
كلما مررت من النفق المؤدي للقطار في توتنهام هيل ـ حيث أسكن الآن ـ حلت في ذاكرتي أقسى مشاهد الفيلم الفرنسي Irreversible أو "غير قابل للعودة"، حيث وقعت الخطيئة الكبرى، التي غيرت حياة الأبطال جميعاً إلى الأبد..
أشعر وأنا أسير في النفق المقبض، أنني أرى مونيكا بيلوتشي في أبهى حلة، تسير في النفق غاضبة، ولكن برقة.. بعد أن غادرت الحفل بمفردها، تاركة حبيبها فينسيت كاسل مخموراً يهذي.. أشعر أن هذا هو منتصف الليل الحزين، وليس صباحي الجديد في توتنهام هيل، الذي صار عادياً من اليوم الأول..
أسمع طرقات الكعب العالي على الأرض الجافة، يرتطم صداها بوحشية في مربعات السيراميك الأبيض الرخيص، الذي يغلف النفق يميناً ويساراً..
تقع عيني على كاميرا المراقبة، لكني لا أراها.. ففى الفيلم غاب الجميع عن مونيكا، وتركوها فريسة للجنوح الأعمي.. همهمات أحد المارة تستدعي صوت البطل المجرم، البرت دوبونتل، وهو يجر أقدامه ويترنح، تقاومه فتاة ليل سمراء، سأعرف في فصل لاحق من الفيلم أنها رجل مثلي.. يلتفت ألبرت القذر إلى مونيكا الرقيقة، فتنزل نظرته على قلبي كالسهم.. ينقض عليها، فتتأخر خطواتي.. كأنني أعود إلى زمن الفيلم على هيئة شبح عاجز..
تقاوم ذاكرتي تفاصيل الاغتصاب، فيما تقاوم مونيكا أمامي، وتحت قدمي، مصيرها المشؤوم.. تختصر ذاكرتي المشهد إلى حده الأدني، فيبقى منه الأشد عنفاً ومرارة...
عندما أصل لنهاية النفق، أسأل نفسي: كيف تحول هذا المكان إلى غرفة تعذيب معزولة؟ صرخت مونيكا فلم يسمعها أحد.. بينها وبين الشارع الباريسي المتأنق لم تكن سوى درجات السلم وبقية من الممر.. لكن أحداً لم يلتفت.. لكن أحداً لم يسمع...
ماتت بطلتي منكفئة على صدرها.. وطئها الشرير في دبرها فانتحرت كرامتها.. وأفاق البطل المخمور فانتقم ببشاعة، واجهتُها هي الأخرى في ذهول وانقباض..
أصبح النفق بالنسبة لي رمزاً للا عودة، لكنه يعود إلى ذاكرتي في مكان سأرتاده كل صباح.. أما في المساء، فلن يحتاج خيالي للمحاكاة.. فالسر الكامن في الفيلم، سينفضح عندما أرى المشهد من جديد.. رأي العين!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق