الثلاثاء، 31 أغسطس 2010

الوثائقيون الجدد


للأفلام الوثائقية في العالم العربي تاريخ وسوق وقناة، فهل لها تأثير على المجتمع؟ قد يجد البعض سؤالي غريباً إذا كانت قناة الجزيرة تنفق بالفعل مئات الألوف من الدولارات كل عام على شراء وتمويل الأفلام الوثائقية وبثها على قناتيها الإخبارية والمتخصصة، وكثير من صناع هذه الأفلام اكتسبوا شهرة النجوم، كما أن أغلب القنوات الفضائية العربية تسير على درب نظيراتها في الغرب، وتولي هذا اللون اهتماماً كبيراً على خرائطها البرامجية.. فما فائدة السؤال؟

بنظرة على نظم الرقابة على التصوير الميداني، وشروط التمويل، ومعايير البث على قنوات التليفزيون، يجد صانع الفيلم الوثائقي نفسه في مأزق، فإما أن يتجنب التصوير في العديد من الأماكن (مثل أقسام الشرطة والمصالح الحكومية)، ويتخلى ولو جزئياً عن رؤيته الخاصة، ويبلغ منزلة الكمال في جودة الصورة والإخراج، أو أن يبقى عمله قيد التعديل والمراجعة من أصحاب القرار، وقد لا يرى النور على الإطلاق. يؤدي ذلك إلى حرمان المجتمع من مناقشة قضايا حيوية، وحرمان المشاهد من استيعاب أنماط فنية جديدة، وحرمان صانع الأفلام من التجرؤ على الأشكال التقليدية المطلوبة في سوق الفيلم الوثائقي العربي.. تؤثر الأفلام الوثائقية في المجتمع على هذا النحو بالقدر الضئيل الذي يؤهلها إليه سقف الحريات المنخفض في كل شئ.

جاء الإعلام الحديث ليوفر الحل.. فمن بين معالمه البساطة، ومن أهم سماته التفاعل، وفي مقدمة آثاره الانتشار: بامتلاك هاتف محمول مزود بكاميرا وموصول بالإنترنت يمكن الآن صناعة فيلم وبثه على العالم في الحال.. فنياً قد لا يضارع المنتج مستوى تلك الأفلام التي نراها على قنوات الجزيرة الوثائقية وديسكفري وناشيونال جيوجرافيك، لكن بالتأكيد سينطوي هذا المنتج ـ موضوعياً ـ على فتوحات اجتماعية عجز الفيلم الوثائقي التقليدي عن إحرازها في الماضي، ومن الأمثلة الجلية على ذلك، إنتاج أفلام وثائقية بهذا النمط العصري حول العنف في أقسام الشرطة، أو العنف الأسري، أو شيوع المخدرات في المدارس والنوادي الرياضية.. المصور سيصل إلى عمق هذه المحافل وسيلتقط ما شاء من صور ـ مع مراعاة المبادئ الأخلاقية ـ دون أن يعاني ما يعانيه المحترفون، بمعداتهم الثقيلة، وحاجتهم للحصول على تراخيص بالتصوير وفقاً لشروط معنية.. المتلقي سيتمتع في الحالة الأولى بمزيد من الصور الواقعية التي تسمح له بالتعرف على عالم جديد لأول مرة عن قرب.. الفرق واضح.

لم يعد المتلقى يكترث بجودة الصورة.. الحد الأدني صار يكفي إذا كان مضمون اللقطة فريداً. وهو ما جعل قنوات التليفزيون تدرس بث هذا النوع من الأفلام، الذي صار إنتاجه سهلاً، فأتاح للهواة فرصة نادرة للالتحاق بركب المحترفين، مما أثري عالم الفيلم الوثائقي بأفكار تنبع شخصياً من المستهلك، الذي يعلم احتياجاته أكثر من المنتج.. إنه (المنتهلك) إن صح الوصف!

شجعت هذه القناعة الكثير من الهواة على تعلم أصول الصنعة، كما دفعت الكثير من المؤسسات الإعلامية إلى تنظيم ورش لتدريب الهواة وأنصاف المحترفين على صناعة أفلام وثائقية، وخير مثال على ذلك الورشة التي نظمها لهذا الغرض مركز الإبراهيمية للإعلام خلال شهر ديسمبر 2009 وشرفت بالتدريس فيها، وأثمرت نحو عشرة هواة تمرسوا على قواعد هذه الصناعة، ودخلوا إلى معترك المهنة من بوابتها الخلفية: بوابة الإعلام الحديث.

كم من الأفلام الجريئة سنشاهد؟ وكم من القضايا المثيرة سنناقش؟ وكم من الموهوبين سنعرف؟ هذه هي الأسئلة التي سيجيب عليها المستقبل، إذا ما منحنا هذه الظاهرة فرصتها للازدهار.

مع طلاب ورشة مركز الإبراهيمية للإعلام

الاثنين، 23 أغسطس 2010

مضغ شعارات المعارضة!


المواظبون مثلي على متابعة أخبار الاعتصامات والوقفات الاحتجاجية في مصر ساءهم انشغال الناس بشهر رمضان.. فالنهار الذي كان قبل أقل من أسبوعين موعداً ثابتاً للهتاف ضد الحكومة والنظام، صار الآن وقتاً للاسترخاء، تراجع الحديث فيه عن البرادعي ومطالبه السبعة، وبات الجميع مشغولاً بمقاومة العطش والتندر بحرارة الطقس.. لكن التليفزيون المصري بقنواته الرسمية والخاصة لم يحرمنا فرصة مواصلة الاندماج في هذه الأجواء الاحتجاجية الشيقة، فمن لاذ ببيته وغاب عن رصيف مجلس الشعب ـ الذي نزل بضيافته معظم المعتصمين خلال الأشهر الفائتة ـ عليه فقط أن يجلس أمام شاشة التليفزيون في رمضان، ويضغط على أزرار الريموت كونترول واحداً بعد الآخر، لينعش سخطه على الحكومة، ويجدد غضبه على النظام، ويراجع ما ذاكره في بيانات التغيير.. حتى إذا انتهى الشهر الفضيل، عاد إلى مظاهراته وهتافاته حاضر الذهن وكأن شيئاً لم يكن!! كل ذلك على التليفزيون المصري؟؟ نعم..! أليس تابعاً للحكومة وخاضعاً لإشرافها؟ بكل تأكيد..! وما مصلحته إذن في نشر (ثقافة الاحتجاج) التي تستهدف النظام وتضر باستقراره وديمومته؟؟ آه.. هذا هو السؤال.. الآن استرخ كما تفعل كل نهار، واترك لي مهمة البحث في هذه الظاهرة الفريدة في عالم الدعاية (الجوبلزية)، إن جاز التعبير!

حوار صريح جداً

إذا لم تكن من الحريصين على أداء صلاة "التروايح" الرمضانية في جماعة، فإنك حتماً ستتورط في مشاهدة نجوم السياسة والفن على التليفزيون، وهم يصطنعون الحيرة والتردد أمام المذيعة منى الحسيني في برنامجها الذي يوصف بالجريء (حوار صريح جداً).. وهو من البرامج التي أراد بها التليفزيون المصري في نهاية التسعينات أن يضارع القنوات الفضائية العربية في التظاهر بالحرية المطلقة وتجاوز الخطوط الحمراء، لكن إدارة التليفزيون عادت إلى رشدها بعد بضع سنوات، وأوقفت البرنامج فجأة على نحو أغضب منى الحسيني.. فشدت رحالها إلى قناة (المحور) المملوكة لرجل الأعمال حسن راتب، ومنها إلى قناة (دريم) المملوكة لرجل الأعمال أحمد بهجت.. ورغم أن القطبيْن البارزيْن مقربان من السلطة، إلا أن الحسيني تمتعت في ظلهما بحرية ملحوظة في اختيار وتناول قضاياها، ولقيت في المقابل استحساناً من الجمهور المتعطش للنقد، وإن ظلت دائماً من رواد مدرسة الانحياز لطرف دون آخر، وإبداء رأيها الشخصي على الشاشة، بحجة أنها ـ أي المذيعة ـ (تتحدث بلسان الناس) على حد قولها لإحدى الصحف! فإذا أضفت إلى ذلك صوتها العالى وأداءها العدواني في أغلب الأحيان، ستتخيل ـ رغماً عنك ـ في لحظة ما أنك تراقب بتأفف خناقة في الشارع وليس (حواراً صريحاً جداً) كما يدعون!! يعود البرنامج إلى التليفزيون المصري هذا العام، مقابل أجر خيالي للمذيعة، ونسخة مجانية لقناة دريم، وسقفاً أعلى لحرية محسوبة بالورقة والقلم.. فماذا يقدم لمشاهديه؟..

دعت منى الحسيني النائب البرلماني المثير للجدل رجب هلال حميدة إلى البرنامج قبل أيام.. وهو من رجال السياسة الذين دسوا أصابعهم في كافة أطباق المعارضة المتوفرة في بوفيه السياسة المصرية المفتوح، ابتداءاً بالجماعات الدينية المتشددة ـ بل والإرهابية بحسب اعترافه ـ إلى حزب الأحرار، ومروراً بالتردد على عدة أحزاب أخرى عملت على استقطابه، وانتهاءاً بحزب الغد الذي دخله نصيراً لزعيمه أيمن نور، لكنه سرعان ما اشتبك معه في حرب على زعامة الحزب.. وبما أن نور ـ الذي كان يوماً ما من المقربين للرئيس مبارك والأجهزة الأمنية ـ صار من ألد خصوم النظام بعد خوضه انتخابات الرئاسة الماضية، فإن معركة حميدة ضده حظيت بتشجيع وتصفيق من الإعلام الرسمي.. غير أن منى الحسيني نالت الضوء الأخضر كي تخرج عن الصف وتشذ عن هذا الالتزام، فإذا بها تقول لضيفها على بلاطة: أنت من المعارضة المستأنسة!! وأكاد أجزم أن هذه هي المرة الأولى التي يعترف فيها التليفزيون الرسمي بوجود مثل هذه المعارضة أصلاً.. بل ويأتي هذا الاعتراف ـ على لسان المذيعة المدللة ـ في إطار استجوابها للنائب بشأن علاجه على نفقة الدولة رغم ثرائه.. تساءل حميدة بثقة وفخر: كيف أرفض عرضاً كريماً كهذا من الرئيس مبارك شخصياً بعد أن دعاني لزيارته في قصره وقضيت معه ساعة ونصف الساعة؟ ألا يكون ذلك عيباً وقلة ذوق؟؟ فتلاحقه الحسيني باستنكار: أم هي (تورتة)، كل واحد عاوز ياخد نصيبه منها؟!!

لا تأتي منى الحسيني بجديد، فهي تعيد ما دأب الإعلام الخاص والمعارض والمطالبون بالتغيير وفضح الفساد على ترديده حتى الأيام الأخيرة قبل شهر رمضان، حيث كانت قضية العلاج على نفقة الدولة هي المادة الخام لكثير من المظاهرات والاعتصامات، بعد الكشف عن تواطؤ مسؤولين حكوميين ونواب برلمانيين في إهدار نحو 350 مليون جنيه مصري (أكثر من 60 مليون دولار) من ميزانية العلاج على نفقة الدولة، استفاد منها في المقام الأول وزراء ورجال أعمال مقتدرون..

ظن المغفلون أن الحكومة عينها انكسرت، وأنها ستداري على الفضيحة، لكن الحقيقة أن الحكومة عينها جرئية، بل وأجرأ مما كانت عليه في أي عهد.. وأن سياسة الإعلام المصري الرسمي تتجه الآن إلى (استهلاك المعارضة)، ومضغ شعاراتها كالعلكة!! مثل هذا الموقف البطولي للتنديد بالفساد، والذي يفاخر المعارضون بتبنيه حصرياً، سيتقاسمه معهم الإعلام الرسمي، بل ويكرره على الأسماع ليل نهار، إلى أن يتحول إلى مسلسل ممل ومعاد، فيعرض عنه المتفرجون، ويبحثون عن مسلسل غيره..


السائرون نياماً

يذيع التليفزيون المصري في رمضان مسلسلاً مأخوذاً عن رواية المبدع سعد مكاوي، تحمل عنواناً يصف حال الشعوب العربية في استسلامها غير المشروط للفساد والاستبداد.. (السائرون نياماً) رواية بديعة ترجمها بمهارة إلى اللغة التليفزيونية السيناريست مصطفى محرم، وحقق لها المخرج محمد فاضل معادلاً بصرياً ثرياً ومدهشاً.. وأحداثها تدور خلال الثلاثين عاماً الأخيرة من حكم المماليك، فهل هي صدفة أن تُبث على الشاشة مع نهاية العام الثلاثين من حكم النظام الحالي في مصر؟ ستفكر مثلي في هذه المفارقة إذا تأملت في تفاصيل العمل وعينك على ما يجري في الشارع المصري.. فالفنانة المخضرمة فردوس عبد الحميد (البطلة المفضلة لدى زوجها محمد فاضل) تجسد شخصية (زليخة) زعيمة (البهاليل)، وهم المتدينون الزاهدون الذين يلعنون القصر في حلقات الذكر والتسابيح، ويؤلفون خلية للمقاومة الشعبية ضد الحاكم (أي أنهم يخلطون الدين بالسياسة)، لكن الجارية جولشان تعترف: الناس بتحبهم وبتسمع كلامهم... (ألا يذكرك ذلك بالإخوان؟).. وفيما تقول زليخة لأحد مريديها: لازم ناخد حقنا بإيدينا، بس لازم يكون فيه عدل...! وتضيف: الوقت المناسب اللي بنحضرله ونستناه لسه مجاش!! يرد الفتى بلسان حال شباب اليوم المتعجل للتغيير: وياترى حنشوف الوقت المناسب ده، ولا ولادنا اللي حيشوفوه؟... لا تنتهي إسقاطات المسلسل على الوضع الراهن عند هذا الحد.. فهناك أزمة قمح، تماماً كالتي ضربت مصر قبل أسابيع، والفساد الذي تغلغل في أرجاء السلطنة، والفقر الذي يشجع الناس على الهجرة، ومنهم هذا الفلاح الذي خدم لدى الإقطاعيين (رجال الأعمال) أربعين عاماً، لكن زوجته تتمنى لو أنهم (هاجروا زي "وداد").. فيعلق الزوج متأملاً: ومين قالك إنها مبسوطة؟ لكن الزوجة البائسة تتنهد وترد بيأس: أهو كنا تُهنا في الزحمة وعرفنا نربي أولادنا...

سعد مكاوي نشر هذه الرواية في منتصف الستينات، وعندما انتبهت لقيمتها الأوساط الأدبية، فسرتها على أنها إسقاط على فترة ما قبل هزيمة عام 1967 والعوامل التي مهدت لها، وعلى رأسها التناحر بين مراكز القوى داخل مؤسسة الحكم الواحدة.. الآن تعود إلينا الرواية بإسقاط جديد، يطوعه في قالب عصري الكاتب المعروف بثوريته مصطفى محرم في ضوء التململ الشعبي والحراك السياسي في مصر، ويلخصه الشاعر جمال بخيت في تيتر النهاية بأغنية نارية، يتقاسم غناءها على الحجار وفردوس عبد الحميد، تقول كلماتها: حسك عينك.. تكتم حسك تقفل عينك.. قوم يا أخينا وسدد دينك.. حرر نفسك بحر وبر!

هل صبأ التليفزيون المصري؟ هي ارتد عن "حكوميته"؟ هل تراجع عن ملكيته؟ بالقطع لا.. بل ما زال يعمل جاهداً على سد الطريق أمام قوافل المعارضة الجامحة، وتعبيده في نفس الوقت أمام استقرار وديمومة النظام الحالي، ولكن الركض وراء المعارضة وحركات التغيير أصبح موضة قديمة.. جيل الحكام الجدد في مصر صار أصغر سناً، ومستشاروه الإعلاميون لديهم صفحات على الفيس بوك.. وحيلتهم في التصدي لخطاب المعارضين لم تعد الهجوم ولا حتى المناقشة وتداول الأفكار والمطالب، بل ترديد نفس الخطاب بشكل هزلي إلى أن يبلى ويفقد قيمته.. ويعتقد الناس أن من حقهم انتقاد النظام في ظل النظام، وأن رفع الصوت بالمعارضة لا يعني إنكار الولاء..

الجماعة

فرحت في الإخوان عندما شاهدت مسلسل (الجماعة)، فقد تلكأوا سنوات في إنتاج عمل درامي يروي سيرة إمامهم حسن البنا.. ظلوا يعيدون ويزيدون في أخبار التحضير لمثل هذا العمل حتى سبقهم وحيد حامد بقلمه الساحر وفكره المنحاز، وقدم هديته للنظام الحاكم في موعدها، مع بدء حملة واسعة وقوية لحشد التأييد الشعبي لجمال مبارك رئيساً للبلاد، وإعلان الإخوان دعمهم للدكتور محمد البرادعي الذي يعارض هذا الترشيح في ظل الدستور الحالي.. لكنني فرحت أكثر لأننا دخلنا بهذا المسلسل عصراً سبقنا الغرب إليه، يعبر فيه كل تيار عن وجهة نظره في التاريخ بالأداة التي يتقنها ويقدر على تكاليفها.. لن تجد عملاً درامياً تاريخياً معصوماً من التحيز.. لكن هذا هو عصر الدراما.. وليحتكم الجمهور إلى وعيه...
____________
* نشر في صحيفة القدس العربي يوم 23 أغسطس 2010