قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) كان الركود يخيم على أنظمة الحكم في الشرق الأوسط، وكانت السجون والمعتقلات تطفح بالناشطين السياسيين وأصحاب الرأي، صحف عديدة منعتها الرقابة، وفعاليات تنادي بالتغيير حظرتها أجهزة الأمن، كان الجو العام محتقناً، وكانت هذه هي الخميرة التي ظهرت آثارها في نيويورك وواشنطن عام ألفين وواحد، وامتدت في الحال لتشمل العالم كله..
في هذه الأثناء، وبالتحديد في أواخر التسعينات، بزغ نجم (الجزيرة) كنافذة مفتوحة للجميع، أطل من خلالها الممنوعون من شتى بقاع الشرق الأوسط، عبروا عن أفكارهم بحرية، متمردين على كل الخطوط الحمراء التي فرضتها عليهم حكوماتهم، ولم يحظ ذلك برضا هذه الحكومات، بعضهم واجهه بالتشكيك في مصادر تمويل (الجزيرة) وأهدافها، واختلاق صلات لها مع إسرائيل والولايات المتحدة، والبعض الآخر ـ ومنهم دولة الإمارات ـ قرر مواجهتها بنفس السلاح..
أرادت الإمارات أن تعزز مكانتها كحاضنة لإعلام حر غير مسيس، إعلام تموله نفس الخزانة النفطية الخليجية، لكن تاريخه وسمعته لا تخضعان للمساءلة.. بدأت أبو ظبي بتحقيق هذا الحلم، فضخت ملايين الدراهم من أجل تطوير قناتها الرسمية، واستقطبت أبرز الكوادر الإعلامية من العراق إلى المغرب، كان المخرج الراحل مصطفى العقاد ـ كما روى لي ـ أحد من دعاهم الشيخ عبد الله بن زايد وزير الإعلام الإماراتي آنذاك للإشراف على المشروع الطموح، وعلم منه العقاد أن الميزانية المرصودة "ليس لها سقف"، لكنه اعتذر لانشغاله..
كنت في ذلك الوقت واحداً من عشرات الإعلاميين الذين استقدموا لصناعة هذا الفصل الإعلامي الجديد، أخذتني قناة (أبو ظبي) من الصحافة والبرامج الثقافية على التليفزيون المصري، وتعهدت بالاستجابة لأفكاري الثورية.. ما زلت أذكر عبارة مدير القناة عندما لاحظ ترددي لحظة توقيع العقد، قائلاً: شاركنا في هذه التجربة "المجنونة"!
لم تجد اقتراحاتي في مجالي الحريات وحقوق الإنسان أي صعوبة في طرحها ومناقشتها، الأفكار التي تليق بقناة مستقلة بل ومعارضة في بعض الأحيان كانت تحظى بالأولوية، أكاد أقطع بأن الخطوط الحمراء غابت تماماً، حتى صرت أتصور أنني بين جدران قناة (الجزيرة)، وراودني شعور بأن هذا الانفتاح والأريحية والسخاء هم فخ لاختبار المواقف، أو استعراض غير جاد، إلى أن اعتمدت القناة بحماس لافت فكرتي الجسورة بتوفير منصة حرة تدافع عن الكتاب والصحفيين والفنانين الذين يتعرضون لصنوف الرقابة المختلفة، من حذف أسطر أو مشاهد من أعمالهم، إلى المنع من الكتابة أو الظهور، وربما التعرض للسجن والإيذاء الجسدي في أحيان كثيرة.. كانت الأجهزة الرقابية نشطة في هذه الفترة، ولم تغب عن المشهد الإعلامي يوماً واحداً أخبار الممنوعين من التعبير عن آرائهم، الذين ينالون حضوراً إخبارياً عابراً على الجزيرة، لكنهم ما زالوا بحاجة لمجال أرحب كي يدينوا وينتقدوا ممارسات الرقابة عليهم، بل ويعيدوا بث ما منع أياً كان مضمونه..
وهكذا ظهر برنامج (مقص الرقيب) على قناة أبو ظبي، ليلة الأحد 30 يناير (كانون الثاني) من العام ألفين، قبل عشر سنوات من الآن بالتحديد..
استفاد البرنامج من الحرب الإعلامية الباردة بين قناتي (الجزيرة) و(أبو ظبي)، كما استفاد من حالة الغليان في الشارع السياسي، والتحدي المحسوب من حكومة الإمارات ـ وبخاصة الشيخ عبد الله بن زايد وزير الإعلام المتحمس في ذلك الوقت ـ لبعض سياسات الولايات المتحدة في المنطقة، وصار البرنامج بعد وقت قصير واجهة للقناة، تستدل به على مقدار الحرية غير المسبوق الذي تمنحه لمادتها الإعلامية.. وبحكم خلفيتي الصحفية ونشاطي في مجال الحريات وحقوق الإنسان كان سهلاً ألا أفوّت خبراً عن ضحية من ضحايا الرقابة في العالم العربي إلا وتحريت تفاصيله وحققت فيها على الفور، ودعوت كل الأطراف ـ بحياد تام ـ للتعبير عن وجهة نظرها من خلال البرنامج، حتى منحه راديو مونت كارلو في مارس (آذار) عام 2000 لقب الأكثر توازناً على الساحة الإعلامية..
لكن هذا التوازن لم يخفض من نبرة البرنامج المتململة على الدوام من أوضاع حرية التعبير في بلادنا.. كان مجرد إظهار الوجوه المعارضة أمام المسؤولين الحكوميين في مناقشات ندية هو تحد صارخ لرؤوس الأنظمة، زادت منه المساندة اللامحدودة من إدارة القناة، التليفزيون الرسمي للإمارات.. لم يفهم الكثيرون هذه المعادلة، لكنهم أشادوا بها.. وبات للبرنامج جمهور واسع، وتحول إلى منظمة لحقوق الإنسان بالكلمة والصورة، واعتبره الممنوعون وكيلاً لهم في الدفاع عن حقهم في التعبير، ونائباً عنهم في جهاد الفكر والرأي ضد التضييق والرقابة..
لاحق البرنامج مقص الرقيب في كل بلد عربي، ذهب إلى مصر عندما انتفضت التيارات الدينية في الجامعات بسبب رواية وليمة لأعشاب البحر، وعلى أثرها جمد حزب العمل وحظرت صحيفته، ثم عاد البرنامج إلى مصر عندما اعتقل صلاح الدين محسن لكتاباته "المسيئة للأديان"، وعندما أقيل رئيس هيئة قصور الثقافة لنشره ثلاث روايات تتضمن "عبارات إباحية"، وعندما اعترضت الكنيسة على مسلسل (أوان الورد)، كما ذهب إلى الجزائر في ذكرى اغتيال الصحفي عمر أورتيلان، وزار قادة جبهة الإنقاذ في مقار إقامتهم الجبرية، وإلى المغرب مرات ومرات لتقصي أوضاع الحريات السياسية والصحفية والدينية..
ذهب البرنامج كذلك إلى السودان للتحقيق فيما يعرف ببيوت الأشباح التي يزعم المعارضون أنها أوكار للتعذيب تديرها أجهزة الأمن، وإلى اليمن ليستجوب الرئيس اليمني شخصياً حول منع الصحفي جمال عامر من الكتابة، وإلى لبنان للكشف عن ظاهرة التنصت على هواتف رجال السياسة، ولاستعراض وسائل التعذيب الإسرائيلية في معتقل الخيام، وإلى الأردن للدفاع عن طارق أيوب مراسل الجزيرة ـ قبل استشهاده ـ عندما اعتقل واثنين من زملائه أثناء تغطية الاحتفال بذكرى "النكبة"، بل وذهب البرنامج إلى الصومال مع اشتعال حربها الإعلامية مع إثيوبيا، ثم منع من الحصول على تأشيرة دخول إلى الكويت للتحقيق في منع الأديبتين عالية شعيب وليلى العثمان من الكتابة، فاستضافهما مع النائب وليد الطبطبائي في أبو ظبي، كما منع من دخول موريتانيا بقرار من الرئيس المخلوع معاوية ولد الطايع، وطار البرنامج إلى باكستان في ذكرى مرور عام على الحكم العسكري، ثم إلى ماليزيا لإبراز قضية أنور ابراهيم نائب رئيس الوزراء المعزول، وغير ذلك الكثير والكثير من البلدان والقضايا، ووسط هذا المشوار الحافل ذهب إلى الأراضي الفلسطينية، وندد بالرقابة الإسرائيلية على الصحفيين الفلسطينيين والمراسلين الأجانب، وكانت النتيجة أن وضعت السلطات الإسرائيلية اسمي ـ كمعد ومقدم البرنامج ـ على لائحتها السوداء، فكانت هذه هي درة تاج البرنامج وجائزته الكبرى..
رحلة طويلة.. تتلاحق أنفاسي عندما أستعيد تفاصيلها، وبموازاتها كانت إدارة القناة في رحلة أخرى أرادت أن تعزلني عنها، رحلة الدفاع عن البرنامج إزاء احتجاجات الوزراء والمسؤولين، بالكاد كان مدير التليفزيون يطلعني على تفاصيل كل أزمة ولكن بعد أن تهدأ.. ثم يسلمني خطابات الاحتجاج كما لو كان يريد التخلص منها.. كان يقول دائماً إن مهمتي أن أعمل، ومهمته أن يدافع عن العمل..
جنة الإعلام كانت، تلك التي لم يكن يحاسب فيها البرنامجَ مديرٌ أو غفير.. كان الميزان دائماً هو الحقيقة، عناوين الحلقات كانت سراً إلى أن تبث، حتى على مدير التليفزيون.. لقد أراد أن يطبق المبادىء التي يدافع عنها البرنامج، فغاب الرقيب تماماً عن مقص الرقيب طيلة الأشهر الثمانية عشر من عمره.. لكن شهر العسل وجد أخيراً ما يعكره...
كنت أقف أمام برج إيفل أسجل مقدمة حلقة عن الحريات في تونس، عندما اتصل بي هيثم مناع رئيس اللجنة العربية لحقوق الإنسان ليبلغني بوقوع "انقلاب" في الولايات المتحدة! هكذا ظن العديد من الناس في اللحظات الأولى التي تلت هجمات نيويورك وواشنطن صباح الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001.. ابتلعت الصدمة واستأنفت التصوير، وسط ضوضاء السياح المهللين في ساحة مارس بعد انتشار الخبر...
عصراً كنت على موعد مع أحد المعارضين التونسيين، وفي الطريق إذا بمدير مركز الأخبار في تليفزيون (أبو ظبي) يتصل بي، ويطلب مني على استحياء إلغاء الموعد دون مناقشة، بدا لي أنني أحلم، فالبرنامج حتى هذه المكالمة المريبة كان يتمتع بالحرية المطلقة، لقد نقضت إدارة القناة وعدها بالحفاظ على استقلالية البرنامج، فماذا الذي دفعها لذلك؟
في المشهد قبل الأخير، كان الإعلان الترويجي للحلقة يتخلل مراراً فقرات التغطية المكثفة لآثار الهجمات المروعة، التغطية تثير أسئلة تاريخية حائرة حول منفذي الهجمات ورد الفعل الأمريكي المحتمل، بينما يطرح إعلان الحلقة سؤالاً واحداً خارج السياق: من ينتهك حقوق الإنسان في تونس؟ لم تكن صيغة السؤال مفاجأة، لكن الصورة التي رافقته كانت بمثابة الكارثة.. لقد كانت لقطة حية ـ وضعها قسم التسويق دون استشارة ـ للرئيس التونسي زين العابدين بن علي، الذي كان في ذلك الوقت يحشد الأصوات استعداداً لانتخابات رئاسية..
المشهد الأخير جرت أحداثه في السادس عشر من سبتمبر (أيلول) بمكتب مدير التليفزيون، كان عابساً وهو يمهد لإبلاغي بقرار المؤسسة، قال إن هذه المرحلة فاصلة في تاريخ الإعلام العربي، وإن الجميع سيراجع أوراقه ويعيد ترتيب أولوياته.. وبرنامج (مقص الرقيب) لم يعد ـ كما كان ـ يتصدر أجندة الإعلام في أبو ظبي، لذلك ـ ولأسباب أخرى ـ فقد تقرر وقفه نهائياً...
كانت تونس ـ كما فهمت لاحقاً ـ قد بعثت باحتجاج رسمي إلى الإمارات على "تشويه سمعة الرئيس زين العابدين من خلال الإعلان الترويجي، والعزم على بث معلومات مغلوطة ومفبركة حول حقوق الإنسان في تونس".. وهددت ـ إذا أذيعت الحلقة ـ بقطع العلاقات الديبلوماسية بين البلدين، ولم تكن الإمارات بحاجة إلى التفريط في أي صوت عربي قد يساندها في مأزقها أمام الولايات المتحدة بعد الاشتباه في أحد مواطنيها ـ وهو مروان الشحي ـ بالضلوع في تنفيذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، وهذه هي إعادة الحسابات التي قصدها ـ فيما بدا لي ـ مدير التليفزيون..
وأغلق برنامج (مقص الرقيب) بابه في وجوه عشرات الممنوعين والمقموعين، وعلق على الباب لافتة تقول: مغلق لإعادة الحسابات.. لماذا ظهر البرنامج؟ ولماذا اختفى؟ الإجابة على هذين السؤالين تصف بدقة إشكالية الإعلام العربي، وهي وقوعه بين فكيّ السياسة والمنافسة.. فالكلمة الحرة عندنا لها صلاحية، تبدأ في ذروة التنافس بين وسائل الإعلام، وتنتهي إذا تضاربت مصالح أصحاب النفوذ..
في هذه الأثناء، وبالتحديد في أواخر التسعينات، بزغ نجم (الجزيرة) كنافذة مفتوحة للجميع، أطل من خلالها الممنوعون من شتى بقاع الشرق الأوسط، عبروا عن أفكارهم بحرية، متمردين على كل الخطوط الحمراء التي فرضتها عليهم حكوماتهم، ولم يحظ ذلك برضا هذه الحكومات، بعضهم واجهه بالتشكيك في مصادر تمويل (الجزيرة) وأهدافها، واختلاق صلات لها مع إسرائيل والولايات المتحدة، والبعض الآخر ـ ومنهم دولة الإمارات ـ قرر مواجهتها بنفس السلاح..
أرادت الإمارات أن تعزز مكانتها كحاضنة لإعلام حر غير مسيس، إعلام تموله نفس الخزانة النفطية الخليجية، لكن تاريخه وسمعته لا تخضعان للمساءلة.. بدأت أبو ظبي بتحقيق هذا الحلم، فضخت ملايين الدراهم من أجل تطوير قناتها الرسمية، واستقطبت أبرز الكوادر الإعلامية من العراق إلى المغرب، كان المخرج الراحل مصطفى العقاد ـ كما روى لي ـ أحد من دعاهم الشيخ عبد الله بن زايد وزير الإعلام الإماراتي آنذاك للإشراف على المشروع الطموح، وعلم منه العقاد أن الميزانية المرصودة "ليس لها سقف"، لكنه اعتذر لانشغاله..
كنت في ذلك الوقت واحداً من عشرات الإعلاميين الذين استقدموا لصناعة هذا الفصل الإعلامي الجديد، أخذتني قناة (أبو ظبي) من الصحافة والبرامج الثقافية على التليفزيون المصري، وتعهدت بالاستجابة لأفكاري الثورية.. ما زلت أذكر عبارة مدير القناة عندما لاحظ ترددي لحظة توقيع العقد، قائلاً: شاركنا في هذه التجربة "المجنونة"!
لم تجد اقتراحاتي في مجالي الحريات وحقوق الإنسان أي صعوبة في طرحها ومناقشتها، الأفكار التي تليق بقناة مستقلة بل ومعارضة في بعض الأحيان كانت تحظى بالأولوية، أكاد أقطع بأن الخطوط الحمراء غابت تماماً، حتى صرت أتصور أنني بين جدران قناة (الجزيرة)، وراودني شعور بأن هذا الانفتاح والأريحية والسخاء هم فخ لاختبار المواقف، أو استعراض غير جاد، إلى أن اعتمدت القناة بحماس لافت فكرتي الجسورة بتوفير منصة حرة تدافع عن الكتاب والصحفيين والفنانين الذين يتعرضون لصنوف الرقابة المختلفة، من حذف أسطر أو مشاهد من أعمالهم، إلى المنع من الكتابة أو الظهور، وربما التعرض للسجن والإيذاء الجسدي في أحيان كثيرة.. كانت الأجهزة الرقابية نشطة في هذه الفترة، ولم تغب عن المشهد الإعلامي يوماً واحداً أخبار الممنوعين من التعبير عن آرائهم، الذين ينالون حضوراً إخبارياً عابراً على الجزيرة، لكنهم ما زالوا بحاجة لمجال أرحب كي يدينوا وينتقدوا ممارسات الرقابة عليهم، بل ويعيدوا بث ما منع أياً كان مضمونه..
وهكذا ظهر برنامج (مقص الرقيب) على قناة أبو ظبي، ليلة الأحد 30 يناير (كانون الثاني) من العام ألفين، قبل عشر سنوات من الآن بالتحديد..
استفاد البرنامج من الحرب الإعلامية الباردة بين قناتي (الجزيرة) و(أبو ظبي)، كما استفاد من حالة الغليان في الشارع السياسي، والتحدي المحسوب من حكومة الإمارات ـ وبخاصة الشيخ عبد الله بن زايد وزير الإعلام المتحمس في ذلك الوقت ـ لبعض سياسات الولايات المتحدة في المنطقة، وصار البرنامج بعد وقت قصير واجهة للقناة، تستدل به على مقدار الحرية غير المسبوق الذي تمنحه لمادتها الإعلامية.. وبحكم خلفيتي الصحفية ونشاطي في مجال الحريات وحقوق الإنسان كان سهلاً ألا أفوّت خبراً عن ضحية من ضحايا الرقابة في العالم العربي إلا وتحريت تفاصيله وحققت فيها على الفور، ودعوت كل الأطراف ـ بحياد تام ـ للتعبير عن وجهة نظرها من خلال البرنامج، حتى منحه راديو مونت كارلو في مارس (آذار) عام 2000 لقب الأكثر توازناً على الساحة الإعلامية..
لكن هذا التوازن لم يخفض من نبرة البرنامج المتململة على الدوام من أوضاع حرية التعبير في بلادنا.. كان مجرد إظهار الوجوه المعارضة أمام المسؤولين الحكوميين في مناقشات ندية هو تحد صارخ لرؤوس الأنظمة، زادت منه المساندة اللامحدودة من إدارة القناة، التليفزيون الرسمي للإمارات.. لم يفهم الكثيرون هذه المعادلة، لكنهم أشادوا بها.. وبات للبرنامج جمهور واسع، وتحول إلى منظمة لحقوق الإنسان بالكلمة والصورة، واعتبره الممنوعون وكيلاً لهم في الدفاع عن حقهم في التعبير، ونائباً عنهم في جهاد الفكر والرأي ضد التضييق والرقابة..
لاحق البرنامج مقص الرقيب في كل بلد عربي، ذهب إلى مصر عندما انتفضت التيارات الدينية في الجامعات بسبب رواية وليمة لأعشاب البحر، وعلى أثرها جمد حزب العمل وحظرت صحيفته، ثم عاد البرنامج إلى مصر عندما اعتقل صلاح الدين محسن لكتاباته "المسيئة للأديان"، وعندما أقيل رئيس هيئة قصور الثقافة لنشره ثلاث روايات تتضمن "عبارات إباحية"، وعندما اعترضت الكنيسة على مسلسل (أوان الورد)، كما ذهب إلى الجزائر في ذكرى اغتيال الصحفي عمر أورتيلان، وزار قادة جبهة الإنقاذ في مقار إقامتهم الجبرية، وإلى المغرب مرات ومرات لتقصي أوضاع الحريات السياسية والصحفية والدينية..
ذهب البرنامج كذلك إلى السودان للتحقيق فيما يعرف ببيوت الأشباح التي يزعم المعارضون أنها أوكار للتعذيب تديرها أجهزة الأمن، وإلى اليمن ليستجوب الرئيس اليمني شخصياً حول منع الصحفي جمال عامر من الكتابة، وإلى لبنان للكشف عن ظاهرة التنصت على هواتف رجال السياسة، ولاستعراض وسائل التعذيب الإسرائيلية في معتقل الخيام، وإلى الأردن للدفاع عن طارق أيوب مراسل الجزيرة ـ قبل استشهاده ـ عندما اعتقل واثنين من زملائه أثناء تغطية الاحتفال بذكرى "النكبة"، بل وذهب البرنامج إلى الصومال مع اشتعال حربها الإعلامية مع إثيوبيا، ثم منع من الحصول على تأشيرة دخول إلى الكويت للتحقيق في منع الأديبتين عالية شعيب وليلى العثمان من الكتابة، فاستضافهما مع النائب وليد الطبطبائي في أبو ظبي، كما منع من دخول موريتانيا بقرار من الرئيس المخلوع معاوية ولد الطايع، وطار البرنامج إلى باكستان في ذكرى مرور عام على الحكم العسكري، ثم إلى ماليزيا لإبراز قضية أنور ابراهيم نائب رئيس الوزراء المعزول، وغير ذلك الكثير والكثير من البلدان والقضايا، ووسط هذا المشوار الحافل ذهب إلى الأراضي الفلسطينية، وندد بالرقابة الإسرائيلية على الصحفيين الفلسطينيين والمراسلين الأجانب، وكانت النتيجة أن وضعت السلطات الإسرائيلية اسمي ـ كمعد ومقدم البرنامج ـ على لائحتها السوداء، فكانت هذه هي درة تاج البرنامج وجائزته الكبرى..
رحلة طويلة.. تتلاحق أنفاسي عندما أستعيد تفاصيلها، وبموازاتها كانت إدارة القناة في رحلة أخرى أرادت أن تعزلني عنها، رحلة الدفاع عن البرنامج إزاء احتجاجات الوزراء والمسؤولين، بالكاد كان مدير التليفزيون يطلعني على تفاصيل كل أزمة ولكن بعد أن تهدأ.. ثم يسلمني خطابات الاحتجاج كما لو كان يريد التخلص منها.. كان يقول دائماً إن مهمتي أن أعمل، ومهمته أن يدافع عن العمل..
جنة الإعلام كانت، تلك التي لم يكن يحاسب فيها البرنامجَ مديرٌ أو غفير.. كان الميزان دائماً هو الحقيقة، عناوين الحلقات كانت سراً إلى أن تبث، حتى على مدير التليفزيون.. لقد أراد أن يطبق المبادىء التي يدافع عنها البرنامج، فغاب الرقيب تماماً عن مقص الرقيب طيلة الأشهر الثمانية عشر من عمره.. لكن شهر العسل وجد أخيراً ما يعكره...
كنت أقف أمام برج إيفل أسجل مقدمة حلقة عن الحريات في تونس، عندما اتصل بي هيثم مناع رئيس اللجنة العربية لحقوق الإنسان ليبلغني بوقوع "انقلاب" في الولايات المتحدة! هكذا ظن العديد من الناس في اللحظات الأولى التي تلت هجمات نيويورك وواشنطن صباح الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001.. ابتلعت الصدمة واستأنفت التصوير، وسط ضوضاء السياح المهللين في ساحة مارس بعد انتشار الخبر...
عصراً كنت على موعد مع أحد المعارضين التونسيين، وفي الطريق إذا بمدير مركز الأخبار في تليفزيون (أبو ظبي) يتصل بي، ويطلب مني على استحياء إلغاء الموعد دون مناقشة، بدا لي أنني أحلم، فالبرنامج حتى هذه المكالمة المريبة كان يتمتع بالحرية المطلقة، لقد نقضت إدارة القناة وعدها بالحفاظ على استقلالية البرنامج، فماذا الذي دفعها لذلك؟
في المشهد قبل الأخير، كان الإعلان الترويجي للحلقة يتخلل مراراً فقرات التغطية المكثفة لآثار الهجمات المروعة، التغطية تثير أسئلة تاريخية حائرة حول منفذي الهجمات ورد الفعل الأمريكي المحتمل، بينما يطرح إعلان الحلقة سؤالاً واحداً خارج السياق: من ينتهك حقوق الإنسان في تونس؟ لم تكن صيغة السؤال مفاجأة، لكن الصورة التي رافقته كانت بمثابة الكارثة.. لقد كانت لقطة حية ـ وضعها قسم التسويق دون استشارة ـ للرئيس التونسي زين العابدين بن علي، الذي كان في ذلك الوقت يحشد الأصوات استعداداً لانتخابات رئاسية..
المشهد الأخير جرت أحداثه في السادس عشر من سبتمبر (أيلول) بمكتب مدير التليفزيون، كان عابساً وهو يمهد لإبلاغي بقرار المؤسسة، قال إن هذه المرحلة فاصلة في تاريخ الإعلام العربي، وإن الجميع سيراجع أوراقه ويعيد ترتيب أولوياته.. وبرنامج (مقص الرقيب) لم يعد ـ كما كان ـ يتصدر أجندة الإعلام في أبو ظبي، لذلك ـ ولأسباب أخرى ـ فقد تقرر وقفه نهائياً...
كانت تونس ـ كما فهمت لاحقاً ـ قد بعثت باحتجاج رسمي إلى الإمارات على "تشويه سمعة الرئيس زين العابدين من خلال الإعلان الترويجي، والعزم على بث معلومات مغلوطة ومفبركة حول حقوق الإنسان في تونس".. وهددت ـ إذا أذيعت الحلقة ـ بقطع العلاقات الديبلوماسية بين البلدين، ولم تكن الإمارات بحاجة إلى التفريط في أي صوت عربي قد يساندها في مأزقها أمام الولايات المتحدة بعد الاشتباه في أحد مواطنيها ـ وهو مروان الشحي ـ بالضلوع في تنفيذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، وهذه هي إعادة الحسابات التي قصدها ـ فيما بدا لي ـ مدير التليفزيون..
وأغلق برنامج (مقص الرقيب) بابه في وجوه عشرات الممنوعين والمقموعين، وعلق على الباب لافتة تقول: مغلق لإعادة الحسابات.. لماذا ظهر البرنامج؟ ولماذا اختفى؟ الإجابة على هذين السؤالين تصف بدقة إشكالية الإعلام العربي، وهي وقوعه بين فكيّ السياسة والمنافسة.. فالكلمة الحرة عندنا لها صلاحية، تبدأ في ذروة التنافس بين وسائل الإعلام، وتنتهي إذا تضاربت مصالح أصحاب النفوذ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق