تجسد لي سر شقاء قلبي في فيلم وأغنية..
الفيلم هو "الزائر" أو The Visitor للمخرج المرهف توم ماكارثي..
والأغنية هي "صبرني ع المكتوب" للمطربة المرهفة ربى الجمال..
الفيلم هو "الزائر" أو The Visitor للمخرج المرهف توم ماكارثي..
والأغنية هي "صبرني ع المكتوب" للمطربة المرهفة ربى الجمال..

ربا.. من يذكرها الآن؟

درس في الحياة
والتر في الفيلم هو أنا.. البروفيسور الستيني، الصامت حتى وهو يتكلم، التائه في عالمه، الباحث عن المعنى من الحياة والعمل والناس.. تشد وجنتاه طرفا فمه كي يتظاهر بالابتسام، يتفادى النظر في الأعين كي لا يداهمه سؤال فيضطر للإجابة.. يتفرج حتى على نفسه، تتردد في أعماقه موسيقى يحاول تمييزها، يسعى لتعلم البيانو فيفشل.. يرسله القدر إلى منزله القديم فيجده مسكوناً بحياته المفقودة: شاب وفتاة يتحولان من لصين إلى صديقين.. طارق ـ أحدهما ـ الشاب المفعم بالأمل، يساعد والتر في التعرف على صوت الموسيقى داخله.. يدربه على قرع الطبل بلحن أفريقي، فيثور بركان الشباب في صدر الرجل العجوز.. يبتسم بصدق للمرة الأولى في الفيلم، يقفز مع الشاب في الحدائق ويشاركه العزف لروادها.. يرقص.. والتر ـ الأستاذ الجامعي المتزمت ـ يرقص.. يخلع رابطة عنقه ويتجاهل زملاء المهنة المتحزلقين.. يتمرد على وظيفته..
وفجأة، يقرر القدر أن يهب والتر انعطافاً جديداً في هذا الفصل الحيوي من حياته الراكدة.. يسقط طارق في يد الشرطة، فتعتقله بتهمة البقاء بشكل غير شرعي في الولايات المتحدة، ويتحول والتر إلى سنده الوحيد.. والتر ذو القلب الخامد والمشاعر الجليدية، صار الآن مدافعاً عن شاب عرفه قبل أيام فقط.. بل وكلف له محامياً على نفقته لحل المشكلة.. لقد عاد والتر إلى الحياة....
ومن هذه الدراما التي تلامس القلب، تبزغ ومضة حب، تتوج عودة والتر المجيدة لإنسانيته.. إنها الأم مني (المبدعة هيام عباس)، التي تحل ضيفة في منزل والتر، فتولع به.. وتتساقط حبات المطر على التربة اليابسة، فتنبت فيها حباً (بضم الحاء).. ولأول مرة يجد والتر من يعانقه.. وأشعر ـ أنا ـ أنني في أحضان مني، وأنني أستلقي إلى جوارها على الفراش، أحتويها بذراعيّ، وأجفف لها دموعها..
يا إلهي... كيف عرفني توم ماكارثي؟ كيف أدرك أنني وحيد في لندن بين كل هؤلاء البشر؟ كيف يكشفني بلا استئذان؟ أم أنه زارني في أحد أحلامي المنسية ووافقت له؟ إن والتر وضعني أمام مرآة الماضي بإخفاقاته، والحاضر بفتوره، والمستقبل ببشائره.. طمأنني أن القدر وتوم ماكارثي يدبران لي خيراً.. أرجحني بين الموت والحياة.. بين الواقع والخيال.. بين الألم والأمل.. بين الوحدة والعشق.. أمدني بصورة ـ ولو تقريبية ـ لمحبوبة تستحق الوفاء..
وطارق ـ الذي طرق على طبلته كما على أوتار قلبي ـ هو أنا كذلك.. المتشبث بالحياة، الراهب في محراب أحلامه، المندفع نحو هدفه كالقطار، المسحور بالجمال الأسمر، والقوام النحيل، المخلص لمحبوبته والغيور عليها.. المتعلق بأمه والمشفق عليها.. القادر على تلوين حياة من حوله بالتفاؤل والبهجة.. لكن من يدري بحال قلبه؟ قد يكون هذا المقبل على الحياة، زاهداً فيها، وغاضباً منها.. لكنه يسحق مشاعره لتقطر أملاً يوزعه على البائسين، فيشفى هو من آلامه..
انتهى الفيلم، ولملمت نفسي المبعثرة، وعشت بقية يومي أفكر فيه.. وصاحبني ظله إلى اليوم التالي.. ليسلمني إلى أغنية أرشدني صديقي أمير العمري إلى مطربتها ربى الجمال..
ربى ـ كحالي أيضاً ـ اختارت طريقها مبكراً.. صقلت صوتها الملائكي، ودربته على أداء أغاني أسمهان وأم كلثوم حتى تفوقت عليهما.. كانت الكلمات تقفز من قلبها إلى شفتيها، تتمايل كشجرة سامقة تداعبها الريح، تشرد بعينين حزينتين إلى أعلى وهي تئن، كما لو كانت تخاطب السماء وتنتظر منها الجواب.. تقف على المسرح وكأنها في لحظة حساب أمام الرب، تغني وكأنها تناجيه، تشد على الأحرف وكأنها تتوسل منه الرحمة.. اجتمعت في قلبها مشاعر الكون، أصابتها آلام الغربة في عالمها.. مات أبوها وهو يتمنى لها أن تصير طبيبة.. نزلت على رغبته بعد مماته كي تتخلص من وجع الندم، درست الطب لفترة، لكن الفن كان يمد لها ذراعه.. عادت إليه فتوجها.. لكن ذلك لم يسعد أعداءها.. تحالفوا مع المرض ضدها.. وفي إحدى حفلاتها المهيبة لم تستجب الفرقة الموسيقية لدندناتها العفوية.. صاحت: لقد أفقدتموني "سلطنتي"!.. كان الغناء بالنسبة لها كالخمر المسكر.. كانت تضاجع الطبقات وتغويها الكلمات.. وفجأة طردتها من الحلم الجميل نغمة شاذة.. فألقت بالميكرفون على الأرض وغادرت المسرح.. لكنها لم تعد إليه.. ماتت بعد أيام...
لماذا يا أمير؟ لماذا نصحتني باستدعائها من "يوتيوب" والاستماع إلى صوتها الحزين؟ لقد نبشت في قلبي فأوجعته.. ذكرتني بحالي في عالم حافل بأشباه كل شيء.. أشباه المفكرين وأشباه الصحفيين وأشباه الفنانين وأشباه الرجال.. وضعني مشهد الحفل الأخير أمام نفسي عندما تمردت على أجندة الإعلام عقب غزو العراق، وكدت أموت كمداً..
والتر وطارق وربى أحاطوا بقلبي ومشاعري في اليومين الماضيين.. كل منهم مثّل دوري في عمله.. أوربما استنسخني القدر من ذكراه.. ليكتب لها مزيداً من الألم.. أو لينصفها في الوقت الضائع...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق