اضطررت ـ خلال مراجعتي الأخيرة للفصل الأول ـ لحذف فقرات مطولة، لأنها تتضمن إحصاءات غير محدثة، منقولة عن كتب وأوراق علمية، وليست تقارير أصلية.. التقارير مصدرها الوحيد في العادة هو مراكز الأبحاث ـ سواء المستقلة أو التابعة لشركات كبرى ـ وهي مكلفة للغاية، والوصول إليها يكاد يكون مستحيلاً..
كان الوقت فجراً، عندما أنهيت مهامي في العمل قبل ساعتين من موعد انتهاء النوبة.. غادر أحد الزملاء مبكراً كي يستعد لاختبار رخصة القيادة ظهراً، ولم يبق سواي مع زميل آخر.. أخرجت أوراق الدكتوراه آملاً في أن أستكمل مراجعتها الأخيرة، وأرسلها إلى زميلي نيل كوليه، الذي يتطوع دائماً لمراجعتها اللغوية..
ما أن شرعت في المراجعة، حتى اقترب رئيس تحرير النشرات الإخبارية، ممسكاً بيده بضعة أوراق، كانت تتضمن على الأرجح مادة صحفية لتحويلها إلى خبر أو تقرير.. راقبته دون أن أمعن فيه النظر، متمنياً أن يدعني وشأني كي أتفرغ للمراجعة.. وبالفعل، أعطى بالأوراق لزميلي، وكلفه بترجمة تقرير عن بي بي سي الإنجليزية..
تنفست الصعداء.. وواصلت مهمتي بحماس، كنت سعيداً لأن مراجعتي للبحث طمأنتني.. لقد بدا ثرياً ومتماسكاً.. الأخطاء التي عالجتها كانت قليلة، لكن كان عليّ أن أستبعد تلك الإحصاءات الثمينة التي برهنت بها على كثير من النتائج، لأنها ليست حديثة بما يكفي.. عليّ أن أفكر كذلك بأن الرسالة سوف تنشر ـ بإذن الله ـ بحلول عام 2012، وعندها ستكون هذه الإحصاءات من إرث الماضي السحيق، خاصة في مجال الإعلام الحديث، الذي يتطور بسرعة لافتة..
أفقدتني الفقرات المحذوفة بضع مئات من الكلمات، فانخفض إجمالي الفصل الأول إلى ما دون العشرة آلاف كلمة بقليل، لكن لا بأس، لم يعد بمقدوري في هذه المرحلة أن أضيف المزيد، كما أن المشرف لن يزن البحث بالكلمات، كما يحدث عادة في مصر.. أنهيت المراجعة راضياً، وقمت بتنسيق الصفحات على نحو أنيق، وطبعت البروفة الأخيرة..
بفخر لملمت أوراقي، فقد انتهت نوبة العمل مع شقشقات الصباح، ووصل السائق الذي سيعيدني إلى المنزل، غادرت بي بي سي وأنا أفكر في البركة التي تحل بأوقات السحر، فتضاعف الجهد وتأتي بالتوفيق..
في طريقي إلى المنزل كنت أتذكر الفقرات المحذوفة، وكم أرهقني جمعها في الأشهر الماضية، وها أنذا أرغم نفسي على حذفها.. لقد فقدت بضعة أرقام ونسب مئوية، كان من شأنها إضفاء المصداقية على كثير من النتائج والخلاصات، لكن تأثيرها سيكون عكسياً لو لم أحذفها.. عليّ أن أجد بديلاً لها على أي حال.. ليس على وجه السرعة، ولكن خلال المرحلة المقبلة من البحث على الأقل..
لم يهدني تفكيري في هذه اللحظة إلى السبيل الذي سأسلكه كي أعثر على إحصاءات محدثة تتصل بموضوع البحث.. لكنني عزمت على أن أحصل عليها حتى لو اضطررت لدفع المال.. عندما أنتهي من مناقشة الفصل الأول، وأعود من إجازة الصيف، ستكون خطوتي الأولي هي الاتصال بمراكز الأبحاث الناشطة في حقل الإعلام الحديث.. تبدو المهمة مستحيلة وأنا أتخيل أسعاراً لا تناسب إلا عملاءها من الشركات والجامعات، فتلك المراكز البحثية لا تعمل لوجه الله، ولن تتطوع بإمدادي بالمعلومات لأنني طالب دكتوراه فقير..
وصلت إلى المنزل، فتحت التليفزيون على الفور كعادتي، فوجدت تقريري الصحفي ـ الذي انتهيت من إعداده قبل ساعتين ـ على الهواء.. شاهدته، ثم أرسلت نسخة الفصل الأول إلى زميلي نيل عبر البريد الإلكتروني، بعدها انطلقت إلى الفراش...
مضت الساعات وأنا أسبح في فضاءات النوم.. أعيش حياتي الأخرى في الحلم.. ثم فجأة انتشلني جرس الهاتف من تلك الأعماق.. أجبت بصوت متقطع: من؟ نصر الدين؟ نصر الدين من؟ آآآآه.. نصر الدين.. كيف حالك؟ لم أسمع صوتك منذ سنتين.. بالتأكيد سأسعد برؤيتك.. غداً؟ لا بأس..
أعدت رأسي إلى الوسادة.. ونظرت إلى سقف الحجرة وأنا أفكر.. نصر الدين، زميلي في الجامعة خلال فترة الماجستير؟ كان يدرس في تخصص آخر، لكنني تعرفت عليه من خلال صديقنا المشترك زياد.. من اللطيف أن يتذكرني نصر الدين بعد طول غياب.. ولكن ما الذي دفعه للاتصال بي فجأة..
ظللت حائراً حتى التقيته وفق الخطة مساء أمس، اجتمعنا في ميدان ليستر الحيوي، وانضم إلينا بالصدفة مصطفي المنشاوي وأحمد زكي وزوجته شيماء.. بعضهم كان قد التقى نصر الدين ـ الجزائري الأصل ـ من قبل.. جلسنا بأحد المقاهي الإيطالية، وبدأنا واحدة من حلقاتنا النقاشية الممتعة..
على هامش الحديث، سألت نصر الدين عن طبيعة عمله الجديد، الذي يفخر بفعالياته دوماً على الفيس بوك.. فقال لي باعتزاز: باحث في تكنولوجيا الاتصالات..
حدقت فيه النظر، وسألته: ماذا؟ فأعاد الإجابة، لكنها وقعت على أذني هذه المرة مصحوبة بصدى رخيم، وقد محت كل من حولها من أصوات.. ثم أضاف: في مركز متخصص، يجمع الإحصاءات بشكل دوري عن كل ما يتعلق بسوق الاتصالات..
تاه صوته في صمتي المتأمل.. ألهذا أرسلك الله؟ ربما لم تكن تدر أنت أيضاً لماذا ـ وفجأة ـ فتشت عن رقمي واتصلت بي.. ربما كنت منهمكاً في عمل ما، ثم همس هامس في أذنك بهذا الأمر.. الأمر.. أن اتصل بمحمد سعيد، أنه بحاجة إليك..
ـ إنني بحاجة إليك..!
قلتها، واضعاً كفي على صدري ممتناً، ضاغطاً على الأحرف كما لو كنت أذيع نبأ النصر.. وشرعت في شرح موضوع رسالتي، الذي كان هو نفسه المجال الذي يجري عليه أبحاثه لصالح شركات كبرى..
طمأنني نصر الدين، سيمدني بالمعلومات التي سأحتاجها، أياً كانت وفق تأكيده.. سيقضي عطلة نهاية الأسبوع مع أسرته في باريس، وبعدها سنلتقي من جديد، ليزين بحثي بالأرقام والنسب المئوية اللازمة..
عدنا إلى دائرة الأصدقاء، واندمجنا مجدداً في الحديث، لكن كل منا كان قد استقر وجدانه الحائر، بعد أن عرف سر اللقاء، بعد طول الغياب..
وانتهت الليلة الجميلة، بابتسامات الرضا...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق