الخميس، 29 أبريل 2010

أرجع.. مرجعش!

"ما زلت في إجازة"...! يسيء الكثير من أصدقائي في لندن فهم هذه الإجابة حين يسألونني بدهشة: أين أنت؟... فالإجازة (في أوروبا والدول المتقدمة) تعني الاسترخاء والتخلص لفترة من ضغوط الحياة! يحسدونني هؤلاء الحمقى، فهم لا يعرفون كيف بدت لي بلادي بعد سنوات من الغربة.. لا يعيشون حيرتي، ولا يحسّون بمرارة الغربة الجديدة التي طالت حلقي ونفذت إلى قلبي منذ هبطت بي الطائرة هذه المرة بالذات..
ما زلت في إجازة...! أقولها "من غير نِفس" وأنا أتطلع يائساً إلى المشهد وقد تاهت فيه كل التفاصيل الجميلة التي عرفتها قبل مغادرتي مصر منذ سنوات، وهيمن عليه بدلاً منها كل ما هو منَفِر وقبيح! أتنهد فأملاً صدري بدخان السجائر الذي أكرهه، ويتصبب عرقي فيختلط بالأتربة المحيطة بي من كل جانب، وأشعر بالتلزيق! ويتعطل تفكيري وأنا أتذكر لندن، ثم ألوم نفسي إذ جرؤت على المقارنة.. إنه الفرق بين السماء والأرض على رأي أحد زملائي الذين سمعوا عن العالم الخارجي ولم يروه قط.. محبَط هذا الزميل شأنه شأن كل من قابلتهم في الإجازة حتى الآن.. يا ربي! هل من متفائل في هذا البلد؟ رئيسة تحرير محسودة على بقائها في منصبها منذ أكثر من خمسة عشر عاماً اعترفت لي بإنها تخاف من بكره! شباب حديث التخرج لم يجد له وجهة فجلس في البيت، صحفيون مصابون بدوار الفضائيات، مخرجون ومنتجون، مديرون وموظفون، حتى القهوجي العابس، والسمسار الصعيدي، وصاحبه البواب الذي تزوج فتاة تصغره بثلاثين عاماً لتعينه على تنظيف شقق العمارة.. كلهم لا يكفون عن الشكوى.. أرى فيهم جميعاً موظف الاستقبال في فندق أمانة بالصومال حين قال لي: لو كانت زوجتي دولاراً لأكلتها!!
لم تكن إجازتي للتنزه.. لقد اقتنصتها من فم الأسد لرعاية أمي، أجّلت عملي ودراستي وجئت إليها لاهثاً عندما داهمتها نوبات السعال وآلام المفاصل.. ولكن (اللي يشوف بلوة غيره...)!! هكذا فكرت وأنا أقول بحزن لأحد الصحفيين المخضرمين وهو يجري معي حواراً: مصر عيانة.. ربنا يشفيها!! تجد أمي على الأقل من يأتي لها بالدواء، لكن مصر.. ملهاش حد!! الحكومة كل همها ألا يختنق المرور بالمعتصمين! وأقطاب النظام يفكرون في صحة الرئيس وتأثيرها على مستقبلهم! والإعلام الحكومي يثني على الواقع ولا يستغفر.. والإعلام الخاص يتسابق بجنون كالميكروباصات لمّا تفتح الإشارة.. والمظاهرات على ودنه، لكنها ليست بالدواء، إنها الآه فقط.. يسمعها القاصي والداني لكن أيا منهما لا يكترث! البرادعي أمل، لكن يعرف المتعلقون به أنه لن يغير شيئاً.. الدستور ـ الذي يطالبون بتعديله ـ ينظم تداول السلطة، لكن ماذا عن الجهل والفقر والمرض؟ الجمعيات الأهلية تنظم رحلات مخفضة لأعضائها لكنها لا توفر عشاءاً للجوعى، والأحزاب تجتمع.. ثم تجتمع وتجتمع، وبعد ذلك تجتمع كي تعود فتجتمع.. وفي النهاية ينام الجوعى بلا عشاء.. لا الحكومة أنصفتهم، ولا أطعمتهم الأحزاب ولا الجمعيات.. والبرادعي يلف ويدور آملاً في التغيير.. فلا يغيّر إلا قميصه عندما يشعر مثلي بالتلزيق!!
* * *
وحشتني لندن.. لا ترى في إعلامها مذيعة تعوم على عوم رئيس تحرير صحيفة حكومية وهو ينتقد المطالبين بالتغيير، ولا ثورة غضب على كاتب كشف صفقة سياسية بين الحكومة والمعارضة، ولا تستراً على مسؤول تقاضى رشوة وفضيحته في أمريكا على كل لسان.. فينك يا لندن تيجي تشوفي قذارة الشوارع في بلدي، والأرصفة المكسرة، والأسفلت الذي غار وكاد أن يبتلع سيارة في الأزاريطة، ووسائل المواصلات العامة التي لم أر مثلها إلا في بيشاور، وقطارات الدرجة الأولى التي تفوح من مقاعدها رائحة الغبار، وتمرح الفئران فيها على أرفف الحقائب (آه واللهِ)..
قال إجازة قال!!.. أي إجازة تلك وأنت تتحرك بسيارتك كالسلحفاة في ميدان الدقي الساعة الواحدة ظهراً، بينما يتمدد شخص في مثل سنك بالتأكيد على شاطئ ريفييرا في فرنسا متنعماً بإجازته.. أنت تنفخ من الزهق، وهو يستنشق اليود.. أنت تركن سيارتك صف تاني وتفضل أن تسير على قدميك في الحر كي تدرك موعدك وأنت تسب وتلعن.. وهو يدلك قدميه بالرمال الناعمة ويقرأ رواية عاطفية تحت الشمس!! متزعلش يا عم الفرنساوي، مش بحسدك!! أنا بحسدك بس!!!
كنت أشكو من كآبة المنظر في لندن عندما أطل من نافذتي على السماء الرمادية كل صباح، وأحمل مظلتي أينما ذهبت، وأعجز عن شراء رغيف خبز بعد العاشرة مساءاً.. يا لغبائي! إن كآبة لندن أرحم بكثيييير من غلاسة الموظفين في أي مصلحة حكومية هنا في مصر، الواحد منهم يعاملك كما لو كنت أنت الحكومة التي تدفع له راتبه الضئيل، ويطالبك بالرشوة عيني عينك ثم يضعها في درج مفتوح، واللي مش عاجبه يضرب دماغه في الحيط... كم أشتاق إلى وجه موظفة التذاكر الصبوح في محطة قطار إيجام على أطراف لندن حيث كنت أدرس قبل عامين، كانت تنصت لي وتقترح عليّ أوفر العروض وكأنني زبونها الوحيد، يا ترى كم كان راتبها؟... أما هنا فويلك إذا طلبت مثلي من إدارة البعثات أن تشرف ـ "شكلياً" بس ـ على رسالتك للدكتوراه في الخارج.. سوف يتطلب الأمر عشرات الوثائق والأختام، على رأسها موافقة مباحث أمن الدولة التي قد تستغرق أسابيعاً وربما شهوراً!! إسألني أنا! لا يحتفلون بك لأنك ترتقي بعلمك، ولا يهنئونك لأنك حظيت بالرعاية الأكاديمية من جامعات بلاد بره، وإنما يحققون معك: ليه؟ وفين؟ وعشان إيه؟؟؟ طبعاً إذا عدتُ إلى جامعتي في لندن وقلت لهم إن في بلدنا ينبغي لمباحث أمن الدولة أن توافق أولاً على دراسة المواطنين في الخارج فسوف يسخرون مني ويتهمونني بالجنون! أو قد يضيفون ذلك إلى أدلتهم القاطعة على تخلفنا وتخلف أجهزتنا الحكومية.. وعموماً أنا حطلع جدع ومش حقوللهم، بس الموافقة تطلع!!
إن تدهور بلادي ـ يا سادة قريش ـ لم يعد سراً يمكن إخفاؤه بمانشيت عن افتتاح مصنع أو إنشاء مدينة عمرانية جديدة على الصحفة الأولى في الأهرام وصورة الريس وهو يداعب عاملة ويسألها طبخِت إيه امبارح تتصدر الخبر.. إذا افتتِحَت عشراتُ المصانع فإن ذلك لن يصد كرة الاقتصاد المنحدرة لأسفل بسرعة الريح.. ولو شُيدت مئات الوحدات السكنية فإن ذلك لن يمنع سقوط صخرة جديدة في الدويقة على رؤوس سكانها، أو احتراق قلعة كبش أخرى بأطفالها وكلابها الضالة، ووقتها ستتكرر نفس ردود الأفعال الشعبية والرسمية، وحفكرك!!
* * *
هذا هو المشهد الذي وجدت عليه بلادي بعد أكثر من عشر سنوات.. الإنتاج قل، والفقر زاد، والجهل انتشر، والانتماء اختُزل في كرة القدم، والفساد أخذ رخصة، والمتفائلون صاروا عملة نادرة.. لماذا؟ ببراءة أسأل، مثلما سأل قبلي مئات ـ وربما آلاف ـ المصريين المقيمين في الخارج وخاطر العودة يراودهم.. هل هو الوضع السياسي الراكد بسبب الحجر الثقيل الجاثم على الصدور؟ هل هي الفجوة التي اتسعت بمقدار آلاف الفشخات (باللبناني) بين الأغنياء والفقراء؟ هل هو تضخم نفوذ رجال الأعمال واحتكارهم كل شيء حتى راحة البال؟ هل هي الزيادة السكانية؟ التعليم المتدني؟ المستشفيات المتدهورة؟ الإعلام المراهق؟ لماذا بلغت مصر هذا الدرك الأسفل رغم تاريخها ومكانتها؟ لماذا اختفى النشيد الوطني وحلت محله الهتافات ضد الحكومة والنظام؟ لماذا ترك المواطنون بيوتهم وعسكروا على الأرصفة للاحتجاج على معيشتهم من رغيف العيش إلى الحق في الحياة بكرامة؟؟ لماذا؟؟؟ محدش بيرد.....
"ما زلت في إجازة".... أيوه تاني! ألملم إجابات المتفزلكين على سؤالي التقليدي: أرجع مصر ولا مرجعش؟ استفتيت كل الأصدقاء ـ حتى المحبطين ـ بمزيج من الدهاء والإخلاص.. فعلتُ كما فعلَت أمي حين قالت بمكر لسائق التاكسي: دي الحياة بقى لونها بمبي!! فانتفض كمن عضه ثعبان، وصاح بغضب: بمبي إيييييه؟
الدنيا كلها ـ جمعاااااء ـ تحذرني من الرجوع الآن... بل هناك مِن أصدقائي مَن ينصحني بالبقاء في بريطانيا للأبد! ويسأل معاتباً: ترجع مصر تعمل إيه؟... أعمل إيه؟؟ أعيش... أتمتع بعُشِي بدلاً من التحليق في سماء الغير.. أردّ لبلادي ما استعدته لها من مستعمريها القدامى الذين نهبوا خيراتها قبل عشرات السنين.. أصلِحُ ما أفسده الدهر في وطني.. ألا يحق لمصر أن تستفيد من علمي وخبرتي؟ ألا أستحق أن أنال التقدير فيها مثلما نلته في الغرب؟ أليس من واجبي أن أساعد أولاد بلدي على النهوض والتقدم؟...
يسخر مني الأصدقاء وأنا أردد بحماس هذه التساؤلات.. لكن أحدهم يتطوع بحسم الجدل، ويبدأ في إسداء النصيحة الفاصلة: شوف يا عم المخلص.. بما إنك غاوي غلب يبقى ارجع براحتك، لكن عليك أن تلتحق بمجرد العودة بأحد مجالس الشر في مصر!!!... وات؟؟؟ (يعني نعم يا روح ماما بالإنجليزي!!)... أحدق فيه لأتاكد أنه هو نفسه صديقى الطيب القديم، الذي لم أشك لحظة في حساسيته ورقة قلبه.. يضيف هامساً: لكي تتعايش مع الحيتان في بلدنا، يجب أن تحتمي بمجلس من مجالس الشر المتوفرة في كل المجالات، ستجد من أعضائها صحفيين ونقاداً ومسؤولين ورجال أعمال، إذا أعاق شخص ما مصالح أحدهم، يتحالف الجميع لإسقاطه.. ثم يضرب لي مثلاً بمسؤول كبير في وزارة الثقافة ترك منصبه بعد أن تكتل عليه مجلس الشر الذي ينتسب إليه هذا الصديق، الطيب سابقاً..!! أوه ماي جاد...! لو كنت المُخرج في هذا المشهد لأضفت في الخلفية أغنية (يا بلادي) الحزينة من فيلم (بحر البقر) بطولة ماجدة.. فقد انفطر قلبي عندما عرفت أن التكالب على المكاسب في مصر دفع بالمثقفين إلى حروب قذرة يتقاتلون فيها بهذه الضراوة، بدلاً من التكاتف من أجل حل مشاكل البلاد والخروج بها من أزمتها الطاحنة...
يخفف صديق آخر من صدمتي، ويقول بنبرة طبيب: يكفيك أن تتكىء على أحد مراكز القوة والنفوذ.. أسأله: تقصد وزير مثلاً؟ يقول مصححاً: لاااا.. أقصد رجل أعمال!! فالوزراء والمسؤولون لا مستقبل لهم الآن!! ثم يحصي لي أسماءاً بارزة نالت ما نالت بفضل فلان بيه وبدعم علان باشا.. فيييينِك يا لندن؟!! ياللي كل وظيفة شاغرة فيكي يجب أن تعلن للجميع على السواء بكل الوسائل، ويمر المتقدمون بتصفيات متدرجة، ويحصلون على فرص متساوية أمام لجان الاختيار، وفي النهاية يفوز الأكفأ.. لا يسمح البرلمان القوي بغير ذلك بديلاً، ومادام الإعلام الحر راضياً، فالأمن مستتب وكل شيء على ما يرام!!
صديق ثالث يهدىء من روعي، ويناولني بسرعة كوباً من الماء كي أبتلع الاقتراح السابق بعد أن وقف في زوري.. ثم يقدم اقتراحه العملي، المقدور عليه كما يصفه بحكمة: إنت تشغّل عندك اثنين، سائق يخلصك من منغصات المرور، ومحام ينوب عنك في المصالح الحكومية.. ثم تشتري شاليهاً في مارينا أو شرم الشيخ، وتقضي معظم وقتك هناك!! يا صلاة النبي.. إن صديقي يقترح أن أكون موجوداً ومش موجود.. أعيش في مصر المرتاحة وأتجنب مصر اللي طالع بوزها.. أمتنع عن الاختلاط بالموظفين، والسير في الشوارع، والاستماع إلى آهات المعتصمين وتوسلات الشحاذين.. وبدلاً من ذلك أمتع بصري بقصور وفيلات الساحل الشمالي والبحر الأحمر، وأحرك مصالحي بالريموت كونترول.. تباً لك!! فهكذا يحيا المتنطعون وليس أنا.. أنا لست من رجال الأعمال الذين تمنّعوا حين عُرضت عليهم المناصبُ الوزارية لأنها سترغمهم على مغادرة قصورهم والاحتكاك بهذا وذاك.. هكذا قال أحدهم على التليفزيون بالحرف!!
* * *
أزمتي كبيرة.. فوسائل الحياة الجديدة في مصر تستعصي عليّ.. لا أنا من هواة الحروب، ولا من محبي قملة القِرش، وأكره مارينا والريموت كونترول.. فماذا أفعل؟ ماذا يفعل من ضاق ذرعاً بكثرة الترحال، ويريد لبلده أن تحظى من شبابه بنصيب؟ أليست بلدي بحاجة إلى أبنائها المهاجرين؟ يردد السيد الرئيس والسادة الوزراء شعارات كتلك في المناسبات الانتخابية.. فهل يفضون بها المجالس؟ ألم تتراجع ريادة مصر الإعلامية حتى بعد السماح بإنشاء قنوات وصحف خاصة؟ هناك العشرات من المصريين البارزين في هذا المجال خارج مصر وباستطاعتهم استعادة هذه الريادة إذا أعطيت لهم الفرصة.. ألا تعترف الحكومة بفشلها في العملية التعليمية وإخفاقها في بناء أجيال تواكب العصر؟ أعرف العديد من خبراء التعليم المصريين في بريطانيا والولايات المتحدة لديهم القدرة على إنقاذ مصر من مستنقع الجهل والأمية... ألم يضرب الفساد قطاع الصحة في مصر، ولم يعد الرئيس شخصياً يخجل من السفر للعلاج في الخارج؟ الأطباء المصريون في أنحاء العالم هم صفوة الأساتذة في كل التخصصات، والواحد منهم برقبة عشرين وزير صحة في أي حكومة... إن مصر بحاجة لأولادها المبعثرين في الشرق والغرب.. مصر عيانة، والأم حين تمرض، يهرع إليها الأبناء كي يلتفوا حولها ويتسابقوا على رعايتها.. ولكن حين يسمع الأبناء عن مرض أمهم فلا تتحرك فيهم شعرة، يكون السؤال: هوا العيب ف مين؟ فينا ونحن نتلهف على العودة.. أم في بلادنا التي تتفنن في تطفيشنا، حتى من الإجازة؟
سأل من قبلي هذه الأسئلة الدكتور أحمد زويل، والدكتور فاروق الباز، والدكتور مجدي يعقوب.. كما سألها أمثالي ممن نالوا حظاً متواضعاً من العلم والخبرة في الخارج، وما أكثرهم.. وقفوا في لحظة ما في مفترق طرق بين البقاء والرجوع.. نظروا إلى الوراء فوجدوا المؤسسات الأكاديمية الغربية تحتضنهم وتوفر لهم شتى الإمكانات، وتمجد موهبتهم، وتصقلها بالدورات والرحلات العلمية.. ووجدوا وسائل الإعلام العربية والأجنبية تفخر بهم وتدفعهم إلى الصفوف الأولى.. ثم نظروا إلى الأمام فوجدوا حكومة ترتدي ثياباً مهلهلة ولا تريد أن تنظر في المرآة (أقرع ونُزَهِي!!).. الشعب حافي القدمين والأمن يقول له: وطي صوتك وانت بتصرخ من الجوع عشان الحكومة نايمة ومش عايزة حد يزعجها..!! عاد زويل والباز ويعقوب إلى من يحترمهم وليس إلى من يحتاجهم، فالعمر مش بعزقة.. ولم تتعظ مصر.. تواصل التطفيش المنهجي، فتخسر كل يوم ابناً من أبنائها قد يكون علاجها على يديه.. يقنعها أولاد الحلال من ذوي العقول البوليسية أن من يتربى في الخارج، قد يعود بقيم ديمقراطية لا تناسبنا، ويوجع دماغنا باللي بيحصل في لندن واللي بيحصل في أمريكا واللي بيحصل في الهند.. فلنركز جهدنا على مواجعة المشاغبين في الداخل.. مش ناقصين!!
* * *
ويبقى السؤال بلا إجابة: أرجع ولا مرجعش؟.. أشق طريقي في زحام الإسكندرية ساعة الذروة، قاصداً وادي الشلالات الموازي لشارع السلطان حسين.. أتذكر صديقي الذي عالج نفسه من الاكتئاب بالتردد على هذه الحديقة في الظلام الدامس كل ليلة قبل الفجر.. كان يتجرد من ملابسه، ثم يقفز بهستيريا وسط الأشجار وهو يسب ويشتم كل ما ومن يخطر على باله: الحكومة.. المحافظة.. الجزار.. وزير التعليم... بعدها يرتدي الشاب المكتئب ملابسه ويعود للمنزل في استسلام وقد نفّس عن غضبه، ليبدأ يومه الجديد مرتاحاً.. بينما يتمدد صاحبنا الفرنساوي على شاطئ الريفييرا بلا عقد أو كلاكيع..
أقطف وردة رقيقة من الحديقة، وأملأ صدري برائحتها، ثم أعتذر لها مشفقاً وأنا أشرع في نتف أوراقها، الواحدة بعد الأخرى، فيما أردد في حيرة: أرجع.. مرجعش.. أرجع.. مرجعش.. أرجع.. مرجعش!
________________________
* نشرت بجريدة الدستور المصرية يوم 28 أبريل 2010

الأربعاء، 21 أبريل 2010

«أبطال» في معركة الحرية قبل 10 سنوات.. فأين هم الآن؟

من بين آلاف الأوراق المحنطة في خزانتي منذ سنين، أستخرج قائمة بأسماء برزت في يوم ما علي صفحات الصحف والمجلات بوصفها ضحية للرقابة علي الرأي والتعبير.. أسماء كان الدفاع عن معظمها مبرراً لوضعك علي القوائم الأمنية كالحة السواد.. كان كل اسم من هذه الأسماء يحتل من وقتي أسبوعاً كاملاً، أدرس قضيته بعمق، وأحاور أطرافها بقدر ما تؤهلني موضوعيتي، ثم أبث ما تجود به عليّ أقدار الحرية علي شاشة تليفزيون أبوظبي في عصر نهضته..

بعد عشر سنوات، ها هي القائمة تخرج للنور مرة أخري، بعد أن قرر ابراهيم عيسي أن يبتعث علي صفحات (الدستور) رسالة برنامج (مقص الرقيب) الممنوع منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر.. ووجدت نفسي كمن قطع غربته وعاد إلي أرض الوطن.. وأول ما قصده هو «شلته» القديمة.. «شلة» المدافعين عن حرية الكلمة والفكر في العالم العربي والإسلامي قبل عقد من الزمان.. تمعنت في القائمة واستعدت بعض الذكريات.. الدنيا في ذلك الوقت كانت ـ رغم كل شيء ـ لا تزال بخير.. لم تكن هجمات نيويورك ـ وما تبعها من غزو أفغانستان ثم العراق ـ قد «لحست» أدمغة الشعوب والحكومات.. الصحفيون كانوا يحصدون الفرص بالكاد، أربعة أو خمسة منهم فقط كانت الشاشة الفضية قد دعتهم لإعداد وتقديم برامج لها طابع التحقيق الصحفي... أنظر إلي المشهد اليوم، واحتفظ لنفسك ـ مثلي ـ بالتعليق!

في خضم هذا السيرك المتواصل، لم أجد لمعظم أبطال حلقاتي القديمة أثراً.. لقد ملأوا الدنيا صخباً من قبل بمواقفهم وأعمالهم، فماذا فعلت بهم أهم عشر سنوات في تاريخ أمتنا؟ هذه السنوات العشر هي التي كبحت ثورات وأشعلت فتناً.. غربلت شعارات وأسقطت أقنعة.. وبالضرورة ستكون قد تركت بصمتها علي مسيرة هؤلاء الأبطال.. فأين هم؟ وماذا يفعلون الآن؟

1

عالية شعيب وليلي العثمان أديبتان كويتيتان تبني البرنامج قضيتهما بعد أن حوكمتا بسبب كتاباتهما «الداعية للرذيلة».. ليلي العثمان اعتذرت لي وقتها عن الظهور في البرنامج كي لا تغضب ولدها الذي كان ـ وربما لا يزال ـ منغمساً في إحدي الجماعات الدينية، أما الدكتورة عالية شعيب فقد لبت الدعوة، وظهرت بشعرها المكشوف وثيابها الضيقة تدافع عن قصيدتها التي تغزلت في تفاحة فاعتبرت دعوة للسحاق!!

تراجعت شهرة الأديبتين في غضون أشهر قليلة، فقد ارتدت عالية شعيب الحجاب بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، واعتذرت عن أعمالها السابقة، ثم خصصت كتاباتها الجديدة لحض الشباب علي التحلي بالقيم الإسلامية.. أما ليلي العثمان فقد نزلت لفترة علي رغبة ابنها وتوارت في بيروت، لكنها عادت من جديد بنبرة أشد قسوة علي الدين الإسلامي باعتباره «قيدٌ يمنعنا من صنع علبة كبريت» علي حد قولها.. واتهمت كثيراً بمجاراة العداء الغربي لكل ما هو عربي وإسلامي، ولا أحد يفهم حتي الآن سر هذا الانعطاف الحاد في حياة كل من السيدتين المثيرتين للجدل، والذي نراه كذلك مكتسحاً المجتمعات الإسلامية بضراوة منذ بداية الحرب علي ما يسمي الإرهاب، والاعتقاد ـ الذي روج له الإعلام الغربي ـ بأن كل من هو مسلم هو إرهابي.. البعض تحدي هذا المفهوم الملتبس بمزيد من التدين، فازدادت أعداد المنتسبين للجماعات الدينية وتضاعفت أعداد المحجبات والمنتقبات.. والبعض الآخر وجد في معسكر الغرب القويّ سنداً لأفكاره المنددة بالتدين الشكلي، فعلت نبرته واشتد هجومه علي الإسلام الرجعي ـ كما يصفه هذا التيار ـ إلي حد المبالغة..

انعكس هذا التحول علي فئات المثقفين وأصحاب الرأي، عن اقتناع أو بتشجيع من ممولي الفكر... نعم ممولو الفكر! فالغرب يموّل عقول مؤيديه بالمكاسب والامتيازات، أو حتي بالمديح والإطراء، كما أن بعض الأيديولوجيات الدينية تموّل جمهورها علي نفس النحو.. لم تكن عالية شعيب وليلي العثمان وحدهما من غيرت هذه السنوات العشر من أفكارهما عن الدين سواء بالسلب أو الإيجاب.. كثير من أساتذة الجامعات والمفكرين تجاوبوا مع هذا الصخب الديني.. لكنهم في الوقت نفسه فشلوا في دحر موجة الانهيار الأخلاقي التي صاحبت ظاهرة التدين، بل لم يعملوا علي ذلك...

2

المخرج السوري مصطفي العقاد قطع المسافة من الولايات المتحدة إلي الإمارات تلبية لدعوتي، عندما أقنعته بفتح ملف فيلمه الممنوع (الرسالة)، ودار بيننا حوار طويل روي لي فيه كيف عاني من تعقب الجماعات المتشددة لأعماله رغم أنه كان خير من دعا بفنه للإسلام وقيمه النبيلة، قال لي العقاد إن جماعة أطلقت علي نفسها (المسلمون الأحناف) هاجمت ثلاث بنايات رئيسية في واشنطن وقت عرض فيلم (الرسالة) لأول مرة بزعم أن السينما حرام، فكيف إذا تناولت قصة سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم؟!! نجح العقاد في إقناع العديد من الدول بعرض فيلمه إلا مصر، وكان حظه عاثراً علي الدوام مع الجماعات الدينية، إلي أن سقط شهيداً ـ بعد خمس سنوات من لقائي الوحيد به ـ في تفجير انتحاري وقع بالعاصمة الأردنية عمّان، بحجة أن هذه المدينة الهادئة باتت «نقطة انطلاق للحرب علي الإسلام بعد غزو العراق».. وهكذا اختفي من قائمتي واحد من أبرز أسمائها، ضحية الجهل والتعصب..

3

طارق أيوب مراسل الجزيرة هو الآخر قتل.. وقد تحديت المنافسة بين قناتيّ الجزيرة وأبوظبي في ذلك الوقت، وخصصت له حلقة أندد فيها باعتقاله مع اثنين من زملائه أثناء تغطية مهرجان بالأردن في ذكري نكبة 1948، وأعترفُ أن سلبية وزير الإعلام الأردني طالِب الرفاعي تجاه هذا الأمر ضاعفت من قسوتي عليه في الحوار، وجعلتني أبالغ في إحراجه، حتي إنه استقال بعد بث الحلقة بأسبوعين، وأبلغني المستشار الخاص لأحد وزراء الإعلام العرب متشفياً أن برنامجي كان السبب في استقالته! ونقل لي من الوزير الخليجي عرضاً مغرياً بتقلد منصب في محطتهم التليفزيونية الجديدة، مكافأة علي الإطاحة بالوزير المنافس!! فرفضت متندراً بتفاهة الخصومة بين الوزيرين!!... المهم أن طارق أيوب كان أول شهداء الصحافة في حرب العراق، بعد أن استهدفه صاروخ أمريكي أثناء استعداده لبث آخر تطورات الغزو علي الهواء!

وقد شهد هذا العقد المحموم أكبر عدد من جرائم قتل الصحفيين في الميدان، ولا غرابة في ذلك مع التنافس بين وسائل الإعلام الذي فرضه انتشار الفضائيات وسرعة وصول الخبر عبر الإنترنت، في وقت صار النبأ الأبرز في أغلب الأحيان تفجيراً هنا أو قصفاً هناك.. ولأن الإعلام الغربي دأب علي تزييف الحقائق فقد دُفِع بصحفيينا ومراسلينا إلي أماكن الأحداث الساخنة.. وهنا صارت تغطية الخبر عند البعض تحيزاً إذا لم تنل رضا أحد أطراف الحدث، وصارت مقابلة زعيم معارض تعاوناً معه أوتورطاً في حزبه أو جماعته..

لقد أصبح الصحفي بطلاً في الأحداث دون أن يقصد.. وبات إخراسه هدفاً ولو بالقتل.. وهو بالضبط ما حدث مع الزميل والصديق الراحل طارق أيوب، الذي مُحي اسمُه من قائمتي بصاروخ أمريكي غاشم.. ثم تلاه مازن دعنا مصور وكالة رويترز الذي اغتيل في العراق عام 2004، وكان هذا الشاب الفلسطيني المخلص هو الذي التقط لي صوراً فوتوغرافية وأنا أشتبك مع قائد الشرطة الإسرائيلية وجنوده في مدينة الخليل المحتلة أثناء محاولتهم منعي من التصوير عام 2000، وهي الصور التي أثبتت من جديد اعتداء الإسرائيليين علي حرية الإعلام، وتسبب نشرها في منعي من دخول الأراضي الفلسطينية مرة أخري.. وقد رفض مازن رفضاً باتاً الظهور في برنامجي عندما علم باستضافتي شخصيات إسرائيلية، وغضبت لذلك وقتها، لكن متابعتي لعمله ومواقفه بعد ذلك أكدت لي كم كان وطنياً لا يزايد ولا يساوم.. وها قد قتل هو الآخر واختفي من قائمتي خلال هذه السنوات العشر الحزينة...

4

المصير نفسه واجهه رفيق الحريري رئيس الوزراء اللبناني، الذي شكا في برنامجي من التنصت علي هاتفه وهاتف نبيه بري- رئيس مجلس النواب- وغيرهما من رجال السياسية في لبنان، من قِبَل المخابرات السورية بحسب ظنه، وقد كرستُ ساعة تليفزيونية كاملة في محاولة مني لكشف هذا المخطط، وأشد ما أذهلني هو اكتشافي لبعض الشبكات المنظمة التي تديرها قوي سياسية في لبنان لها انتماءات مختلفة، تقوم باعتراض المكالمات الهاتفية والتجسس عليها ـ خارج إطار القانون ـ لعدد من الشخصيات البارزة، إما بقصد اغتيالها كما في حالة الحريري، أو لتعقب حركتها واستغلال أسرارها ومساومتها ضمن لعبة سياسية رخيصة... بل كشف لي مدير عام إحدي شركات الهاتف الجوال الشهيرة في لبنان عن أن الحكومة لا تسمح باستيراد وتركيب جهاز للاتصالات إلا إذا كان معه جهاز آخر يمَكِن من التنصت عليه!! كشفت هذا الملف القذر ولم يتحرك أحد.. وظلت القضية مطروحة في الإعلام اللبناني عاماً بعد عام دون تدخل السلطات.. ثم وقف الحريري في مجلس النواب وسخر من التنصت علي هاتفه، وقال لنبيه بري -رئيس مجلس النواب- متهكماً: لقد استمعوا لمكالمتنا أنا وأنت ليلة أمس، فماذا ننتظر؟!! لكن سلطات الأمن كانت «ودن من طين وودن من عجين»!!

ولعل استمرار واستمراء الرقابة علي هاتف الزعيم السني هو الذي قاد لاغتياله بعد نحو أربع سنوات، في تفجير أطاح باستقرار البلاد وأودي بحياة العديد من الساسة والصحفيين، سقطوا ضحية التصدع في العلاقات بين سوريا ولبنان، الذي عمّقه الغرب باتهام سوريا الدائم بدعم وتمويل الإرهاب بعد أحداث سبتمبر..

5

معتقل الخيام، الذي شهد تعذيب أربعة صحفيين لبنانيين ـ ضمن آلاف المعتقلين ـ علي يد جنود الاحتلال الإسرائيلي وعملائهم، كان بعد تحريره مسرحاً لحلقة كاملة من البرنامج.. قضيت فيه ليلة قارصة البرودة في ديسمبر من عام ألفين، أتجول في طرقاته الموحشة وزنازينه المقبضة.. شرح لي أحد أسراه المحررين كيف كان ثلاثة آلاف معتقل ـ منهم أربعمائة سيدة وفتاة ـ يُحشرون في زنازين إفرازية لا يتعدي طولها وعرضها تسعين سنتيمتراً.. وحكي لي كيف كان يتم تعليق السجناء في باحة السجن وسكب الماء البارد والساخن علي أجسادهم العارية من الصباح للمساء، ثم جلدهم بالسياط حتي تتساقط قطع اللحم من أكتافهم وظهورهم.. وكيف كان يتم صعق الأسري بالكهرباء، وكيف كان العملاء والمحققون الإسرائيليون يدوسون بأحذيتهم رؤوسَ المعتقلين المعصوبة جيئة وذهاباً بسعادة وشماتة.... هذه الحلقة هزتني، وفرحت أن العالم شاهد من خلالها عن قرب مثالاً جديداً علي وحشية إسرائيل.. بل وطالب أحدُ الكتاب في صحيفة الحياة اللندنية وقتها بضم الحلقة إلي ملف محاكمة شارون أمام المحاكم البلجيكية بتهمة انتهاكه معاهدة جنيف..

لكن المعتقل أبيد في حرب لبنان عام 2006، التي شجعتها إدارة بوش اعتقاداً أنها ستوفر لإسرائيل الأمن وتقضي علي سلاح المقاومة.. واختفي أثره من تاريخ الإسرائيليين الأسوَد في لبنان، خلال السنوات العشر التي بلغت فيها الغطرسة الأمريكية والإسرائيلية ذروتها..

كما أن حزب الله كان موضع إشادة في البرنامج عام ألفين لتفوقه في الحرب الإعلامية ضد إسرائيل، لكنه مع نهاية تلك السنوات العشر ها هو يئن بسبب الهجوم عليه من قبل بعض الحكومات العربية وأبواقها.. فمن كان يصدق عام ألفين ـ بعد أشهر من تحرير الجنوب اللبناني ـ أن يؤول المقاومون الأشراف إلي هذا المصير في نهاية العقد الفاصل؟ من كان يتوقع أن السيد حسن نصر الله زعيم حزب الله يمكن أن يتهم بجرجرة بلاده إلي حرب غير متكافئة تأتي بالكامل علي بنيتها التحتية، ثم يتورط في عملية تهريب أسلحة أو عتاد للفلسطينيين في غزة عبر مصر، فتنتهز الحكومة المصرية الفرصة للقضاء علي سمعته والطعن في سيرته.. لكن هذا هو حال كل شيء في هذه السنوات العشر التي أباحت شرف الأمة في العراق، وأفسحت الأراضي العربية للقواعد العسكرية الأجنبية، وانحنت فيها قامات الرؤساء والملوك علي أعتاب البيت الأبيض.. فلم لا تلوث سير الشرفاء؟ ولم لا يستباح مقام المناضلين؟

6

أبوحمزة المصري وأبوقتادة، اللذان ضيقت عليهما قوانين مكافحة الإرهاب في بريطانيا عام ألفين، وتظاهرا في مقابلتي معهما بالضعف والمسكنة، لم تمض سنوات قليلة حتي أودعا المعتقل، في حين طُرِد من بريطانيا زميلهما الثالث عمر بكري زعيم جماعة (المهاجرون) المتشددة.. لقد بدأ هذا العقد بمشهد ترتع فيه هذه القيادات الدينية المتشددة علي المسرح البريطاني.. لندن كانت وقتها ملاذاً آمناً للجماعات الجهادية ورموزها المطلوبة في بلدانها، لكن هذا العقد انتهي بمشهد مناقض، اختفت فيه أغلب هذه القيادات بعد أن وضعت في السجون.. ولم تعد بريطانيا تفكر في استئناس المعارضين العرب علي أراضيها.. أبوقتادة قال لي متصنعاً البراءة: نحن هنا عابرو سبيل، لماذا يقلقون من وجودنا؟ وعمر بكري قال لي بعزم: لن أغادر هذه الأرض إلا وهي إسلامية!! وكان قد بعث للملكة إليزابيث خطاباً يدعوها فيه للإسلام، فشكرته وقالت له: أنا مبسوطة كده!! وأبوحمزة قال لي عشية تفجير المدمرة كول في اليمن: فلتحترق الولايات المتحدة بأكملها!! فأين الزعماء الثلاثة الآن؟ بعد أن كانوا يمرحون بتحد ويوزعون فتاواهم ونصائحهم القتالية قبل عشر سنوات.. ها هم اختفوا من قائمتي، وحلّوا في سجون إنفرادية خلف الشمس.. فقط أتندر!!

7

وعلي أثر الأزمة الشهيرة التي خلفها نشر رواية (وليمة لأعشاب البحر) في مصر، ولكي توحي الحكومة بأنها ترعي الأخلاق وتدافع عن الدين، تبرعت سلطات الأمن باعتقال الكاتب صلاح الدين محسن بتهمة ازدراء القرآن وسب النبي عليه الصلاة والسلام في كتابه (ارتعاشات تنويرية)، وقد منعتني وزارة الداخلية وقتها من مقابلته في سجنه، لكنه مع ذلك نال حظه من الدفاع عن حقه في التعبير عن أفكاره أمام من هاجموها وكفروه بسببها.. وقد خرج الرجل من سجنه في النهاية ولكن إلي المهجر، حيث «طفش» من مصر أم الدنيا، ورحل إلي كندا، التي اتسع صدرها لجنوح آرائه، بعد أن زاد بسبب ما ناله من إيذاء جسدي في فترة الاعتقال...


8

لكن ـ وفي مقابل هذه النهايات غير السعيدة ـ فإن بطل الحلقة الأولي وحده ما زال يتربع علي المسرح.. فقد كانت جريدة الدستور هي أولي الضحايا الذين تصدي البرنامج للدفاع عنهم، وذلك عندما منعت من الصدور عام ثمانية وتسعين.. إبراهيم عيسي كان وقتها ـ وربما لا يزال ـ يرتاد مقهي فيينا الشهير بوسط القاهرة، بعد أن أغلقت السلطات في وجهه كل أبواب الرزق، حاورته هناك وهو يلعب الطاولة ويدخن الشيشة مع زميليه جمال فهمي وإيهاب الزلاقي.. وهذه الأيام تحتفل الدستور بدخول عامها السادس، بعد أن عادت للصدور، وصارت أغلب الصحف تحاكي أسلوبها الصحفي المميز..

* * *

تأملت في أسماء أخري ضمتها القائمة لمفكرين وأصحاب رأي تكشفت بمضي الأعوام أغراضهم الحقيقية، وبرهنت مواقفهم الجديدة علي استعدادهم للتكيف مع السلطة إذا ما لوحت لهم بخنصرها وقدمت لهم أدني الإغراءات.. بعد عشر سنوات وربما أكثر، تتبدي حكمة التعاطي الإعلامي مع كثير من القضايا.. فمَن مِن الثوار كان يستحق المساندة، ومن منهم لم يستحق؟ كم من المناضلين سيواصل المعركة، وكم منهم سينحني مع الوقت أمام العاصفة؟ من سيترفع عن المزايدة بحقوقه، ومن سيبيعها لمن يدفع أكثر؟ من الصعب علينا ـ كإعلاميين ـ أن نجيب عن مثل هذه الأسئلة إلا بعد مرور فترة من الوقت.. فإذا كان منوطاً بك أن توفر للجمهور مادة للمشاهدة مرة كل أسبوع، سيكون التأمل في مستقبل رسالتك الإعلامية ضرباً من الترف!

______________________________________

* نشرت بصحيفة (الدستور) المصرية يوم ٢١ أبريل ٢٠١٠

الجمعة، 16 أبريل 2010

مصطفى أمين..

ليس من قبيل المصادفة أن أعود إلى مصر في زيارة طويلة نسبياً فيتسنى لي الاطلاع عن قرب على ملامح المشهد الإعلامي الجديد، وأن يتواكب ذلك مع ذكرى رحيل أستاذي مصطفى أمين، الذي تركت وفاته عام 1997 فراغاً في حياتي الشخصية ومسيرتي المهنية على السواء.. لم يعبث القدر حين دبر لي هذا التزامن بحيث تزداد دهشتي من رسائله التي أتلقاها بين الحين والحين.. لا أفهم حكمتها في الحال بالضرورة، لكنني أستسلم لها طائعاً، بل وكثيراً ما أتلذذ بها..


عرفت الأستاذ مصطفى أمين عندما كنت طفلاً لم يتجاوز منتصف عقده الثاني، اقتطفت أمي ذات نهار من صحيفة الأخبار عموده (فكرة) حول فضل الأم واقترحت عليّ قراءته، واستجبت لها في يوم من أيام طاعتي النادرة لوالديّ.. قرأت المقال وأبهرتني سلاسته.. ثم وجدتني أطبق ما نصح به الأبناء في عيد الأم، فقد نزل في قلبي حبه وحب كلماته ونصائحه بروح طفل يبحث عن مثله الأعلى.. بدأ وجود مصطفى أمين في حياتي يزداد بعد أن استعرت من مكتبة البلدية في الإسكندرية كتبه سنة أولى وثانية وثالثة سجن وحتى السنة التاسعة، وقرأتهم جميعاً بنهَم، وأسرتني قصته البطولية ووجدت فيها ضالتي، فقد بلور لي حلماً ظل يداعبني زمناً، وهو إصدار مجلة!


عندما صدرت مجلتي ذات الصفحات العشرين، مطبوعة بآلة كاتبة بدائية، لم تكن إدراة مدرستي الإعدادية قد انتبهت إلى مقالي الذي تصدّر العدد الأول، منتقداً سياساتها وكاشفاً عن مافيا الدروس الخصوصية بين مدرسيها.. انتشرت المجلة في أوساط الطلبة، الذين أرغمهم ناظر المدرسة على تسليم نسخهم مدعياً رغبته في تصويب خطأ مطبعي في آية قرآنية، ثم حرق النسخ جميعاً أمام عينيّ في دورة المياه!


شكوت للأستاذ مصطفى أمين في رسالة باكية ما تعرضت له الصحافة الطلابية على يد الناظر الديكتاتور، وكان جواب الأستاذ الرقيق أن دعاني لمقابلته بمكتبه يوم الثامن من يناير عام 1987.. وأمامه أعدت الحكاية بنبرة واعدة، فأنصت هو إليها بأبوة بالغة، ثم قال لي: إن انتصارك على الرقيب لا يكون إلا بإصرارك على خروج العدد الثاني من المجلة للنور، فإذا صادره كذلك فلتصدر العدد الثالث، ثم الرابع والخامس، وهكذا... قلت له بحزن: إن أبي منع عني المصروف، من أين لي أن أموّل عملية الطباعة المكلفة بعد الآن؟ فابتسم وقال: كم تكلفت طباعة العدد الأول؟ فأجبت متندراً: ثمانية جنيهات ونصف!! دسّ يده في محفظته وأخرج منها عشرة جنيهات، وقال: خذ هذه.. و"ليست لك حجة بعد الآن"! تمنعت قليلاً بحجة أن مجلتي لا تقبل التبرعات!! فقال بثقة: إنها دَيْن.. عليك أن ترده من أول جائزة لك في الصحافة..


بعد أقل من عشر سنوات منحني الكاتب الكبير جائزته الشهيرة مع نخبة من رجال الإعلام والفن والسياسة في مصر، كنت قد تخرجت وعملت بالأهرام فور تخرجي، وكان هذا الحفل هو الأخير في حياة الأستاذ.. وعندما طلب مني أن أنوب عن أوائل كليات الإعلام المكرمين في إلقاء كلمة، رويت هذه القصة، وأضفت: في يدي الآن شيك بألف جنيه قيمة الجائزة التي حلمت بها كثيراً.. فليأذن لي أستاذي بأن أرد له العشرة جنيهات.. الدَيْن القديم، الذي لولاه لما ازداد إصراري على العمل بالصحافة، ولما حظيت اليوم بشرف الوقوف أمامكم! فعلق الأستاذ مصطفى أمين بصوته الرخيم: لن أسترد منك هذا الجنيهات العشر، وإنما سوف أتنازل عنها وأضيفها لجائزتك.. وبذا تصبح صاحب أكبر جائزة في هذا الحفل...


مات أستاذي في العام التالي، وترك لي رصيداً هائلاً من الرسائل والنصائح والقصص والمواقف.. وسرت في جنازته مع الملايين، تائهاً كمن فقد بوصلته التي كان يهتدي بها.. وبرحيله بدأ نبع الأساتذة في النضوب.. رحل الأستاذ سعيد سنبل، الذي أرسلني بعد تخرجي لزميله ابراهيم نافع مع رسالة تقول: أهديك في عيد ميلادك الطالب الأول على دفعته في قسم الإعلام وأمهر زملائه في الكمبيوتر.. سوف تحتاج إليه كثيراً في مستقبل الأهرام! وهكذا عينت في الأهرام على الفور... كما رحل جلال الحمامصي ووجيه أبو ذكري وعبد الفتاح البارودي وغيرهم من الأساتذة الذين كثيراً ما استقبلوني وأنا ما زلت طفلاً يهوى الصحافة، وعلموني ألف باء المهنة..


في ذكرى وفاة الأستاذ مصطفى أمين.. يفضح المشهد الإعلامي ملامح مختلفة على وجه المهنة العجوز، حيث يتكالب الصحفيون على النجومية والمال، ويتلوَن بعضهم وفقاً لاحتياجات الفرصة المتاحة، فرصة النفوذ و"العلاقات" والمناصب.. ولا يأبه أي منهم بالتلاميذ أو الأقل حظاً في المهنة... أتطلع إلى المشهد سعيداً ونادماً.. سعيداً بأنني عاصرت آخر جيل الأساتذة، ونادماً لأن المهنة لم تعد لها قيمة أو ثمن...