتها كالعدوى بين المصريين، وستنجح في إيقاظهم بصدماتها الإلكترونية الفعالة والآنية.. وسينبعث دخان التغيير المصري في فضاءات الدول العربية الأخرى.. لنجد أمتنا بعد سنوات قليلة وقد نهضت على قدميها من جديد...
صدقني! الأمل ساطع كالشمس في منتصف النهار.. يزيح الستار بنوره عن التدهور الذي يحيط بالبلد، والتغضن الذي يكسو ملامحها ويخفي بريق وجهها.. فلا يستغرقنك النظر إلى هذا القبح، وتنسى أنه لولا النور لما كشفتَ الظلمة، ولولا الأمل البادي في الأفق، لما رأيت الطريق إلى المستقبل.. وإذا كنت من المغضوب عليهم، فتأكد أنك لست من الضالين...
عايز نصيحتي؟ شارك... شارك في كل الفعاليات التي تسعى للتغيير.. اذهب إلى كل وقفة ومسيرة، وارفع صوتك بالنداء.. ستهز الهتافات عرش الفساد كلما اشتدت وارتفعت إلى السماء.. ستوقظ الحكومة من سباتها، وتقض مضاجع النظام.. الزن على الودان أمرّ من السحر!
ونصيحة أخرى لو سمحت.. حاور.. تكلم مع من تختلف معهم.. وقابلهم عند منتصف الطريق.. واتفق مع الجميع على مصلحة واحدة.. مصر!

وتعلم... ذاكر.. اتعب على نفسك.. ابحث.. اعرف.. اقرأ.. فك طلاسم الإنترنت.. التحق بدورات في اللغة الإنجليزية.. تواصل مع الآخر.. آمن بما تفعل.. احلم.. احلم... احلم...
الأمل بين يديك.. أنت صاحبه وصانعه.. فلم تبحث عنه بعيداً؟
افعل مثلي.. وانتصر على اليأس...

_________________________
* نشرت بصحيفة الدستور يوم 30 يونيو 2010

الأربعاء، 23 يونيو 2010

المتربصون


عيني عليك يا دكتور برادعي.. ما أن عدت إلي مصر حاملاً شموع الأمل، حتي ارتطمت رأسك بحائط زجاجي منيع، جعل من انطلاقة التغيير التي كنت تتطلع إليها مهمة متعثرة وشبه مجمدة!

بالتأكيد كانت صورة سعد زغلول وهو عائد من منفاه في جزيرة مالطة تغازل خيالك وأنت تحزم حقائبك في فيينا بعد أن عزمت علي الرجوع.. سعد زغلول عاد من المنفي علي أكتاف الثورة، ومنها إلي مؤتمر الصلح في باريس ليخاطب الاحتلال البريطاني باسم مصر.. لن نقارن! أنت وسعد مواطنان مصريان ألهب حماسَهما حبُ البلد ورغبا في التغيير.. لكنك لم تجد في المطار شيخاً يتناوب مع قس حمْل لافتة واحدة باسم مصر.. لم تسمع هتافات تشيد بوحدة أطياف الشعب في مواجهة الظلم.. لم تجد عمال البريد والمحامين والموظفين الحكوميين يتظاهرون في حماية حكمدار العاصمة.. محظوظ سعد زغلول! علي أيامه كان الوطن واحداً.. اليوم عليك يا دكتور برادعي أن توزع زعامتك علي فئات وأحزاب وحركات من الصعب حصرها.. لا تري فيك أي منها نفس الصورة التي تراها الأخري.. والاستقطاب.. يا عيني علي الاستقطاب.. كل صاحب راية في البلد يتشبث بذراعك من ناحية ويشد.. ماذا عليك أن تفعل؟ لا تستطيع حتي أن تملي كلمتك علي أحد في هذا الصخب.. لا يمكنك أن تقول: هس.. اختشوا.. انظروا إلي أعلي.. هذا هو هدفنا الذي نريد أن نرقي إليه! سيتصور المتكالبون عليك أنك تشير للعصفورة.. فكيف ينشغلون بها عن معركتهم الأهلية؟

ما أن عدت يا دكتور برادعي، وشكلت جمعيتك من شرق المسرح السياسي المصري وغربه، حتي بدأ التنافس علي النفوذ فيها بين مساعديك.. لم يرق لهم ما اعتبروه تشدداً من المنسق العام الدكتور حسن نافعة، وكان عليك أن تطبطب علي كتف هذا وتقبل رأس ذاك كي لا ينفرط العقد.. احتدمت الاعتصامات علي الأرصفة، واختلطت أصوات المحتجين مع حشرجات الإعلام الرسمي، الذي يسعي حثيثاً للطعن في نواياك وتلويث سمعتك.. فبماذا ترفع صوتك الناعم الرقيق؟ بالهتافات مع الهتيفة؟ أم بالرد علي الأقلام المأجورة؟ ثم بدأ كورال حزبي في ترديد مقطوعة مصمصة الشفاه، وأنت تستجدي الجميع للجلوس حول طاولة واحدة.. فالمعارضة لا تطمئن للإخوان، ومقاطعة الانتخابات لا تحظي بالإجماع، وكذلك اعتمادك كمرشح وحيد للرئاسة إذا ما تنازلت عن شرطك بتعديل الدستور أو تحقق.. كلما التمست من زعيم حزب أن يلين ويتنازل من أجل مصر، ضم شفتيه ورفع كتفيه وطرق بقدم علي الأرض، وهو يقول بدلال صبياني: لأه..

لم تترك حيلة سياسية تعلمتها من أقرانك في الخارج إلا وحاولت تطبيقها في مصر.. تحدثت مع وسائل الإعلام المستقلة لتدشن وجودك السياسي بعبارات محسوبة.. أسست مقاراً ووظفت ممثلين في كل مدينة وقرية.. دعوت للتوقيع علي عريضة بالمطالب أطلقت عليها حملة المليون.. وصليت الجمعة وحضرت قداس عيد القيامة.. واجتمعت مرات ومرات مع رموز المجتمع ورجال السياسة.. وفي النهاية ها هي مصر تتكشف أمامك.. لا اجتماع ينفع ولا مظاهرة.. فبين كل اثنين من مؤيديك خصومة، ووراء كل ابتسامة في وجهك مصلحة، وقبل كل اتفاق شرط، وبعد كل وعد نكوص.. ألم تختبر ذلك بنفسك؟

مصر هكذا منذ شاخت قياداتها وخرفت.. ماذا تتوقع من رئيس حزب أو زعيم حركة اقترب من الثمانين؟ رئيس البلد نفسه تجاوزها.. البلد عجّزِت.. وعلي صدور شبابها يجثم إرث من الأمية والخوف والفقر يحميه نظام بوليسي إيده طرشة.. النضال الإلكتروني دؤوب، لكنه بلا زعيم.. ولا يمكن لثورة أن تغير مصيراً من غرفة النوم.. النضال الإلكتروني مهم، لكنه لا يكفي!

أشعر بك، ويشعر بك كل مصري، وأنت تردد مقولة عبد المنعم مدبولي: أنا اللي جبت ده كله لنفسي! بدأتَ تقلب في أجنداتك الخارجية، وتلبي دعوات لمؤتمرات ومحاضرات.. هل هو هروب؟ لكن المعارضة بحاجة دائمة لرضعة حماس من الزعيم.. نعم سيادتك.. معارضتنا الطاعنة في السن لم تفطم بعد!! ومن ثم فقد أثار غيابك المتكرر ضجرها، وبدأ مهرجان التلويح بالاستقالات..

انظر إلي المشهد الآن.. أنت من طائرة إلي طائرة.. وأعوانك يعضون علي نواجزهم من الغيظ.. ونبرة أقطاب الجمعية بدأت تخفت.. ووتيرة جمع التوقيعات تقل.. والانتخابات البرلمانية علي الأبواب.. والانتخابات الرئاسية في الطريق.. هذا في الوقت الذي بلغ التربص أشده بين أطياف المجتمع.. وما أدراك ما التربص!

في ساحات المحاكم أمسك القضاة بتلابيب المحامين.. تخلي الطرفان عن وقارهما وتراشقا بأقذع الاتهامات.. نسيا الغلابة المختصمين علي لقمة عيش أو راتب متأخر أو علاقة أسرية علي المحك.. طظ في هؤلاء حتي تضع الحرب بين رجال العدل أوزارها.. ولكن عندئذ كم واحدًا فينا سيبقي في وجدانه ذرة احترام لهذا الحصن المتداعي؟ سمعنا من قبل عن قضاة مرتشين، ومحامين أفاقين.. وكنا برغم ذلك لا نكف عن ترديد عبارات الإجلال لأحكام القضاء ونأبي أن نعلق عليها.. أما الحكومة علي مر العقود الماضية فكانت وقحة بما يكفي لتحدي عشرات الأحكام القضائية وعدم تنفيذها.. وظل الزواج السري بين القضاء والنظام من الخطوط الحمراء.. لكننا أبداً لم نتوقع أن يبلغ خلاف في أوساط رجال القانون درجة الشرشحة! إلي من نلجأ اليوم في قضايا التعذيب والتزوير، وما أكثرها؟ إديني عقلك!

المسيحيون والمسلمون يحتلون جانباً آخر من المشهد، فقد بات في يقين الكنيسة أنها ضيف ثقيل علي البلد، والعديد من القرارات الحكومية التعسفية والقوانين الجائرة ترسخ هذا الشعور.. المادة الأولي من الدستور تكفل مبدأ التساوي في المواطنة، ثم تأتي المادة الثانية لتهدده بجعل الإسلام هو المصدر الوحيد للتشريع.. والنتيجة هي ما نراه الآن! المسلم ظل من حقه حتي وقت قريب أن يبني زاوية للصلاة في بئر السلم للاستفادة في أحيان كثيرة من التخفيضات الحكومية في تكاليف الكهرباء والمياه والعوائد.. بينما المسيحي عليه إلي الآن أن يستجدي عشرات الجهات، أعقدها الأمنية، وأن يستوفي شروطاً عشرة تعرف بشروط القربي (اخترعتها وزارة الداخلية عام 1934) من أجل أن يبني كنيسة.. ولا يقل الأمر تعقيداً إذا أراد أن يرممها قبل أن تنكسر رقبته تحت سقفها المتهالك.. فحكومتنا متدينة، والخمار يكسوها حتي أخمص القدمين، لذا فهي تطبق الوثيقة العمرية بحذافيرها.. ناهيك عن التحرش الموسمي بين مسيحيين ومسلمين، الذي غالباً ما ينتهي بالدم.. فهل يعقل أن نناقش حرية العقيدة وممارسة العبادات وحقوق المواطنة في القرن الواحد والعشرين، في بلد يفخر بحضارته وثقافته وتفتحه علي العالم؟ قداسة البابا شنودة حاول أن يداري ضيقه من حال الأقباط في مصر عندما منحني شرف مقابلته عام 2003.. ببلاغته التف علي أسئلتي واكتفي بنظرات الأسي المعجون بقليل من الأمل.. اليوم فاض الكيل بالبابا، فرفع للمرة الأولي صوته الواهن بالاحتجاج علي ليّ ذراع الكنيسة بحكم محكمة.. وكأنني أعيد الاستماع إلي نفس شكاوي الزعيم المسيحي الراحل جون قرنق في جنوب السودان.. إن البابا اليوم في مواجهة نظام بأسره.. الإنجيل يهتز.. والقساوسة يغلون.. والصليب يرتعد غضباً.. إنه دِمّل اعتصره حكم محكمة القضاء الإداري الغامض، فخرج صديد الغل المتراكم والموروث.. ليستكمل آيات التربص الشعبي والرسمي.. كله مخنوق من كله!

المشهد يتزين كذلك بالأصفاد التي تنتظر زملائي الصحفيين وائل الإبراشي، ومجدي الجلاد، وعادل حمودة، وخالد صلاح، وغيرهم ممن تربص بهم الوزراء والمسئولون الرسميون ورجال الأعمال النافذون.. قضية الإبراشي هي الحلقة الأحدث في سلسلة التنمر الحكومي بأصحاب الرأي.. نقل الإعلامي الجريء في صحيفته (صوت الأمة) نبض الشارع المصري بشأن قرارات الضرائب العقارية محل الجدل.. معظم الناس ناقمة علي تلك القرارات، خاصة في ظل الأزمة العالمية، ووضع الاقتصاد المتدهور في البلاد، وتدليل رجال الأعمال بتخفيف الأعباء عنهم علي حساب الغلابة ومحدودي الدخل.. لكن وزير المالية يوسف بطرس غالي ـ الذي سبق وأن سب الدين تحت قبة البرلمان ـ اعتبر أن ناقل الكفر (من وجهة نظره) كافر.. وبما أنه لا يستطيع معاقبة ملايين المحتجين علي قراراته، فليجعل من وائل الإبراشي عبرة.. وطبعاً يا فرحته بالمادة 177 من قانون العقوبات.. إذا طبقت كما يأمل، فسيعاقب رئيس تحرير صوت الأمة بالحبس مدة قد تصل لخمس سنوات وغرامة تصل لعشرة آلاف جنيه بتهمة التحريض علي عدم الانقياد للقوانين.. مثله في ذلك مثل المدانين في قضايا قلب نظام الحكم والإرهاب وتهديد السلم العام!! لا وعد الرئيس بإلغاء حبس الصحفيين طبق، ولا احترمت الحكومة إعلان الرئيس في يناير الماضي أن قانون الضرائب العقارية لم يحسم بعد.. هوا من بيحكم البلد بالظبط؟.

حتي القراء يتربصون في أحيان كثيرة بالصحفيين.. منذ أيام كتب ابراهيم عيسي مقالاً جريئاً يدعو فيه لتشجيع الفريق الجزائري في كأس العالم.. أراد ابراهيم أن يطوي صفحة خلافنا الأحمق مع أشقائنا الجزائريين، ويقول «أنا وابن عمي ع الغريب".. فناله من تعليقات زوار الموقع الإلكتروني للدستور أقسي الشتائم والسباب.. يا ابن كذا ويا ابن كذا.. وبقيتُ أبلغُ عن (تعليقات غير لائقة) طيلة المساء مستغلاً هذه الخاصية ـ التي تتيحها المواقع التفاعلية ـ بلا جدوي... يا إلهي! علينا أن نفكر ألف مرة قبل أن نكتب كلمة قد تثير غضب قارئ أو مجموعة من القراء.. فهناك من يتربص، ويتطلع للتنفيس، ويبحث عن ضحية!

ولكن انتظر.. فنحن نتربص بأنفسنا أيضاً.. ألم تر كيف فعل الوفد بالمصري اليوم؟ الدكتور عمار علي حسن كتب في المصري عن صفقة بين الحكومة والحزب العتيد للتخلي عن الدكتور البرادعي وعن الإخوان، مقابل بعض المقاعد الوثيرة في مجلس قال إيه الشعب.. صحيفة الوفد كرست في صفحتها الأولي مساحة يومية للهجوم علي المصري اليوم واتهامها بالعمالة وتزييف الحقائق.. والمصري اليوم بدورها ـ وبطبيعتها ـ لم تذر اتهاماً إلا وعقبت عليه، وسارعت بتقديم بلاغات للنيابة العامة ضد الوفد بالقذف والسب.. ولم يحقن هذا الحبر المهدر سوي انتخاب قيادة جديدة للحزب، ودُفِنت الضغينة حية... لكنها ما زالت يقظة ونشطة في خلافات أخري كثيرة داخل بلاط صاحبة الجلالة! وبمناسبة صاحبة الجلالة تلك.. سألت الأستاذ مصطفي أمين عندما كان عمري أربعة عشر عاماً: كيف تري الفرق بين الصحافة اليوم والصحافة من خمسين سنة؟ فقال دون أن يفكر: الصحافة بالأمس كانت صاحبة الجلالة، أما اليوم فقد صارت الآنسة المهذبة..! يا تري كيف كان سيصفها الأستاذ لو عاش إلي يومنا هذا؟

وفي بؤرة مشهد التربص المحيط بمصر، يستلقي الشاب المصري القلق علي مستقبله تحت جزمة رجل الشرطة، يئن من التعذيب والتنكيل به لأنه جاهر بمعصية الرفض والاحتجاج.. تتربص الأجهزة الأمنية بالشعب.. تمسك له علي الواحدة.. تلبد له في الدرة.. يتغذي جنودها علي ضرب وقتل المعارضين وغير المعارضين.. وزارة الداخلية سمن علي عسل مع الحكومة ورجالها الأوفياء.. وحميم علي زقوم مع حركات التغيير وشبابها الغلابة..

كيف يمكن للبرادعي أو لغيره أن يقود ثورة للتحرر من الرجعية والتخلف في بلد هذا حالها؟ كيف يمكن لمسيرة واحدة أن تسلك الاتجاه نفسه إذا كان كل فرد فيها يتململ من لمس كتف أخيه؟ كيف تهتف الحناجر بالشعار نفسه وتنادي بنفس المطالب إذا كانت الألسنة منهمكة في تبادل الاتهامات والشتائم؟...

مهمتك صعبة يا دكتور برادعي.
_________________
* نشرت بصحيفة الدستور يوم 23 يونيو 2010

الأربعاء، 9 يونيو 2010

أحلام "طريفة"!

رأيتُ أفريقيا بالعين المجردة دون أن أبرح مكاني في أوروبا.. ولّيْتُ ظهري لمدينة طريفة الإسبانية، وجلستُ علي شاطئ مضيق جبل طارق أراقب بانبهار البيوت المغربية المتناثرة حول أسوار مدينة طنجة علي الضفة الأخري.. لا يوجد ما هو أقرب من هذه البقعة الأوروبية إلي القارة السمراء.. تبحر البواخر بين الساحليْن كأذرع تمتد للمصافحة كل يوم عشرات المرات.. يكاد صخب المدينتين يختلط في الأجواء وهو يرتفع بهتافات الصيد نهاراً وقرع الطبول ليلاً، وتحمل الرياح النشطة في ملتقي البحر والمحيط نداءات التقارب الثقافي بين الأمتين الأفريقية والأوروبية..

لن تجد مفراً من الاستسلام لهذه الانفعالات والخواطر إذا كنت معي في طريفة الأسبوع الماضي، ضيفاً علي مهرجان للسينما الأفريقية، وحولك فخفخينا من الوجوه البيضاء والسمراء تتبادل نظرات الود وعبارات المديح وطرقعات القُبَل.. في لحظة ما تصدق أن القارتين صارتا واحدة بفعل هذه المشاعر المتدفقة في الساحات وبارات الأزقة خلال أمسيات الفلامنكو علي الإيقاع الأفريقي! ترغمك النهود الإسبانية المرتعشة مع دقات الدفوف علي النظر في الأمر! تُسكِرك النسمات الرقيقة فتنسي التاريخ والسياسة، ثم تُرخِي جفنيك وتردد مع «ماني سيزنيروس مانرِك» نشيداً وطنياً جديداً من خيالها ينادي بوطن أورو أفريقي واحد... «ماني» ليست ديبلوماسية أو مدفوعة من مخابرات بلادها لاحتواء الأفارقة.. إنها مديرة المهرجان التي أسسته قبل سبع سنوات، وتجمع حولها فريقاً من المخلصين للفن السابع، بعضهم من أصول أفريقية، والبعض الآخر يميل مثلي إلي ذوات البشرة الداكنة!

قابلتُ «ماني» في نواكشوط العام الماضي عندما كنتُ عضوا في لجنة تحكيم مهرجان الفيلم الموريتاني، بينما كانت هي تجوب أحياء ونجوع العاصمة الفقيرة بآلة عرض سينمائي في الهواء الطلق جاءت بها براً من إسبانيا.. كان المشهد لا يوصف، الفتيات والصبية ينبذون فجأة دُماهم القطنية والخشبية، والسيدات يغادرن عتبات أكواخهن، والرجال يتذرعون بطلب الراحة من غزل شباك الصيد، ويهرع الجميع نحو تلك الشاشة السحرية التي أضاءت لهم ظلام الحي.. صورتُ الدهشة في هذه العيون لتقرير لم يبث، لكنني أشعر بالامتنان لـ «ماني» وزملائها كلما راجعت هذه اللقطات..

لذلك لم أتوان في تلبية دعوتها لحضور مهرجانها الأفريقي في طريفة، ملهَماً بعشقيْن: عشقٍ لأفريقيا التي زرت نصفها، وعشقٍ للسينما التي تحتلني بالكامل.. استهوتني فكرة العناق الثقافي والجغرافي بين القارتين في تلك المدينة الأندلسية القديمة.. ولم لا؟ ألا يتعطش الكثير منا لسلام مع الغرب يجلب المعونات ويمول المشروعات ويوفر القروض؟! لكن.. ما أن مضي يومي الأول في الاستماع إلي الإشادات والوعود وتبادل بطاقات التعارف، حتي عادت إليّ أسئلة تاريخية أخري، جلست هنا علي شاطئ المضيق ـ حيث أكتب هذه السطور ـ أبحث لها عن إجابات، بينما أحاول بين فقرة وأخري تقريب عدسة الكاميرا إلي حدها الأقصي، باحثاً علي الشاطئ المقابل بفضول عن سيدة مغربية تنشر غسيلها، أو طفلٍ يلهو بطائرته الورقية...

كان فيلم (باب ستة) الذي شاهدته بالأمس هو الذي أيقظني من بِنْج المهرجان، الفيلم الذي أخرجه البرتغاليان بيدرو بينهو وفديريكو لوبو يروي في قالب وثائقي قصص شبان وفتيات من شتي الأجناس الأفريقية تجمعوا علي أبواب مدينة سبتة، استعداداً للتسلل عبرها خفية إلي عالمهم المأمول في قارة أوروبا.. ما أكثر هؤلاء! بين عامي 1996 و2006 تضاعف عدد المهاجرين غير الشرعيين منهم إلي إسبانيا وحدها من خمسمائة ألف إلي خمسة ملايين، طردَت الحكومة الإسبانية منهم نحو ستين ألفاً عام 2007، وخلال الأعوام الثلاثة الأخيرة ـ مع ارتفاع نسبة البطالة في إسبانيا إلي عشرين بالمائة بسبب الأزمة الاقتصادية ـ أخذت المشكلة أبعاداً «دراماتيكية» ـ كما تقول منظمات حقوق الإنسان ـ بسبب قسوة السلطات الإسبانية في التعامل مع هؤلاء المهاجرين غير الشرعيين... تعلم «ماني» هذه الأرقام، وتعلم أن بلادها وقّعت اتفاقيات مع سبع دول أفريقية أملاً في لعب دور الشرطي لحماية حدودها، لكن ما حك ظهرَك مثلُ ظفرك.. هكذا يقول الأسبان أنفسُهم، حتي المتحمسين منهم لما سمي بمشروع مارشال لمواجهة الهجرة عن طريق دعم اقتصادات الدول الأفريقية المصدّرة لها...

أي مشروع هذا الذي قد ينتشل أفريقيا من مستنقعها البائس؟ إن هؤلاء يضعون خططهم علي الورق وهم جالسون في غرفهم المكيفة! هل ذهبوا إلي الصومال مثلاً؟ هل شاهدوا كيف أبيدت الدولة هناك عن بكرة أبيها؟ أنا ذهبْتُ إلي هناك مرتين، ورأيتُ كابلات الكهرباء وقد اقتلعت من الأسفلت كي تغرق البلاد في الظلام وتختفي عن الأعين جرائم القتل وضحاياها من الأبرياء.. هل ذهبوا إلي جنوب السودان؟ ذهبتُ أيضاً إلي هناك، وأرشدني جون قرنق ـ قبل اغتياله وقتها ـ إلي أبناء جلدته الموشكين علي الفناء جوعاً وقهراً في القبائل والقري المهمشة.. هل ذهب الطامحون الأوروبيون إلي الكونغو وشاهدوا جثث المدنيين ملقاة في الشوارع بفعل الأمراض وسوء التغذية، والنزاع العسكري بين الحكومة والمتمردين، كلٌ مدعوم ببعض جيرانه علي الحدود..

وماذا عن أريتريا التي شاهدتُ فيها الفقر ولمستُ القمع حتي بعد أن وضعَت الحربُ أوزرَاها بينها وبين جارتها إثيوبيا بسنوات؟ وساحل العاج؟ وبروندي؟ وأوغندا؟ وليبيريا؟ وأنجولا؟ وتشاد؟ والسنغال؟ ناهيك عما فعله الإرهاب في الجزائر، والفتنة الدينية في نيجيريا، والانقلابات في موريتانيا، وغيرها الكثير والكثير...

هل يعرف الإسبان كم أهدرت أفريقيا في تلك الحروب والنزاعات؟ أكثر من خمسمائة مليار دولار... كم من هذا المبلغ يمكنك يا «ماني» أن تدفعي إذا كنت بحق تحبين أفريقيا؟

مهرجان لطيف! كانت هذه هي إجابتي الشافية علي زميلتي في «بي بي سي» عندما سألتني علي الهواء عن رأيي فيه.. مهرجان شيق.. مهرجان مسلٍ.. مهرجان دمه خفيف.. لكن ما الذي يمكن أن تقدمه هذه المغازلات الأوروبية لشعوبنا المهروسة تحت أقدام حكامها؟ تضم قائمة المغازلات ـ غير هذا المهرجان الحافل ـ مشروعاتٍ لتمويل الأفلام وتطوير الفلاحة ومؤتمرات لجذب الاستثمار، بناء كنائس ـ كتلك التي زرتُها في جوبا جنوب السودان ـ للتبشير والتعليم والرعاية الصحية، منظمات إغاثة، «مراسلون بلا حدود»، «أطباء بلا حدود»، طموحات بلا حدود.. وعود بلا حدود.. لكن مشكلة أفريقيا هي هي، بل تتفاقم وتزداد توحشاً.. ولا تريد لها إسبانيا أن تُحَل إلا لكي نخرج من دماغها، ولا نريها وجوهنا أبداً.. لكي نبقي في بلداننا السقيمة إذا توفر فيها الحد الأدني من متطلبات العيش، من وجهة نظر عزيزتي «ماني»...

وأمثال «ماني» طمّاعون، لا يرغبون فقط في أن يتخلصوا منا للأبد، بل يريدون منا أن نحبهم.. يأتون بنا من الضفة الأخري للمضيق، ويحجزون لنا الفنادق الفاخرة، ويوفرون لنا أشهي صنوف الطعام، ويدلعوننا مساء في البارات بالرقص والطبول، ثم يُشِيدون بإبداعات صناع الأفلام المبتدئين من أفقر بلدان أفريقيا.. من أجل أن نقول: ما أطيب هؤلاء! إنهم يؤمنون بقضيتنا، ويسعَوْن بحق لمساعدتنا.. إن معوناتهم لنا لا تتوقف.. جزاهم الله خير الجزاء..

لكن ماذا عن الفاتورة المنسية؟ الفاتورة التي تتبرأ منها أوروبا، رغم أن الدليل علي شرعيتها في كل بيت أوروبي يتزين بتحف أفريقية أصيلة، أو يستظل بشجرة اقتلِعَت بذرتها النادرة من التربة الأفريقية، أو يستثمر في تجارة يعود تاريخها لنهب ثروات أفريقيا واسترقاق أبنائها.. الفاتورة المنسية ثقيلة، ولو فتحت دولة أوروبية واحدة فاتوحة سدادها، ستنقلب الآية، ونبدأ نحن في تنظيم مهرجان لتشجيع الأفلام الأوروبية الناشئة في طنجة!

الفاتورة بنودها لا تحصي ولا تعد.. نريد دية عن كل نفس أفريقية قتلت في عهد الاستعمار، وتعويضاً عن كل مصاب في ذلك العهد، ترك جرحه عاهة أو لم يترك.. نريد تعويضاً عن التجار المسلمين في شمال أفريقيا الذين جردتهم إسبانيا والبرتغال من أملاكهم وتجارتهم وسجنتهم في القرن الخامس عشر لإقصائهم عن سوقهم الطبيعي في بلدان شرق أفريقيا، فحرمتهم وحرمت أحفادهم من العيش الكريم.. نريد استرداد سبتة ومليلية اللتين تحتلتهما إسبانيا من المغرب منذ العام 1497، نريد حقنا في المياه والنفط والمعادن التي شُحِنت إلي دول أوروبا ونحن نئن من بطش احتلالها وغير قادرين علي رفع رءوسنا.. نريد نصيبنا في كل طفل أوروبي تعلم علي حساب جهلنا، وكل مريض أوروبي عولج علي حساب أمراضنا وأوبئتنا، وكل بناء أوروبي شُيّد بسواعد أحرارنا المستعبدين.. نريد ما هو أكثر من مجرد مهرجان وحفل صاخب وبطاقة تعارف عليها كود إسبانيا.. نريد اعترافاً بحقوقنا التي نُهِبَت في عقود الاستعمار، وفضحاً للأنظمة العميلة، التي ما زالت تقتات من هذه الدول الاستعمارية لمواصلة امتصاصنا واسترقاقنا.. وردّاً لكل قرش سُرق من جيوبنا ونحن أذلة مجردون من السلاح.. وقبل كل ذلك نريد رد اعتبار يفوق وجبة غداء علي شاطئ مضيق جبل طارق أو كوبون مشروب مجاني كالذي رفضتُ تسلمه من المهرجان.. نريد حقنا في الريادة علي العالم، نحن الأحق بمقعد دائم في مجلس الأمن، نحن الأولي بحق الفيتو، نحن الأجدر بالقوة والاحترام.. لم تتكبد أمة في العالم أشد مما تكبدته أفريقيا.. الأفارقة يعرفون معني الفقر والأمية والعزلة والموت جوعاً.. نحن الذين قُطِعت أيدينا كي لا تحمل السلاح، وجُرّفت حقولنا كي نكف عن المقاومة.. واغتصبت نساؤنا كي ننكسر ولا نجرؤ علي رفع أصواتنا، لكننا مع ذلك تحررنا بشرف وحققنا الاستقلال، ولم يكن ذلك علي حساب أحد، ولم ننهب في سبيله حقوق أحد.. ألا ترين معي يا «ماني» أن الموضوع أكبر من مجرد مهرجان، وأكبر من كل هذه المشروعات الأوروبية ذات العناوين الرنانة من أجل ما تسمونه مساعدة أفريقيا؟

«ماني» مشغولة.. تركتُها مع مساعديها هذا الصباح علي مقهي في شارع شانتشو أل برافو منهمكة في تقييم العروض ودقة تنفيذ المهرجان، وواصلتُ طريقي باتجاه كنيسة القديس متّي التي تتصدر الشارع الضيق.. كانت أوجاع أفريقيا لم تستيقظ في قلبي بعد.. دخلتُ إلي الكنيسة برغبة سائح يطابق ما قرأه عن معالم المدينة مع الواقع البديع.. هذه الكنيسة شيدها الإسبان في القرن السادس عشر علي الطراز القوطي وأعيد تصميم واجهتها في القرن الثامن عشر.. لا تختلف الكنيسة عن الكنائس المسيحية التي زرتها في بريطانيا، لا شك أن نقوشها لافتة، وزخارفها المطلية بالذهب تخطف الأبصار، وهو ما آخذه علي أتباع دين تكمن عظمته ـ مثل الإسلام ـ في دفاعه عن الفقراء والمسحوقين.. لكن ما عكر صفو زيارتي أنني أخرجت من جيبي صفحة مطبوعة من الإنترنت حول معالم المدينة لأراجع تاريخ الكنيسة، فإذا بي أكتشف أن هذه الكنيسة بالذات بنيت علي أطلال مسجد من العصر الأندلسي، كما هو الحال مع كنيسة القديسة مريم الملحقة بقلعة جوزمان بجوار ميناء طريفة، والتي شيدت هي الأخري علي أنقاض مسجد من القرن العاشر الميلادي.. يا له من صباح! هل كان عليّ أن أتذكر خيبتنا في طريفة؟ وكْستنا نحن العرب والمسلمين تلاحقني حتي في أقصي الجنوب الأوروبي؟

جلست علي إحدي الأرائك الخشبية الأنيقة في صحن الكنيسة، ممعناً النظر في المحراب الحافل بالشموع، وشارداً في تاريخ الأندلس الذي لم يعد البكاء عليه شيقاً.. تذكرت الحقائق كمن يردد نصاً أُعِد سلفاً.. جاء القائد الشاب طارق بن زياد إلي هذه البلاد في القرن الثامن وضمها للدولة الأموية.. بعد سنوات قليلة كانت الفتوحات قد امتدت شمالاً إلي وسط فرنسا وغرب سويسرا، وغرباً إلي لشبونة.. كما كانت الفتوحات الموازية في أفريقيا قد بلغت قلب القارة وضمت خيرة أبنائها إلي جيش الدولة العتيد.. لكن الثقافة كانت دائماً هي الحلم في قلوب الحكام الأمويين خلال أكثر من مائتي عام، من صقر قريش إلي هشام بن الحكم.. ازدهر الأدب والفن والعمارة، وشُيّد مسجد قرطبة، وأحيطت المدينة بأسوار عالية وأنشئت بها المدارس والمنتديات والمكتبات والحدائق، وكانت تضاء ليلاً بمصابيح الإنارة لمسافة ستة عشر كيلو متراً... ثم زرع شيطان الضعف والأفول بذرته في نفوس أمراء الأندلس، فأعلن كل منهم استقلاله بإحدي دويلاتها، مما أغري بالهجوم الإسباني الكاسح، وسقطت غرناطة عام 1492، ومعها سقطت الأندلس وحلم القوة العربية إلي الأبد..

أطرقتُ برأسي في حسرة معتادة، نظرت بعمق تحت قدميّ وكأني أريد أن أنبش في الأرض.. يا تري كم من المسلمين قتل هنا؟ وكم من الدماء أريقت في المسجد المهدوم؟ وماذا كان دعاء المقتولين؟ وعلي من؟ وهل هو نفس دعائنا اليوم علي قادتنا الضعفاء الفاسدين؟ ارتفع بنيان الكنيسة علي بقايا المسجد، وشاخت الكنيسة فأعاد الإسبان تجميلها.. ثم بَهَتَ لونها من جديد وبدت علي وجهها آثار الزمن، وسوف يعاد ترميمها بالتأكيد.. أما نحن فشيخوختنا مصير لا نهائي، هي محطتنا الأخيرة التي سنبقي فيها إلي يوم القيامة.. منذ نهاية القرن الخامس عشر لم تقم لنا قائمة.. نتقدم للوراء، ونخسر كل يوم أرضاً جديدة.. حتي ماء النيل صار بعيد المنال.. فقدنا الأندلس في أوروبا، ونفقد النيل في أفريقيا، ولم يعد لنا أصدقاء في القارتين، إلا من تجمعه بحكامنا مصلحة شخصية تضمن لهم البقاء..

خرجتُ من الكنيسة بنقمة بالغة علي حالنا، وببعض الصور الفوتوغرافية، لعلي أدقق فيها لاحقاً فأجد أثراً لمنبر أو مشكاة!

رحلتي إلي طريفة كشفت لي مقدار الفشل المحيط بأمتنا العربية والأفريقية علي السواء.. واستعلاء أوروبا وتنصلها من مسئولياتها الحقيقية تجاهنا.. وقناعتنا الساذجة ـ نحن العرب والأفارقة ـ بفعاليات أوروبية تصحح قشور أخطائهم بحقنا.. لكننا ننسي دائماً لب المأساة، أما هم فيتناسون..

تحلم إسبانيا بأن تعالج مرضاً فتاكاً بحبة إسبرين.. تفخر ـ كشقيقاتها في أوروبا ـ بمكانة المنتصرين، وإللي عندنا نعمله.. ما الذي ينبغي عليها فعله أكثر من مهرجان للسينما الأفريقية؟ ستتناقل وسائل الإعلام الخبر، وتتردد سيرتها الحسنة علي كل لسان كراعية للفن الأفريقي، ومُحَفِزة للمبدعين الأفارقة علي البقاء في بلدانهم وإصلاحها من الداخل.. حتي شبر الأرض الذي يحلم به مهاجر أفريقي بائس طمعاً في حياة أفضل لن يحظي به.. بالأمس دخل الأوروبيون بلادنا وعاثوا فيها فساداً ونالوا منها كل ما أرادوا.. واليوم حرام علي الأشقياء المحرومين أن يستردوا من حقوقهم قطرة..

الحال كله مقلوب.. لا علي أوروبا أن تفتح أبوابها لكل من هب ودب، ولا علي أبنائنا أن يخاطروا بحياتهم مهاجرين متسللين متسترين بالظلمات.. لكن علي أوروبا فقط أن تسدد ديونها لنا، وعلي حكوماتنا أن تكف عن التبعية والمزايدة، وتتخلص من لعنة أمراء الأندلس المهزومين...

وقبل ذلك لن تكون الوحدة بين الأمتين الأفريقية والأوروبية صادقة.. ولن يتحقق حلم طريفة في دمج القارتين في مدينة واحدة، حتي لو كانت بهذه المياه الصافية، والرمال الناعمة، والهواء العليل...

أترك القلم جانباً لأليّن أصابعي المجهدة من الكتابة.. أمسك بالكاميرا وأصوبها باتجاه طنجة.. أقترب بالعدسة أكثر فأكثر... لماذا لا أري سيدة تنشر غسيلها أو طفلاً يلهو بطائرته الورقية؟

____________________
* نشرت بصحيفة الدستور يوم 9 يونيو 2010