الثلاثاء، 9 يونيو 2009

دوائي المر!

منذ أتيت إلى لندن في ربيع ألفين وستة، انشطر وقتي إلى نصفين بفعل نوبات العمل، أحدهما أمضيه بمنزلي في صمت، لا أسمع سوى صدى الذكريات.. وهو ما يضطرني في أحيان كثيرة إلى أن أرفع صوتي بالقراءة.. أما النصف الآخر، الذي أقضيه في العمل وسط زملائي وأصدقائي، فلا أكف فيه عن الحديث والحركة..

هكذا فرض نمط جديد نفسه على حياتي ووقتي.. ولم أجد غير الاستسلام له مكرهاً، خاصة هذا العام، فصرت أتنصل من أي نشاط اجتماعي خلال عطلاتي لأتفرغ للدكتوراه.. وتحول الأمر بمرور الأسابيع والشهور إلى ما يشبه السجن الطوعي.. في زنزانة لا ترافقني فيها سوى الكتب والأوراق، ولا منفذ إليها سوى الإنترنت..

تماماً كعقربي الساعة، اللذيْن يسلكان نفس المسار بلا ضجر.. أكرر طقوسي في صمت مطبق، بحرفية وانضباط، ليست في نيتي الثورة عليها أو حتى محاولة تعديلها.. كيف لي وأنا أسابق الزمن كي أنجز المهمة؟..

أوقات سعادتي مؤجلة، أدخرها لمستقبل تحققت فيه أغلى الأمنيات، كي تكون بمثابة الجائزة.. أشرد في وحدتي، سابحاً في فضاء الأحلام، فأرى نفسي كذلك.. متحرراً من فروض تلك المرحلة، التي تمضي ببطء، يكرسه ضباب لندن، وصمتها الأبدي..

إن الملل هو عيب وحدتي في لندن..

لكن ميزتها هي العزاء لي.. فقد أهلتني هذه الوحدة ـ بتأملاتها ـ للاهتداء إلى معنى الحياة، وقيمة الإنسان، والطريقة المثلى للعيش بين البشر، منحتني أوقات الاختلاء بالنفس فرصة النظر إلى الله، والتحدث إليه، بل ومعه.. فقد أجابني أكثر من مرة بعلامات على التأييد والرضا.. ونبهني إلى أن العالم أكبر من غرفتي في المنزل، ومن الطابق الثالث في إجتون هاوس، وأن هناك من يراني ولا أراه.. يشاطرني كل شبر وينصت إلى همهماتي، وينفذ الخطة المرسومة لي قبل أن أولد..

كتبت في وحدتي وقرأت كثيراً، وشاهدت أفلاماً أكثر.. حفل عقلي وقلبي بأفكار لن يكفي العمر القصير للتمعن فيها.. عرفت ذاتي، وماذا تريد.. وحاسبت نفسي، وروضتها على الصبر والإرادة.. نلت الماجستير، واقتربت من تحقيق حلم الدكتوراه، أنجزت فصلاً في رسالة علمية بلغة لم أتعلمها في طفولتي، ولم أتقنها في صباي.. صنعت أفلاماً، وخططت لأخرى.. لقد ساعدتني الوحدة ـ برغم قسوتها ـ على العمل...

إن وحدتي كالدواء المر!..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق