الثلاثاء، 9 يونيو 2009

الاستعداد لنهاية الجولة الأولى!

ما أن استيقظت من النوم أمس، حتى أرسلت أخيراً نسخة الفصل الأول إلى البروفيسور جون المشرف على رسالتي، بعد الانتهاء من تنقيحها وتنفيذ التصحيحات اللغوية المحدودة التي أوصى بها نيل، لكنني لم أكتب بعد المقدمة، ولا أظن أن حالتي الصحية خلال هذه الأيام تسمح بابتكار مقدمة بليغة، حيث أن سعالي يشتد، وأشعر بهزال وصداع مؤلم.. لذا فإنني سأؤجلها إلى أن أتحسن، ولا أظن أن جون سوف يعقب على ذلك..

الآن ـ كما ذكر لي جون في رسالة سابقة ـ عليّ أن أستعد لتقديم ملخص الرسالة يوم الأربعاء ظهراً، أمام عدد كبير من أساتذة وطلبة الدراسات العليا، في جلسة يديرها جون نفسه، وهي تجربة تشبه إلى حد كبير ما قمت به قبل نحو شهر ونصف في السيمبوزيوم الدولي الثالث لطلبة الدكتوراه الباحثين في الإعلام العربي والإسلامي، بإشراف الدكتور نور الدين ميلادي.. وهكذا أفهم أنني إنما دعيت لهذا السيبموزيوم بترتيب قدري، كي أتهيأ لمناقشة ملخص رسالتي يوم الأربعاء، التي سأرتقي بها إلى الجولة الثانية والأخيرة من الدكتوراه..

لكنني ـ برغم ذلك ـ قلق، وعليّ أن أتجهز جيداً، نظرياً وتقنياً.. وهو ما سأفعله بعد أن أعود للمنزل، وأنال قسطاً من النوم.. قد يساعد على تخفيف آلام حلقي وجسدي..

دوائي المر!

منذ أتيت إلى لندن في ربيع ألفين وستة، انشطر وقتي إلى نصفين بفعل نوبات العمل، أحدهما أمضيه بمنزلي في صمت، لا أسمع سوى صدى الذكريات.. وهو ما يضطرني في أحيان كثيرة إلى أن أرفع صوتي بالقراءة.. أما النصف الآخر، الذي أقضيه في العمل وسط زملائي وأصدقائي، فلا أكف فيه عن الحديث والحركة..

هكذا فرض نمط جديد نفسه على حياتي ووقتي.. ولم أجد غير الاستسلام له مكرهاً، خاصة هذا العام، فصرت أتنصل من أي نشاط اجتماعي خلال عطلاتي لأتفرغ للدكتوراه.. وتحول الأمر بمرور الأسابيع والشهور إلى ما يشبه السجن الطوعي.. في زنزانة لا ترافقني فيها سوى الكتب والأوراق، ولا منفذ إليها سوى الإنترنت..

تماماً كعقربي الساعة، اللذيْن يسلكان نفس المسار بلا ضجر.. أكرر طقوسي في صمت مطبق، بحرفية وانضباط، ليست في نيتي الثورة عليها أو حتى محاولة تعديلها.. كيف لي وأنا أسابق الزمن كي أنجز المهمة؟..

أوقات سعادتي مؤجلة، أدخرها لمستقبل تحققت فيه أغلى الأمنيات، كي تكون بمثابة الجائزة.. أشرد في وحدتي، سابحاً في فضاء الأحلام، فأرى نفسي كذلك.. متحرراً من فروض تلك المرحلة، التي تمضي ببطء، يكرسه ضباب لندن، وصمتها الأبدي..

إن الملل هو عيب وحدتي في لندن..

لكن ميزتها هي العزاء لي.. فقد أهلتني هذه الوحدة ـ بتأملاتها ـ للاهتداء إلى معنى الحياة، وقيمة الإنسان، والطريقة المثلى للعيش بين البشر، منحتني أوقات الاختلاء بالنفس فرصة النظر إلى الله، والتحدث إليه، بل ومعه.. فقد أجابني أكثر من مرة بعلامات على التأييد والرضا.. ونبهني إلى أن العالم أكبر من غرفتي في المنزل، ومن الطابق الثالث في إجتون هاوس، وأن هناك من يراني ولا أراه.. يشاطرني كل شبر وينصت إلى همهماتي، وينفذ الخطة المرسومة لي قبل أن أولد..

كتبت في وحدتي وقرأت كثيراً، وشاهدت أفلاماً أكثر.. حفل عقلي وقلبي بأفكار لن يكفي العمر القصير للتمعن فيها.. عرفت ذاتي، وماذا تريد.. وحاسبت نفسي، وروضتها على الصبر والإرادة.. نلت الماجستير، واقتربت من تحقيق حلم الدكتوراه، أنجزت فصلاً في رسالة علمية بلغة لم أتعلمها في طفولتي، ولم أتقنها في صباي.. صنعت أفلاماً، وخططت لأخرى.. لقد ساعدتني الوحدة ـ برغم قسوتها ـ على العمل...

إن وحدتي كالدواء المر!..

الأحد، 7 يونيو 2009

من خواطر القطار!


كم من الآلام في هذا العالم من صنع البشر! الذين يسبّون قسوة الحياة وهم أحد أسبابها.. ويندبون حظهم وهم يستحقونه، ينتقدون أفعال الناس ثم يكررونها.. يلومون على الآخرين حقدهم، وهم أول من يستكثر الخير على الغير.. يدوسون على المشاعر، ثم ينظمون الأشعار، يخفون أسرارهم، ثم ينقبون عن أسرار من حولهم..

يا إلهي..
إننا وقود الحرب التي تقتلنا، ومادة الكراهية التي ننفر منها، فكيف لنا أن نجهل سر تعاستنا؟

السبت، 6 يونيو 2009

ثمْن الطريق في ثلث الزمن!

السابعة والنصف صباحاً..

أنتظر القطار للتوجه إلى العمل.. شارداً كالعادة، خاصة بعد أن مارست عادتي الصباحية بالاستماع إلى أغنيات فيروز الرقيقة..

لم أنم ليلة أمس تقريباً.. أشعر باحتقان في حلقي يزيد من إشفاقي على أمي، التي تعاني من سعال مزمن.. أدعو لها كل مرة أبتلع فيها ريقي، وأشعر بالألم، وأتمنى لو أن ألمي هذا يعيد إليها الصحة والعزيمة..

لكن أرقي دفعني بحماس لاستكمال خلاصة الفصل الأول، التي استعرضت فيها أهم الأفكار التي تناولتها به، كما وضعت قائمة بالكلمات المفتاحية Key words بعد المقدمة ـ التي لم أنته منها بعد ـ لتظهر صورة العمل أخيراً أقرب ما تكون لفصل في رسالة دكتوراه حقيقية..

الآن أفكر فيما مضى من المشوار وما تبقى، فبميزان الكلمات.. انتهيت بالفعل من كتابة ما يزيد عن عشرة آلاف كلمة، والمطلوب للرسالة إجمالاً نحو ثمانين ألف كلمة.. فإذا كان عليّ أن أخطو ثمان خطوات في ثلاث سنوات كي يتحقق الحلم، فها قد قطعت خطوة منهم في أقل من عام.. أي ثمن الطريق في ثلث الزمن..

إن هذا يعني أن عليّ أن أزيد من سرعتي كثيراً خلال العامين المقبلين، وقد يعني ذلك مزيداً من الوقت المخصص للدراسة، ليس بالضرورة على حساب عملي الصحفي، وإنما بمزيد من التنظيم والحكمة في إدارة الوقت..


أتذكر صورة أمي المعلقة على حائط غرفتي، وهي تتشبث بذراعي يوم التخرج من الماجستير، وابتسامتها تنطق بالسعادة والفخر والرضا، أتمتم بالدعاء إلى الله: يارب أعنّي على تحقيق حلم الدكتوراه كي أسعد أمي.. يارب أمدها بالصحة وطول العمر حتى تنال هذه اللحظة التي ستتوج كفاحها وصبرها..

إنني لا أملك سوى الدعاء لأمي، ولا أراهن على سواه.. وهذا هو سلاحي أيضاً في رحلة الدكتوراه...

الجمعة، 5 يونيو 2009

إحصاءات (نصر الدين)!

اضطررت ـ خلال مراجعتي الأخيرة للفصل الأول ـ لحذف فقرات مطولة، لأنها تتضمن إحصاءات غير محدثة، منقولة عن كتب وأوراق علمية، وليست تقارير أصلية.. التقارير مصدرها الوحيد في العادة هو مراكز الأبحاث ـ سواء المستقلة أو التابعة لشركات كبرى ـ وهي مكلفة للغاية، والوصول إليها يكاد يكون مستحيلاً..

كان الوقت فجراً، عندما أنهيت مهامي في العمل قبل ساعتين من موعد انتهاء النوبة.. غادر أحد الزملاء مبكراً كي يستعد لاختبار رخصة القيادة ظهراً، ولم يبق سواي مع زميل آخر.. أخرجت أوراق الدكتوراه آملاً في أن أستكمل مراجعتها الأخيرة، وأرسلها إلى زميلي نيل كوليه، الذي يتطوع دائماً لمراجعتها اللغوية..

ما أن شرعت في المراجعة، حتى اقترب رئيس تحرير النشرات الإخبارية، ممسكاً بيده بضعة أوراق، كانت تتضمن على الأرجح مادة صحفية لتحويلها إلى خبر أو تقرير.. راقبته دون أن أمعن فيه النظر، متمنياً أن يدعني وشأني كي أتفرغ للمراجعة.. وبالفعل، أعطى بالأوراق لزميلي، وكلفه بترجمة تقرير عن بي بي سي الإنجليزية..

تنفست الصعداء.. وواصلت مهمتي بحماس، كنت سعيداً لأن مراجعتي للبحث طمأنتني.. لقد بدا ثرياً ومتماسكاً.. الأخطاء التي عالجتها كانت قليلة، لكن كان عليّ أن أستبعد تلك الإحصاءات الثمينة التي برهنت بها على كثير من النتائج، لأنها ليست حديثة بما يكفي.. عليّ أن أفكر كذلك بأن الرسالة سوف تنشر ـ بإذن الله ـ بحلول عام 2012، وعندها ستكون هذه الإحصاءات من إرث الماضي السحيق، خاصة في مجال الإعلام الحديث، الذي يتطور بسرعة لافتة..

أفقدتني الفقرات المحذوفة بضع مئات من الكلمات، فانخفض إجمالي الفصل الأول إلى ما دون العشرة آلاف كلمة بقليل، لكن لا بأس، لم يعد بمقدوري في هذه المرحلة أن أضيف المزيد، كما أن المشرف لن يزن البحث بالكلمات، كما يحدث عادة في مصر.. أنهيت المراجعة راضياً، وقمت بتنسيق الصفحات على نحو أنيق، وطبعت البروفة الأخيرة..

بفخر لملمت أوراقي، فقد انتهت نوبة العمل مع شقشقات الصباح، ووصل السائق الذي سيعيدني إلى المنزل، غادرت بي بي سي وأنا أفكر في البركة التي تحل بأوقات السحر، فتضاعف الجهد وتأتي بالتوفيق..

في طريقي إلى المنزل كنت أتذكر الفقرات المحذوفة، وكم أرهقني جمعها في الأشهر الماضية، وها أنذا أرغم نفسي على حذفها.. لقد فقدت بضعة أرقام ونسب مئوية، كان من شأنها إضفاء المصداقية على كثير من النتائج والخلاصات، لكن تأثيرها سيكون عكسياً لو لم أحذفها.. عليّ أن أجد بديلاً لها على أي حال.. ليس على وجه السرعة، ولكن خلال المرحلة المقبلة من البحث على الأقل..

لم يهدني تفكيري في هذه اللحظة إلى السبيل الذي سأسلكه كي أعثر على إحصاءات محدثة تتصل بموضوع البحث.. لكنني عزمت على أن أحصل عليها حتى لو اضطررت لدفع المال.. عندما أنتهي من مناقشة الفصل الأول، وأعود من إجازة الصيف، ستكون خطوتي الأولي هي الاتصال بمراكز الأبحاث الناشطة في حقل الإعلام الحديث.. تبدو المهمة مستحيلة وأنا أتخيل أسعاراً لا تناسب إلا عملاءها من الشركات والجامعات، فتلك المراكز البحثية لا تعمل لوجه الله، ولن تتطوع بإمدادي بالمعلومات لأنني طالب دكتوراه فقير..

وصلت إلى المنزل، فتحت التليفزيون على الفور كعادتي، فوجدت تقريري الصحفي ـ الذي انتهيت من إعداده قبل ساعتين ـ على الهواء.. شاهدته، ثم أرسلت نسخة الفصل الأول إلى زميلي نيل عبر البريد الإلكتروني، بعدها انطلقت إلى الفراش...

مضت الساعات وأنا أسبح في فضاءات النوم.. أعيش حياتي الأخرى في الحلم.. ثم فجأة انتشلني جرس الهاتف من تلك الأعماق.. أجبت بصوت متقطع: من؟ نصر الدين؟ نصر الدين من؟ آآآآه.. نصر الدين.. كيف حالك؟ لم أسمع صوتك منذ سنتين.. بالتأكيد سأسعد برؤيتك.. غداً؟ لا بأس..

أعدت رأسي إلى الوسادة.. ونظرت إلى سقف الحجرة وأنا أفكر.. نصر الدين، زميلي في الجامعة خلال فترة الماجستير؟ كان يدرس في تخصص آخر، لكنني تعرفت عليه من خلال صديقنا المشترك زياد.. من اللطيف أن يتذكرني نصر الدين بعد طول غياب.. ولكن ما الذي دفعه للاتصال بي فجأة..

ظللت حائراً حتى التقيته وفق الخطة مساء أمس، اجتمعنا في ميدان ليستر الحيوي، وانضم إلينا بالصدفة مصطفي المنشاوي وأحمد زكي وزوجته شيماء.. بعضهم كان قد التقى نصر الدين ـ الجزائري الأصل ـ من قبل.. جلسنا بأحد المقاهي الإيطالية، وبدأنا واحدة من حلقاتنا النقاشية الممتعة..

على هامش الحديث، سألت نصر الدين عن طبيعة عمله الجديد، الذي يفخر بفعالياته دوماً على الفيس بوك.. فقال لي باعتزاز: باحث في تكنولوجيا الاتصالات..

حدقت فيه النظر، وسألته: ماذا؟ فأعاد الإجابة، لكنها وقعت على أذني هذه المرة مصحوبة بصدى رخيم، وقد محت كل من حولها من أصوات.. ثم أضاف: في مركز متخصص، يجمع الإحصاءات بشكل دوري عن كل ما يتعلق بسوق الاتصالات..
تاه صوته في صمتي المتأمل.. ألهذا أرسلك الله؟ ربما لم تكن تدر أنت أيضاً لماذا ـ وفجأة ـ فتشت عن رقمي واتصلت بي.. ربما كنت منهمكاً في عمل ما، ثم همس هامس في أذنك بهذا الأمر.. الأمر.. أن اتصل بمحمد سعيد، أنه بحاجة إليك..

ـ إنني بحاجة إليك..!

قلتها، واضعاً كفي على صدري ممتناً، ضاغطاً على الأحرف كما لو كنت أذيع نبأ النصر.. وشرعت في شرح موضوع رسالتي، الذي كان هو نفسه المجال الذي يجري عليه أبحاثه لصالح شركات كبرى..

طمأنني نصر الدين، سيمدني بالمعلومات التي سأحتاجها، أياً كانت وفق تأكيده.. سيقضي عطلة نهاية الأسبوع مع أسرته في باريس، وبعدها سنلتقي من جديد، ليزين بحثي بالأرقام والنسب المئوية اللازمة..

عدنا إلى دائرة الأصدقاء، واندمجنا مجدداً في الحديث، لكن كل منا كان قد استقر وجدانه الحائر، بعد أن عرف سر اللقاء، بعد طول الغياب..

وانتهت الليلة الجميلة، بابتسامات الرضا...