الخميس، 2 سبتمبر 2010

إفطار على الوجع.. و"بحة" نور الشريف!


لطالما كفكفت دموعي وأنا أشاهد فيلماً حزيناً، وانقبض صدري وأنا أتسمر أمام مشهدٍ سينمائي مروع، وتسارعت أنفاسي وأنا أتابع لقطة مثيرة ونابضة.. السينما تأسرني، وتهيمن على مشاعري، وتسلب مني الواقع، وتستبدله بعالم آخر مواز، أتوحد معه وأنا أحد صناعه، أتوه فيه وأنا عالم بأسراره.. ظننت منذ تعلقت بالسينما أنها الوحيدة القادرة على احتوائي، وأنني لن أخونها أبداً مع فنٍ آخر، مهما بلغ سحره وجماله.. لكن مسلسلاً تليفزيونياً غرر بي، واحتال على وجداني، واستدرج قلبي كي أضاجع مشاهده المؤثرة وقصته الفاتنة.. أنا الخائن!




(حارة) سامح عبد العزيز

كان الجسر الذي حملني من ملكوت السينما الخالد إلى دنيا التليفزيون العابرة هو سامح عبد العزيز.. اختطفني هذا المخرج الشاب بمهارة وحرفية من فيلمه (الفرح) إلي مسلسله (الحارة)، لأجد نفسي محاطاً بذات العذوبة والجاذبية السينمائية، ولكن بأدوات تليفزيونية بلغ التمكن منها ذروته.. (الفرح) الذي انتهى إلي (مأتم) في الفيلم، واصل في المسلسل كآبته، فالواقع التعيس الذي يعيشه سكان الحارات والأزقة في مصر هو ينبوع سامح عبد العزيز الذي نهل منه في الفيلم (2009) والمسلسل (2010) على السواء: الجدران هنا وهناك تمزعها نفس الشقوق والتصدعات، جروح البشر هي هي، الحزن المكتوم، الحسرة، الوجوه الخالية من المساحيق.. سامح عبد العزيز استعار من السينما ألوانها الخصبة، وزين بها حارته التليفزيونية الحزينة، فبدت الصورة كعروس تسير في جنازة..

ما أن يرتفع أذان المغرب، وأشرع في تناول فطوري، حتى تبدأ (الحارة) على إحدى القنوات المصرية.. أشرد كالعادة في كلمات التتير بصوت المغني طارق الشيخ: آه يا زمان يا مفركشنا.. ماسبتناش ولا يوم عشنا.. عمال يوماتي تقرمشنا.. حتت حتت وتاكل فينا.... أمضغ الطعام ببطء وأنا أسبح في تلك الأبيات الجريحة، أتخيل كل يوم وجهاً جديداً لأحد البائسين الذين أعرفهم، وهو ينطق بها.. ثم سرعان ما أعود إلى اللقطات الحقيقية التي اختلستها كاميرا مدير التصوير جلال الزاكي من الحارات الشعبية في مصر القديمة، والوجوه التي سحقها القهر والفقر، لكنها مع ذلك تبتسم!!


ينتهي التيتر، وأدخل إلى الحارة الضيقة ذات البيوت المتلاصقة.. فأرى بائعة الخبز سوسن بدر، وهي تجمع فضلات القطن من أمام ورشة المنجد كي تحشو بها وسادة ومرتبة تُزوِّج بهما ابنتها، فيما تحاول صرف أحد الكلاب الضالة التي تطمع مثلها في قطعة قطن بالية.. ثم أراها وهي ذاهلة أمام الحريق الذي شب في قطنها يوم التنجيد المنتظر بسبب "لمبة جاز"، يندفع سكان الحارة لإخماد الحريق إلا هي.. سعادتها انطفأت مع اندلاع اللهب، لسانها انعقد، دموعها تحجرت، لكن عينيها تصرخان في صمت، وتستحثان دموعي، فأترك الملعقة من يدي، وأعجز عن ابتلاع الطعام.. إنه إفطارٌ على الوجع!

أسمع نحيب سلوي خطاب، العانس التي تصعد على أكتاف المتظاهرين بحجة الهتاف، كي تُشبِع قليلاً من شهوتها.. إنها تبكي لأن الرضيعة ـ التي عثرت عليها ذات مساء بجوار سلة القمامة وأودعتها الملجأ ـ كبرت، واشتاقت لوالدها المجهول، وها هي تكتب له رسالة تلح على سلوى في تسليمها إليه.. تصفعني عبارات الرسالة، ويبهرني أداء الطفلة، وأصدق دموع سلوى خطاب...

يتردد صوت الشيخ تمام (صلاح عبد الله) وهو يعظ المصلين، ويردد بين فينة وأخرى: وحد الله من قلبك يا سِيدي! وأجد نفسي أستجيب، كما لو كنت أجلس بينهم في المصلى.. لا أتعاطف مع تشدده، لكنني لا أكرهه.. ولا أقتنع بخطابه الضحل، لكنني أرى في مريديه إيماناً حقيقياً به.. يدعوهم إلى الدين وهو الذي أخفق في تنشئة ابنه أحمد فلوكس عليه.. فلوكس يحيي أفراح الحارة، ومنها يحصل على فرصته الأولى كمطرب محترف.. يطرده الأب من منزله، ثم يسقط مغشياً عليه عندما يرى أفيشاً بصورته في الشارع.. أما زوجته عفاف شعيب فلا حول لها ولا قوة.. ترتدي واحدة من عباءتيها القاتمتين، وتتبعه في خضوع وذلة إلى أحد الجيران في الحارة للمواساة أو التهنئة..

هذه هي نيللي كريم بائعة المخدرات المحجبة، التي يدفع بها عشيقها أمين الشرطة باسم السمرة إلى السجن.. وها هو محمود الجندي الذي لا يفارق نرجيلة الحشيش.. ومحمد أحمد ماهر الذي أدمن اصطياد الفتيات عبر الإنترنت.. وسلوى محمد على الجارة المسيحية الودودة.. وفتوح أحمد الذي طبع بصمات والده الميت على مبايعات وهمية ليستولي على إرث شقيقته.... وجوه مصرية، لا يجمع بينها سوى الاحتياج والطموح المتعذر.. ونسيجٍ درامي أجاد حياكته السيناريست أحمد عبد الله، ونفخ فيه الروح مهندس الديكور إسلام يوسف..
عندما تنتهي الحارة، عادة ما أنظر إلى أطباقي فأجدها كما هي، لكنني أكون قد فقدت شهيتي، ليس فقط إشفاقاً على أبطالي التعساء، وإنما ندماً على خيانتي للسينما... لولا أن الحارة تستحق!

(عار) مصطفى شعبان

قبل منتصف الليل، تنادي عليّ أمي: العار حتبدأ..! أترك كتبي وأوراقي، وأخرج من كهفي، بينما أسمع كلمات أيمن بهجت قمر بصوت المطرب آدم في التيتر: قولوا للي أكل الحرام يخاف.. بكره اللي كله يفسده.. يابا الغني بالحرام لو شاف.. ابن الحلال يحسده...




تناسب هذه القصة أيامنا هذه.. كما كانت تناسب بداية الثمانينات ـ وقت ظهورها في الفيلم لأول مرة ـ عندما كان المرتزقة يتكالبون على حصد ثمار الانفتاح.. اليوم يخشى الأغنياء من نضوب ينابيع الثراء، ويشتد الجوع على المحرومين فيأكل بعضهم الحرام.. صارت حكاية (العار) مثل آدم وحواء.. قصة سارية المفعول في كل زمان ومكان، يطوّعها للمسلسل هذا العام السيناريست أحمد محمود أبوزيد عن فيلم والده الذي حمل نفس العنوان عام 1982، لكن بأحداث مختلفة، وأبطالٍ حاول بعضُهم محاكاة الأصل ففشل، وتعاطى البعض الآخر مع جوهر القصة فنجح بأدائه في إحياء حكمتها.. ولو وزعتُ الأبطالَ الجدد على سلم الإقناع، ستحتل عفاف شعيب (الأم) الدرجة الأولى بلا شك، يليها حسن حسني (الأب) في الدرجة الثانية، ثم أحمد رزق (سعد) في الدرجة الثالثة.. بينما أفرط شريف سلامة (أشرف) في التظاهر بالحزن والفتور، فبدا مملاً ومنفراً.. كما أسرف مصطفى شعبان (مختار) في تقليد نور الشريف، فحرم نفسه من شخصية جديدة في مسيرته الفنية كان يمكن أن يثريها وتثريه.. والأمر نفسه ينطبق على الممثلة التونسية درة (سماح)، التي تفتقد أساساً لموهبة التمثيل، فاجتهدت في نسخ شخصية الفنانة نورا، التي جمعت في الفيلم بين جمال ونبل بنت البلد، لكن لا أفلحت درة في المحاكاة، ولا نجحت في أقناعنا ـ على الأقل ـ بأنها مصرية..

أتابع المسلسل لأنني أحببت الفيلم، وأود أن أعقد المقارنة بينهما للنهاية، لكنني أشعر في مشاهد مصطفى شعبان بأنني أتجرع دواءاً مراً.. بحة صوته تستفزني، وتحديقة عينه تثير اشمئزازي.. يحاول المسكين أن يتقمص بهما شخصية نور الشريف في الفيلم، لكن هيهات.. هذا هو مصير كل من أراد أن يختصر الطريق بسرقة إبداعات الآخرين، وهذا هو العار الحقيقي في المسلسل...

اســترجل

بين كل فاصل إعلاني وآخر، فاصل إعلاني.. القنوات المصرية مصابة بحمى الإعلانات منذ فترة، لكنها في رمضان تتحول إلى هستيريا بلا حدود، ويأمل التليفزيون المصري في أن يتجاوز عائد إعلاناته هذا العام 150 مليون جنيه (حوالي 30 مليون دولار).. وهو ما يفسد على المشاهد متعة مواصلة أحداث المسلسل دون انقطاع، فيضطر مثلي لمشاهدة الإعلانات رغماً عن أنفه، حتى لو كان أحدها ينصحه بتناول مشروب من الشعير، ثم يأمره مستنكراً بصوت أجش: استرجل!! أو يزايد بدموع سيدة فقيرة فازت برحلة عمرة من شركة لمساحيق الغسيل، فتقول وقد احمرت وجنتاها من الانفعال: هذا المسحوق حاسس بينا!! أو إعلانٌ يجمع ستة نجوم يرددون جملة موسيقية رقيقة تستمتع بها، إلى أن تسأل نفسك فجأة: يا ترى كم تقاضى كل من هؤلاء في هذا الإعلان؟ فتشعر بخيبة الأمل!! الإعلان الوحيد الذي يستحق المشاهدة والتقدير هذا العام لعب بطولته ماجد الكدواني، ليس فقط لعفويته في الأداء، ولكن لفكرته المبنية على رغبته في الاستفادة بما يحتاج إليه فقط.. فإذا كان لا يقرأ صفحات الرياضة، لم لا يسمح له البائع بشراء نصف الصحيفة فقط؟ وإذا كان نصف البطيخة أقرعاً، فلم لا يكتفي بشراء نصفها الأحمر؟!!



________________
* نشرت بصحيفة القدس العربي يوم 2 سبتمبر 2010

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق