"ما زلت في إجازة"...! يسيء الكثير من أصدقائي في لندن فهم هذه الإجابة حين يسألونني بدهشة: أين أنت؟... فالإجازة (في أوروبا والدول المتقدمة) تعني الاسترخاء والتخلص لفترة من ضغوط الحياة! يحسدونني هؤلاء الحمقى، فهم لا يعرفون كيف بدت لي بلادي بعد سنوات من الغربة.. لا يعيشون حيرتي، ولا يحسّون بمرارة الغربة الجديدة التي طالت حلقي ونفذت إلى قلبي منذ هبطت بي الطائرة هذه المرة بالذات..
ما زلت في إجازة...! أقولها "من غير نِفس" وأنا أتطلع يائساً إلى المشهد وقد تاهت فيه كل التفاصيل الجميلة التي عرفتها قبل مغادرتي مصر منذ سنوات، وهيمن عليه بدلاً منها كل ما هو منَفِر وقبيح! أتنهد فأملاً صدري بدخان السجائر الذي أكرهه، ويتصبب عرقي فيختلط بالأتربة المحيطة بي من كل جانب، وأشعر بالتلزيق! ويتعطل تفكيري وأنا أتذكر لندن، ثم ألوم نفسي إذ جرؤت على المقارنة.. إنه الفرق بين السماء والأرض على رأي أحد زملائي الذين سمعوا عن العالم الخارجي ولم يروه قط.. محبَط هذا الزميل شأنه شأن كل من قابلتهم في الإجازة حتى الآن.. يا ربي! هل من متفائل في هذا البلد؟ رئيسة تحرير محسودة على بقائها في منصبها منذ أكثر من خمسة عشر عاماً اعترفت لي بإنها تخاف من بكره! شباب حديث التخرج لم يجد له وجهة فجلس في البيت، صحفيون مصابون بدوار الفضائيات، مخرجون ومنتجون، مديرون وموظفون، حتى القهوجي العابس، والسمسار الصعيدي، وصاحبه البواب الذي تزوج فتاة تصغره بثلاثين عاماً لتعينه على تنظيف شقق العمارة.. كلهم لا يكفون عن الشكوى.. أرى فيهم جميعاً موظف الاستقبال في فندق أمانة بالصومال حين قال لي: لو كانت زوجتي دولاراً لأكلتها!!
لم تكن إجازتي للتنزه.. لقد اقتنصتها من فم الأسد لرعاية أمي، أجّلت عملي ودراستي وجئت إليها لاهثاً عندما داهمتها نوبات السعال وآلام المفاصل.. ولكن (اللي يشوف بلوة غيره...)!! هكذا فكرت وأنا أقول بحزن لأحد الصحفيين المخضرمين وهو يجري معي حواراً: مصر عيانة.. ربنا يشفيها!! تجد أمي على الأقل من يأتي لها بالدواء، لكن مصر.. ملهاش حد!! الحكومة كل همها ألا يختنق المرور بالمعتصمين! وأقطاب النظام يفكرون في صحة الرئيس وتأثيرها على مستقبلهم! والإعلام الحكومي يثني على الواقع ولا يستغفر.. والإعلام الخاص يتسابق بجنون كالميكروباصات لمّا تفتح الإشارة.. والمظاهرات على ودنه، لكنها ليست بالدواء، إنها الآه فقط.. يسمعها القاصي والداني لكن أيا منهما لا يكترث! البرادعي أمل، لكن يعرف المتعلقون به أنه لن يغير شيئاً.. الدستور ـ الذي يطالبون بتعديله ـ ينظم تداول السلطة، لكن ماذا عن الجهل والفقر والمرض؟ الجمعيات الأهلية تنظم رحلات مخفضة لأعضائها لكنها لا توفر عشاءاً للجوعى، والأحزاب تجتمع.. ثم تجتمع وتجتمع، وبعد ذلك تجتمع كي تعود فتجتمع.. وفي النهاية ينام الجوعى بلا عشاء.. لا الحكومة أنصفتهم، ولا أطعمتهم الأحزاب ولا الجمعيات.. والبرادعي يلف ويدور آملاً في التغيير.. فلا يغيّر إلا قميصه عندما يشعر مثلي بالتلزيق!!
* * *
وحشتني لندن.. لا ترى في إعلامها مذيعة تعوم على عوم رئيس تحرير صحيفة حكومية وهو ينتقد المطالبين بالتغيير، ولا ثورة غضب على كاتب كشف صفقة سياسية بين الحكومة والمعارضة، ولا تستراً على مسؤول تقاضى رشوة وفضيحته في أمريكا على كل لسان.. فينك يا لندن تيجي تشوفي قذارة الشوارع في بلدي، والأرصفة المكسرة، والأسفلت الذي غار وكاد أن يبتلع سيارة في الأزاريطة، ووسائل المواصلات العامة التي لم أر مثلها إلا في بيشاور، وقطارات الدرجة الأولى التي تفوح من مقاعدها رائحة الغبار، وتمرح الفئران فيها على أرفف الحقائب (آه واللهِ)..
قال إجازة قال!!.. أي إجازة تلك وأنت تتحرك بسيارتك كالسلحفاة في ميدان الدقي الساعة الواحدة ظهراً، بينما يتمدد شخص في مثل سنك بالتأكيد على شاطئ ريفييرا في فرنسا متنعماً بإجازته.. أنت تنفخ من الزهق، وهو يستنشق اليود.. أنت تركن سيارتك صف تاني وتفضل أن تسير على قدميك في الحر كي تدرك موعدك وأنت تسب وتلعن.. وهو يدلك قدميه بالرمال الناعمة ويقرأ رواية عاطفية تحت الشمس!! متزعلش يا عم الفرنساوي، مش بحسدك!! أنا بحسدك بس!!!
كنت أشكو من كآبة المنظر في لندن عندما أطل من نافذتي على السماء الرمادية كل صباح، وأحمل مظلتي أينما ذهبت، وأعجز عن شراء رغيف خبز بعد العاشرة مساءاً.. يا لغبائي! إن كآبة لندن أرحم بكثيييير من غلاسة الموظفين في أي مصلحة حكومية هنا في مصر، الواحد منهم يعاملك كما لو كنت أنت الحكومة التي تدفع له راتبه الضئيل، ويطالبك بالرشوة عيني عينك ثم يضعها في درج مفتوح، واللي مش عاجبه يضرب دماغه في الحيط... كم أشتاق إلى وجه موظفة التذاكر الصبوح في محطة قطار إيجام على أطراف لندن حيث كنت أدرس قبل عامين، كانت تنصت لي وتقترح عليّ أوفر العروض وكأنني زبونها الوحيد، يا ترى كم كان راتبها؟... أما هنا فويلك إذا طلبت مثلي من إدارة البعثات أن تشرف ـ "شكلياً" بس ـ على رسالتك للدكتوراه في الخارج.. سوف يتطلب الأمر عشرات الوثائق والأختام، على رأسها موافقة مباحث أمن الدولة التي قد تستغرق أسابيعاً وربما شهوراً!! إسألني أنا! لا يحتفلون بك لأنك ترتقي بعلمك، ولا يهنئونك لأنك حظيت بالرعاية الأكاديمية من جامعات بلاد بره، وإنما يحققون معك: ليه؟ وفين؟ وعشان إيه؟؟؟ طبعاً إذا عدتُ إلى جامعتي في لندن وقلت لهم إن في بلدنا ينبغي لمباحث أمن الدولة أن توافق أولاً على دراسة المواطنين في الخارج فسوف يسخرون مني ويتهمونني بالجنون! أو قد يضيفون ذلك إلى أدلتهم القاطعة على تخلفنا وتخلف أجهزتنا الحكومية.. وعموماً أنا حطلع جدع ومش حقوللهم، بس الموافقة تطلع!!
إن تدهور بلادي ـ يا سادة قريش ـ لم يعد سراً يمكن إخفاؤه بمانشيت عن افتتاح مصنع أو إنشاء مدينة عمرانية جديدة على الصحفة الأولى في الأهرام وصورة الريس وهو يداعب عاملة ويسألها طبخِت إيه امبارح تتصدر الخبر.. إذا افتتِحَت عشراتُ المصانع فإن ذلك لن يصد كرة الاقتصاد المنحدرة لأسفل بسرعة الريح.. ولو شُيدت مئات الوحدات السكنية فإن ذلك لن يمنع سقوط صخرة جديدة في الدويقة على رؤوس سكانها، أو احتراق قلعة كبش أخرى بأطفالها وكلابها الضالة، ووقتها ستتكرر نفس ردود الأفعال الشعبية والرسمية، وحفكرك!!
* * *
هذا هو المشهد الذي وجدت عليه بلادي بعد أكثر من عشر سنوات.. الإنتاج قل، والفقر زاد، والجهل انتشر، والانتماء اختُزل في كرة القدم، والفساد أخذ رخصة، والمتفائلون صاروا عملة نادرة.. لماذا؟ ببراءة أسأل، مثلما سأل قبلي مئات ـ وربما آلاف ـ المصريين المقيمين في الخارج وخاطر العودة يراودهم.. هل هو الوضع السياسي الراكد بسبب الحجر الثقيل الجاثم على الصدور؟ هل هي الفجوة التي اتسعت بمقدار آلاف الفشخات (باللبناني) بين الأغنياء والفقراء؟ هل هو تضخم نفوذ رجال الأعمال واحتكارهم كل شيء حتى راحة البال؟ هل هي الزيادة السكانية؟ التعليم المتدني؟ المستشفيات المتدهورة؟ الإعلام المراهق؟ لماذا بلغت مصر هذا الدرك الأسفل رغم تاريخها ومكانتها؟ لماذا اختفى النشيد الوطني وحلت محله الهتافات ضد الحكومة والنظام؟ لماذا ترك المواطنون بيوتهم وعسكروا على الأرصفة للاحتجاج على معيشتهم من رغيف العيش إلى الحق في الحياة بكرامة؟؟ لماذا؟؟؟ محدش بيرد.....
"ما زلت في إجازة".... أيوه تاني! ألملم إجابات المتفزلكين على سؤالي التقليدي: أرجع مصر ولا مرجعش؟ استفتيت كل الأصدقاء ـ حتى المحبطين ـ بمزيج من الدهاء والإخلاص.. فعلتُ كما فعلَت أمي حين قالت بمكر لسائق التاكسي: دي الحياة بقى لونها بمبي!! فانتفض كمن عضه ثعبان، وصاح بغضب: بمبي إيييييه؟
الدنيا كلها ـ جمعاااااء ـ تحذرني من الرجوع الآن... بل هناك مِن أصدقائي مَن ينصحني بالبقاء في بريطانيا للأبد! ويسأل معاتباً: ترجع مصر تعمل إيه؟... أعمل إيه؟؟ أعيش... أتمتع بعُشِي بدلاً من التحليق في سماء الغير.. أردّ لبلادي ما استعدته لها من مستعمريها القدامى الذين نهبوا خيراتها قبل عشرات السنين.. أصلِحُ ما أفسده الدهر في وطني.. ألا يحق لمصر أن تستفيد من علمي وخبرتي؟ ألا أستحق أن أنال التقدير فيها مثلما نلته في الغرب؟ أليس من واجبي أن أساعد أولاد بلدي على النهوض والتقدم؟...
يسخر مني الأصدقاء وأنا أردد بحماس هذه التساؤلات.. لكن أحدهم يتطوع بحسم الجدل، ويبدأ في إسداء النصيحة الفاصلة: شوف يا عم المخلص.. بما إنك غاوي غلب يبقى ارجع براحتك، لكن عليك أن تلتحق بمجرد العودة بأحد مجالس الشر في مصر!!!... وات؟؟؟ (يعني نعم يا روح ماما بالإنجليزي!!)... أحدق فيه لأتاكد أنه هو نفسه صديقى الطيب القديم، الذي لم أشك لحظة في حساسيته ورقة قلبه.. يضيف هامساً: لكي تتعايش مع الحيتان في بلدنا، يجب أن تحتمي بمجلس من مجالس الشر المتوفرة في كل المجالات، ستجد من أعضائها صحفيين ونقاداً ومسؤولين ورجال أعمال، إذا أعاق شخص ما مصالح أحدهم، يتحالف الجميع لإسقاطه.. ثم يضرب لي مثلاً بمسؤول كبير في وزارة الثقافة ترك منصبه بعد أن تكتل عليه مجلس الشر الذي ينتسب إليه هذا الصديق، الطيب سابقاً..!! أوه ماي جاد...! لو كنت المُخرج في هذا المشهد لأضفت في الخلفية أغنية (يا بلادي) الحزينة من فيلم (بحر البقر) بطولة ماجدة.. فقد انفطر قلبي عندما عرفت أن التكالب على المكاسب في مصر دفع بالمثقفين إلى حروب قذرة يتقاتلون فيها بهذه الضراوة، بدلاً من التكاتف من أجل حل مشاكل البلاد والخروج بها من أزمتها الطاحنة...
يخفف صديق آخر من صدمتي، ويقول بنبرة طبيب: يكفيك أن تتكىء على أحد مراكز القوة والنفوذ.. أسأله: تقصد وزير مثلاً؟ يقول مصححاً: لاااا.. أقصد رجل أعمال!! فالوزراء والمسؤولون لا مستقبل لهم الآن!! ثم يحصي لي أسماءاً بارزة نالت ما نالت بفضل فلان بيه وبدعم علان باشا.. فيييينِك يا لندن؟!! ياللي كل وظيفة شاغرة فيكي يجب أن تعلن للجميع على السواء بكل الوسائل، ويمر المتقدمون بتصفيات متدرجة، ويحصلون على فرص متساوية أمام لجان الاختيار، وفي النهاية يفوز الأكفأ.. لا يسمح البرلمان القوي بغير ذلك بديلاً، ومادام الإعلام الحر راضياً، فالأمن مستتب وكل شيء على ما يرام!!
صديق ثالث يهدىء من روعي، ويناولني بسرعة كوباً من الماء كي أبتلع الاقتراح السابق بعد أن وقف في زوري.. ثم يقدم اقتراحه العملي، المقدور عليه كما يصفه بحكمة: إنت تشغّل عندك اثنين، سائق يخلصك من منغصات المرور، ومحام ينوب عنك في المصالح الحكومية.. ثم تشتري شاليهاً في مارينا أو شرم الشيخ، وتقضي معظم وقتك هناك!! يا صلاة النبي.. إن صديقي يقترح أن أكون موجوداً ومش موجود.. أعيش في مصر المرتاحة وأتجنب مصر اللي طالع بوزها.. أمتنع عن الاختلاط بالموظفين، والسير في الشوارع، والاستماع إلى آهات المعتصمين وتوسلات الشحاذين.. وبدلاً من ذلك أمتع بصري بقصور وفيلات الساحل الشمالي والبحر الأحمر، وأحرك مصالحي بالريموت كونترول.. تباً لك!! فهكذا يحيا المتنطعون وليس أنا.. أنا لست من رجال الأعمال الذين تمنّعوا حين عُرضت عليهم المناصبُ الوزارية لأنها سترغمهم على مغادرة قصورهم والاحتكاك بهذا وذاك.. هكذا قال أحدهم على التليفزيون بالحرف!!
* * *
أزمتي كبيرة.. فوسائل الحياة الجديدة في مصر تستعصي عليّ.. لا أنا من هواة الحروب، ولا من محبي قملة القِرش، وأكره مارينا والريموت كونترول.. فماذا أفعل؟ ماذا يفعل من ضاق ذرعاً بكثرة الترحال، ويريد لبلده أن تحظى من شبابه بنصيب؟ أليست بلدي بحاجة إلى أبنائها المهاجرين؟ يردد السيد الرئيس والسادة الوزراء شعارات كتلك في المناسبات الانتخابية.. فهل يفضون بها المجالس؟ ألم تتراجع ريادة مصر الإعلامية حتى بعد السماح بإنشاء قنوات وصحف خاصة؟ هناك العشرات من المصريين البارزين في هذا المجال خارج مصر وباستطاعتهم استعادة هذه الريادة إذا أعطيت لهم الفرصة.. ألا تعترف الحكومة بفشلها في العملية التعليمية وإخفاقها في بناء أجيال تواكب العصر؟ أعرف العديد من خبراء التعليم المصريين في بريطانيا والولايات المتحدة لديهم القدرة على إنقاذ مصر من مستنقع الجهل والأمية... ألم يضرب الفساد قطاع الصحة في مصر، ولم يعد الرئيس شخصياً يخجل من السفر للعلاج في الخارج؟ الأطباء المصريون في أنحاء العالم هم صفوة الأساتذة في كل التخصصات، والواحد منهم برقبة عشرين وزير صحة في أي حكومة... إن مصر بحاجة لأولادها المبعثرين في الشرق والغرب.. مصر عيانة، والأم حين تمرض، يهرع إليها الأبناء كي يلتفوا حولها ويتسابقوا على رعايتها.. ولكن حين يسمع الأبناء عن مرض أمهم فلا تتحرك فيهم شعرة، يكون السؤال: هوا العيب ف مين؟ فينا ونحن نتلهف على العودة.. أم في بلادنا التي تتفنن في تطفيشنا، حتى من الإجازة؟
سأل من قبلي هذه الأسئلة الدكتور أحمد زويل، والدكتور فاروق الباز، والدكتور مجدي يعقوب.. كما سألها أمثالي ممن نالوا حظاً متواضعاً من العلم والخبرة في الخارج، وما أكثرهم.. وقفوا في لحظة ما في مفترق طرق بين البقاء والرجوع.. نظروا إلى الوراء فوجدوا المؤسسات الأكاديمية الغربية تحتضنهم وتوفر لهم شتى الإمكانات، وتمجد موهبتهم، وتصقلها بالدورات والرحلات العلمية.. ووجدوا وسائل الإعلام العربية والأجنبية تفخر بهم وتدفعهم إلى الصفوف الأولى.. ثم نظروا إلى الأمام فوجدوا حكومة ترتدي ثياباً مهلهلة ولا تريد أن تنظر في المرآة (أقرع ونُزَهِي!!).. الشعب حافي القدمين والأمن يقول له: وطي صوتك وانت بتصرخ من الجوع عشان الحكومة نايمة ومش عايزة حد يزعجها..!! عاد زويل والباز ويعقوب إلى من يحترمهم وليس إلى من يحتاجهم، فالعمر مش بعزقة.. ولم تتعظ مصر.. تواصل التطفيش المنهجي، فتخسر كل يوم ابناً من أبنائها قد يكون علاجها على يديه.. يقنعها أولاد الحلال من ذوي العقول البوليسية أن من يتربى في الخارج، قد يعود بقيم ديمقراطية لا تناسبنا، ويوجع دماغنا باللي بيحصل في لندن واللي بيحصل في أمريكا واللي بيحصل في الهند.. فلنركز جهدنا على مواجعة المشاغبين في الداخل.. مش ناقصين!!
* * *
ويبقى السؤال بلا إجابة: أرجع ولا مرجعش؟.. أشق طريقي في زحام الإسكندرية ساعة الذروة، قاصداً وادي الشلالات الموازي لشارع السلطان حسين.. أتذكر صديقي الذي عالج نفسه من الاكتئاب بالتردد على هذه الحديقة في الظلام الدامس كل ليلة قبل الفجر.. كان يتجرد من ملابسه، ثم يقفز بهستيريا وسط الأشجار وهو يسب ويشتم كل ما ومن يخطر على باله: الحكومة.. المحافظة.. الجزار.. وزير التعليم... بعدها يرتدي الشاب المكتئب ملابسه ويعود للمنزل في استسلام وقد نفّس عن غضبه، ليبدأ يومه الجديد مرتاحاً.. بينما يتمدد صاحبنا الفرنساوي على شاطئ الريفييرا بلا عقد أو كلاكيع..
أقطف وردة رقيقة من الحديقة، وأملأ صدري برائحتها، ثم أعتذر لها مشفقاً وأنا أشرع في نتف أوراقها، الواحدة بعد الأخرى، فيما أردد في حيرة: أرجع.. مرجعش.. أرجع.. مرجعش.. أرجع.. مرجعش!
________________________
ما زلت في إجازة...! أقولها "من غير نِفس" وأنا أتطلع يائساً إلى المشهد وقد تاهت فيه كل التفاصيل الجميلة التي عرفتها قبل مغادرتي مصر منذ سنوات، وهيمن عليه بدلاً منها كل ما هو منَفِر وقبيح! أتنهد فأملاً صدري بدخان السجائر الذي أكرهه، ويتصبب عرقي فيختلط بالأتربة المحيطة بي من كل جانب، وأشعر بالتلزيق! ويتعطل تفكيري وأنا أتذكر لندن، ثم ألوم نفسي إذ جرؤت على المقارنة.. إنه الفرق بين السماء والأرض على رأي أحد زملائي الذين سمعوا عن العالم الخارجي ولم يروه قط.. محبَط هذا الزميل شأنه شأن كل من قابلتهم في الإجازة حتى الآن.. يا ربي! هل من متفائل في هذا البلد؟ رئيسة تحرير محسودة على بقائها في منصبها منذ أكثر من خمسة عشر عاماً اعترفت لي بإنها تخاف من بكره! شباب حديث التخرج لم يجد له وجهة فجلس في البيت، صحفيون مصابون بدوار الفضائيات، مخرجون ومنتجون، مديرون وموظفون، حتى القهوجي العابس، والسمسار الصعيدي، وصاحبه البواب الذي تزوج فتاة تصغره بثلاثين عاماً لتعينه على تنظيف شقق العمارة.. كلهم لا يكفون عن الشكوى.. أرى فيهم جميعاً موظف الاستقبال في فندق أمانة بالصومال حين قال لي: لو كانت زوجتي دولاراً لأكلتها!!
لم تكن إجازتي للتنزه.. لقد اقتنصتها من فم الأسد لرعاية أمي، أجّلت عملي ودراستي وجئت إليها لاهثاً عندما داهمتها نوبات السعال وآلام المفاصل.. ولكن (اللي يشوف بلوة غيره...)!! هكذا فكرت وأنا أقول بحزن لأحد الصحفيين المخضرمين وهو يجري معي حواراً: مصر عيانة.. ربنا يشفيها!! تجد أمي على الأقل من يأتي لها بالدواء، لكن مصر.. ملهاش حد!! الحكومة كل همها ألا يختنق المرور بالمعتصمين! وأقطاب النظام يفكرون في صحة الرئيس وتأثيرها على مستقبلهم! والإعلام الحكومي يثني على الواقع ولا يستغفر.. والإعلام الخاص يتسابق بجنون كالميكروباصات لمّا تفتح الإشارة.. والمظاهرات على ودنه، لكنها ليست بالدواء، إنها الآه فقط.. يسمعها القاصي والداني لكن أيا منهما لا يكترث! البرادعي أمل، لكن يعرف المتعلقون به أنه لن يغير شيئاً.. الدستور ـ الذي يطالبون بتعديله ـ ينظم تداول السلطة، لكن ماذا عن الجهل والفقر والمرض؟ الجمعيات الأهلية تنظم رحلات مخفضة لأعضائها لكنها لا توفر عشاءاً للجوعى، والأحزاب تجتمع.. ثم تجتمع وتجتمع، وبعد ذلك تجتمع كي تعود فتجتمع.. وفي النهاية ينام الجوعى بلا عشاء.. لا الحكومة أنصفتهم، ولا أطعمتهم الأحزاب ولا الجمعيات.. والبرادعي يلف ويدور آملاً في التغيير.. فلا يغيّر إلا قميصه عندما يشعر مثلي بالتلزيق!!
* * *
وحشتني لندن.. لا ترى في إعلامها مذيعة تعوم على عوم رئيس تحرير صحيفة حكومية وهو ينتقد المطالبين بالتغيير، ولا ثورة غضب على كاتب كشف صفقة سياسية بين الحكومة والمعارضة، ولا تستراً على مسؤول تقاضى رشوة وفضيحته في أمريكا على كل لسان.. فينك يا لندن تيجي تشوفي قذارة الشوارع في بلدي، والأرصفة المكسرة، والأسفلت الذي غار وكاد أن يبتلع سيارة في الأزاريطة، ووسائل المواصلات العامة التي لم أر مثلها إلا في بيشاور، وقطارات الدرجة الأولى التي تفوح من مقاعدها رائحة الغبار، وتمرح الفئران فيها على أرفف الحقائب (آه واللهِ)..
قال إجازة قال!!.. أي إجازة تلك وأنت تتحرك بسيارتك كالسلحفاة في ميدان الدقي الساعة الواحدة ظهراً، بينما يتمدد شخص في مثل سنك بالتأكيد على شاطئ ريفييرا في فرنسا متنعماً بإجازته.. أنت تنفخ من الزهق، وهو يستنشق اليود.. أنت تركن سيارتك صف تاني وتفضل أن تسير على قدميك في الحر كي تدرك موعدك وأنت تسب وتلعن.. وهو يدلك قدميه بالرمال الناعمة ويقرأ رواية عاطفية تحت الشمس!! متزعلش يا عم الفرنساوي، مش بحسدك!! أنا بحسدك بس!!!
كنت أشكو من كآبة المنظر في لندن عندما أطل من نافذتي على السماء الرمادية كل صباح، وأحمل مظلتي أينما ذهبت، وأعجز عن شراء رغيف خبز بعد العاشرة مساءاً.. يا لغبائي! إن كآبة لندن أرحم بكثيييير من غلاسة الموظفين في أي مصلحة حكومية هنا في مصر، الواحد منهم يعاملك كما لو كنت أنت الحكومة التي تدفع له راتبه الضئيل، ويطالبك بالرشوة عيني عينك ثم يضعها في درج مفتوح، واللي مش عاجبه يضرب دماغه في الحيط... كم أشتاق إلى وجه موظفة التذاكر الصبوح في محطة قطار إيجام على أطراف لندن حيث كنت أدرس قبل عامين، كانت تنصت لي وتقترح عليّ أوفر العروض وكأنني زبونها الوحيد، يا ترى كم كان راتبها؟... أما هنا فويلك إذا طلبت مثلي من إدارة البعثات أن تشرف ـ "شكلياً" بس ـ على رسالتك للدكتوراه في الخارج.. سوف يتطلب الأمر عشرات الوثائق والأختام، على رأسها موافقة مباحث أمن الدولة التي قد تستغرق أسابيعاً وربما شهوراً!! إسألني أنا! لا يحتفلون بك لأنك ترتقي بعلمك، ولا يهنئونك لأنك حظيت بالرعاية الأكاديمية من جامعات بلاد بره، وإنما يحققون معك: ليه؟ وفين؟ وعشان إيه؟؟؟ طبعاً إذا عدتُ إلى جامعتي في لندن وقلت لهم إن في بلدنا ينبغي لمباحث أمن الدولة أن توافق أولاً على دراسة المواطنين في الخارج فسوف يسخرون مني ويتهمونني بالجنون! أو قد يضيفون ذلك إلى أدلتهم القاطعة على تخلفنا وتخلف أجهزتنا الحكومية.. وعموماً أنا حطلع جدع ومش حقوللهم، بس الموافقة تطلع!!
إن تدهور بلادي ـ يا سادة قريش ـ لم يعد سراً يمكن إخفاؤه بمانشيت عن افتتاح مصنع أو إنشاء مدينة عمرانية جديدة على الصحفة الأولى في الأهرام وصورة الريس وهو يداعب عاملة ويسألها طبخِت إيه امبارح تتصدر الخبر.. إذا افتتِحَت عشراتُ المصانع فإن ذلك لن يصد كرة الاقتصاد المنحدرة لأسفل بسرعة الريح.. ولو شُيدت مئات الوحدات السكنية فإن ذلك لن يمنع سقوط صخرة جديدة في الدويقة على رؤوس سكانها، أو احتراق قلعة كبش أخرى بأطفالها وكلابها الضالة، ووقتها ستتكرر نفس ردود الأفعال الشعبية والرسمية، وحفكرك!!
* * *
هذا هو المشهد الذي وجدت عليه بلادي بعد أكثر من عشر سنوات.. الإنتاج قل، والفقر زاد، والجهل انتشر، والانتماء اختُزل في كرة القدم، والفساد أخذ رخصة، والمتفائلون صاروا عملة نادرة.. لماذا؟ ببراءة أسأل، مثلما سأل قبلي مئات ـ وربما آلاف ـ المصريين المقيمين في الخارج وخاطر العودة يراودهم.. هل هو الوضع السياسي الراكد بسبب الحجر الثقيل الجاثم على الصدور؟ هل هي الفجوة التي اتسعت بمقدار آلاف الفشخات (باللبناني) بين الأغنياء والفقراء؟ هل هو تضخم نفوذ رجال الأعمال واحتكارهم كل شيء حتى راحة البال؟ هل هي الزيادة السكانية؟ التعليم المتدني؟ المستشفيات المتدهورة؟ الإعلام المراهق؟ لماذا بلغت مصر هذا الدرك الأسفل رغم تاريخها ومكانتها؟ لماذا اختفى النشيد الوطني وحلت محله الهتافات ضد الحكومة والنظام؟ لماذا ترك المواطنون بيوتهم وعسكروا على الأرصفة للاحتجاج على معيشتهم من رغيف العيش إلى الحق في الحياة بكرامة؟؟ لماذا؟؟؟ محدش بيرد.....
"ما زلت في إجازة".... أيوه تاني! ألملم إجابات المتفزلكين على سؤالي التقليدي: أرجع مصر ولا مرجعش؟ استفتيت كل الأصدقاء ـ حتى المحبطين ـ بمزيج من الدهاء والإخلاص.. فعلتُ كما فعلَت أمي حين قالت بمكر لسائق التاكسي: دي الحياة بقى لونها بمبي!! فانتفض كمن عضه ثعبان، وصاح بغضب: بمبي إيييييه؟
الدنيا كلها ـ جمعاااااء ـ تحذرني من الرجوع الآن... بل هناك مِن أصدقائي مَن ينصحني بالبقاء في بريطانيا للأبد! ويسأل معاتباً: ترجع مصر تعمل إيه؟... أعمل إيه؟؟ أعيش... أتمتع بعُشِي بدلاً من التحليق في سماء الغير.. أردّ لبلادي ما استعدته لها من مستعمريها القدامى الذين نهبوا خيراتها قبل عشرات السنين.. أصلِحُ ما أفسده الدهر في وطني.. ألا يحق لمصر أن تستفيد من علمي وخبرتي؟ ألا أستحق أن أنال التقدير فيها مثلما نلته في الغرب؟ أليس من واجبي أن أساعد أولاد بلدي على النهوض والتقدم؟...
يسخر مني الأصدقاء وأنا أردد بحماس هذه التساؤلات.. لكن أحدهم يتطوع بحسم الجدل، ويبدأ في إسداء النصيحة الفاصلة: شوف يا عم المخلص.. بما إنك غاوي غلب يبقى ارجع براحتك، لكن عليك أن تلتحق بمجرد العودة بأحد مجالس الشر في مصر!!!... وات؟؟؟ (يعني نعم يا روح ماما بالإنجليزي!!)... أحدق فيه لأتاكد أنه هو نفسه صديقى الطيب القديم، الذي لم أشك لحظة في حساسيته ورقة قلبه.. يضيف هامساً: لكي تتعايش مع الحيتان في بلدنا، يجب أن تحتمي بمجلس من مجالس الشر المتوفرة في كل المجالات، ستجد من أعضائها صحفيين ونقاداً ومسؤولين ورجال أعمال، إذا أعاق شخص ما مصالح أحدهم، يتحالف الجميع لإسقاطه.. ثم يضرب لي مثلاً بمسؤول كبير في وزارة الثقافة ترك منصبه بعد أن تكتل عليه مجلس الشر الذي ينتسب إليه هذا الصديق، الطيب سابقاً..!! أوه ماي جاد...! لو كنت المُخرج في هذا المشهد لأضفت في الخلفية أغنية (يا بلادي) الحزينة من فيلم (بحر البقر) بطولة ماجدة.. فقد انفطر قلبي عندما عرفت أن التكالب على المكاسب في مصر دفع بالمثقفين إلى حروب قذرة يتقاتلون فيها بهذه الضراوة، بدلاً من التكاتف من أجل حل مشاكل البلاد والخروج بها من أزمتها الطاحنة...
يخفف صديق آخر من صدمتي، ويقول بنبرة طبيب: يكفيك أن تتكىء على أحد مراكز القوة والنفوذ.. أسأله: تقصد وزير مثلاً؟ يقول مصححاً: لاااا.. أقصد رجل أعمال!! فالوزراء والمسؤولون لا مستقبل لهم الآن!! ثم يحصي لي أسماءاً بارزة نالت ما نالت بفضل فلان بيه وبدعم علان باشا.. فيييينِك يا لندن؟!! ياللي كل وظيفة شاغرة فيكي يجب أن تعلن للجميع على السواء بكل الوسائل، ويمر المتقدمون بتصفيات متدرجة، ويحصلون على فرص متساوية أمام لجان الاختيار، وفي النهاية يفوز الأكفأ.. لا يسمح البرلمان القوي بغير ذلك بديلاً، ومادام الإعلام الحر راضياً، فالأمن مستتب وكل شيء على ما يرام!!
صديق ثالث يهدىء من روعي، ويناولني بسرعة كوباً من الماء كي أبتلع الاقتراح السابق بعد أن وقف في زوري.. ثم يقدم اقتراحه العملي، المقدور عليه كما يصفه بحكمة: إنت تشغّل عندك اثنين، سائق يخلصك من منغصات المرور، ومحام ينوب عنك في المصالح الحكومية.. ثم تشتري شاليهاً في مارينا أو شرم الشيخ، وتقضي معظم وقتك هناك!! يا صلاة النبي.. إن صديقي يقترح أن أكون موجوداً ومش موجود.. أعيش في مصر المرتاحة وأتجنب مصر اللي طالع بوزها.. أمتنع عن الاختلاط بالموظفين، والسير في الشوارع، والاستماع إلى آهات المعتصمين وتوسلات الشحاذين.. وبدلاً من ذلك أمتع بصري بقصور وفيلات الساحل الشمالي والبحر الأحمر، وأحرك مصالحي بالريموت كونترول.. تباً لك!! فهكذا يحيا المتنطعون وليس أنا.. أنا لست من رجال الأعمال الذين تمنّعوا حين عُرضت عليهم المناصبُ الوزارية لأنها سترغمهم على مغادرة قصورهم والاحتكاك بهذا وذاك.. هكذا قال أحدهم على التليفزيون بالحرف!!
* * *
أزمتي كبيرة.. فوسائل الحياة الجديدة في مصر تستعصي عليّ.. لا أنا من هواة الحروب، ولا من محبي قملة القِرش، وأكره مارينا والريموت كونترول.. فماذا أفعل؟ ماذا يفعل من ضاق ذرعاً بكثرة الترحال، ويريد لبلده أن تحظى من شبابه بنصيب؟ أليست بلدي بحاجة إلى أبنائها المهاجرين؟ يردد السيد الرئيس والسادة الوزراء شعارات كتلك في المناسبات الانتخابية.. فهل يفضون بها المجالس؟ ألم تتراجع ريادة مصر الإعلامية حتى بعد السماح بإنشاء قنوات وصحف خاصة؟ هناك العشرات من المصريين البارزين في هذا المجال خارج مصر وباستطاعتهم استعادة هذه الريادة إذا أعطيت لهم الفرصة.. ألا تعترف الحكومة بفشلها في العملية التعليمية وإخفاقها في بناء أجيال تواكب العصر؟ أعرف العديد من خبراء التعليم المصريين في بريطانيا والولايات المتحدة لديهم القدرة على إنقاذ مصر من مستنقع الجهل والأمية... ألم يضرب الفساد قطاع الصحة في مصر، ولم يعد الرئيس شخصياً يخجل من السفر للعلاج في الخارج؟ الأطباء المصريون في أنحاء العالم هم صفوة الأساتذة في كل التخصصات، والواحد منهم برقبة عشرين وزير صحة في أي حكومة... إن مصر بحاجة لأولادها المبعثرين في الشرق والغرب.. مصر عيانة، والأم حين تمرض، يهرع إليها الأبناء كي يلتفوا حولها ويتسابقوا على رعايتها.. ولكن حين يسمع الأبناء عن مرض أمهم فلا تتحرك فيهم شعرة، يكون السؤال: هوا العيب ف مين؟ فينا ونحن نتلهف على العودة.. أم في بلادنا التي تتفنن في تطفيشنا، حتى من الإجازة؟
سأل من قبلي هذه الأسئلة الدكتور أحمد زويل، والدكتور فاروق الباز، والدكتور مجدي يعقوب.. كما سألها أمثالي ممن نالوا حظاً متواضعاً من العلم والخبرة في الخارج، وما أكثرهم.. وقفوا في لحظة ما في مفترق طرق بين البقاء والرجوع.. نظروا إلى الوراء فوجدوا المؤسسات الأكاديمية الغربية تحتضنهم وتوفر لهم شتى الإمكانات، وتمجد موهبتهم، وتصقلها بالدورات والرحلات العلمية.. ووجدوا وسائل الإعلام العربية والأجنبية تفخر بهم وتدفعهم إلى الصفوف الأولى.. ثم نظروا إلى الأمام فوجدوا حكومة ترتدي ثياباً مهلهلة ولا تريد أن تنظر في المرآة (أقرع ونُزَهِي!!).. الشعب حافي القدمين والأمن يقول له: وطي صوتك وانت بتصرخ من الجوع عشان الحكومة نايمة ومش عايزة حد يزعجها..!! عاد زويل والباز ويعقوب إلى من يحترمهم وليس إلى من يحتاجهم، فالعمر مش بعزقة.. ولم تتعظ مصر.. تواصل التطفيش المنهجي، فتخسر كل يوم ابناً من أبنائها قد يكون علاجها على يديه.. يقنعها أولاد الحلال من ذوي العقول البوليسية أن من يتربى في الخارج، قد يعود بقيم ديمقراطية لا تناسبنا، ويوجع دماغنا باللي بيحصل في لندن واللي بيحصل في أمريكا واللي بيحصل في الهند.. فلنركز جهدنا على مواجعة المشاغبين في الداخل.. مش ناقصين!!
* * *
ويبقى السؤال بلا إجابة: أرجع ولا مرجعش؟.. أشق طريقي في زحام الإسكندرية ساعة الذروة، قاصداً وادي الشلالات الموازي لشارع السلطان حسين.. أتذكر صديقي الذي عالج نفسه من الاكتئاب بالتردد على هذه الحديقة في الظلام الدامس كل ليلة قبل الفجر.. كان يتجرد من ملابسه، ثم يقفز بهستيريا وسط الأشجار وهو يسب ويشتم كل ما ومن يخطر على باله: الحكومة.. المحافظة.. الجزار.. وزير التعليم... بعدها يرتدي الشاب المكتئب ملابسه ويعود للمنزل في استسلام وقد نفّس عن غضبه، ليبدأ يومه الجديد مرتاحاً.. بينما يتمدد صاحبنا الفرنساوي على شاطئ الريفييرا بلا عقد أو كلاكيع..
أقطف وردة رقيقة من الحديقة، وأملأ صدري برائحتها، ثم أعتذر لها مشفقاً وأنا أشرع في نتف أوراقها، الواحدة بعد الأخرى، فيما أردد في حيرة: أرجع.. مرجعش.. أرجع.. مرجعش.. أرجع.. مرجعش!
________________________
* نشرت بجريدة الدستور المصرية يوم 28 أبريل 2010
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق