ليس من قبيل المصادفة أن أعود إلى مصر في زيارة طويلة نسبياً فيتسنى لي الاطلاع عن قرب على ملامح المشهد الإعلامي الجديد، وأن يتواكب ذلك مع ذكرى رحيل أستاذي مصطفى أمين، الذي تركت وفاته عام 1997 فراغاً في حياتي الشخصية ومسيرتي المهنية على السواء.. لم يعبث القدر حين دبر لي هذا التزامن بحيث تزداد دهشتي من رسائله التي أتلقاها بين الحين والحين.. لا أفهم حكمتها في الحال بالضرورة، لكنني أستسلم لها طائعاً، بل وكثيراً ما أتلذذ بها..
عرفت الأستاذ مصطفى أمين عندما كنت طفلاً لم يتجاوز منتصف عقده الثاني، اقتطفت أمي ذات نهار من صحيفة الأخبار عموده (فكرة) حول فضل الأم واقترحت عليّ قراءته، واستجبت لها في يوم من أيام طاعتي النادرة لوالديّ.. قرأت المقال وأبهرتني سلاسته.. ثم وجدتني أطبق ما نصح به الأبناء في عيد الأم، فقد نزل في قلبي حبه وحب كلماته ونصائحه بروح طفل يبحث عن مثله الأعلى.. بدأ وجود مصطفى أمين في حياتي يزداد بعد أن استعرت من مكتبة البلدية في الإسكندرية كتبه سنة أولى وثانية وثالثة سجن وحتى السنة التاسعة، وقرأتهم جميعاً بنهَم، وأسرتني قصته البطولية ووجدت فيها ضالتي، فقد بلور لي حلماً ظل يداعبني زمناً، وهو إصدار مجلة!
عندما صدرت مجلتي ذات الصفحات العشرين، مطبوعة بآلة كاتبة بدائية، لم تكن إدراة مدرستي الإعدادية قد انتبهت إلى مقالي الذي تصدّر العدد الأول، منتقداً سياساتها وكاشفاً عن مافيا الدروس الخصوصية بين مدرسيها.. انتشرت المجلة في أوساط الطلبة، الذين أرغمهم ناظر المدرسة على تسليم نسخهم مدعياً رغبته في تصويب خطأ مطبعي في آية قرآنية، ثم حرق النسخ جميعاً أمام عينيّ في دورة المياه!
شكوت للأستاذ مصطفى أمين في رسالة باكية ما تعرضت له الصحافة الطلابية على يد الناظر الديكتاتور، وكان جواب الأستاذ الرقيق أن دعاني لمقابلته بمكتبه يوم الثامن من يناير عام 1987.. وأمامه أعدت الحكاية بنبرة واعدة، فأنصت هو إليها بأبوة بالغة، ثم قال لي: إن انتصارك على الرقيب لا يكون إلا بإصرارك على خروج العدد الثاني من المجلة للنور، فإذا صادره كذلك فلتصدر العدد الثالث، ثم الرابع والخامس، وهكذا... قلت له بحزن: إن أبي منع عني المصروف، من أين لي أن أموّل عملية الطباعة المكلفة بعد الآن؟ فابتسم وقال: كم تكلفت طباعة العدد الأول؟ فأجبت متندراً: ثمانية جنيهات ونصف!! دسّ يده في محفظته وأخرج منها عشرة جنيهات، وقال: خذ هذه.. و"ليست لك حجة بعد الآن"! تمنعت قليلاً بحجة أن مجلتي لا تقبل التبرعات!! فقال بثقة: إنها دَيْن.. عليك أن ترده من أول جائزة لك في الصحافة..
بعد أقل من عشر سنوات منحني الكاتب الكبير جائزته الشهيرة مع نخبة من رجال الإعلام والفن والسياسة في مصر، كنت قد تخرجت وعملت بالأهرام فور تخرجي، وكان هذا الحفل هو الأخير في حياة الأستاذ.. وعندما طلب مني أن أنوب عن أوائل كليات الإعلام المكرمين في إلقاء كلمة، رويت هذه القصة، وأضفت: في يدي الآن شيك بألف جنيه قيمة الجائزة التي حلمت بها كثيراً.. فليأذن لي أستاذي بأن أرد له العشرة جنيهات.. الدَيْن القديم، الذي لولاه لما ازداد إصراري على العمل بالصحافة، ولما حظيت اليوم بشرف الوقوف أمامكم! فعلق الأستاذ مصطفى أمين بصوته الرخيم: لن أسترد منك هذا الجنيهات العشر، وإنما سوف أتنازل عنها وأضيفها لجائزتك.. وبذا تصبح صاحب أكبر جائزة في هذا الحفل...
مات أستاذي في العام التالي، وترك لي رصيداً هائلاً من الرسائل والنصائح والقصص والمواقف.. وسرت في جنازته مع الملايين، تائهاً كمن فقد بوصلته التي كان يهتدي بها.. وبرحيله بدأ نبع الأساتذة في النضوب.. رحل الأستاذ سعيد سنبل، الذي أرسلني بعد تخرجي لزميله ابراهيم نافع مع رسالة تقول: أهديك في عيد ميلادك الطالب الأول على دفعته في قسم الإعلام وأمهر زملائه في الكمبيوتر.. سوف تحتاج إليه كثيراً في مستقبل الأهرام! وهكذا عينت في الأهرام على الفور... كما رحل جلال الحمامصي ووجيه أبو ذكري وعبد الفتاح البارودي وغيرهم من الأساتذة الذين كثيراً ما استقبلوني وأنا ما زلت طفلاً يهوى الصحافة، وعلموني ألف باء المهنة..
في ذكرى وفاة الأستاذ مصطفى أمين.. يفضح المشهد الإعلامي ملامح مختلفة على وجه المهنة العجوز، حيث يتكالب الصحفيون على النجومية والمال، ويتلوَن بعضهم وفقاً لاحتياجات الفرصة المتاحة، فرصة النفوذ و"العلاقات" والمناصب.. ولا يأبه أي منهم بالتلاميذ أو الأقل حظاً في المهنة... أتطلع إلى المشهد سعيداً ونادماً.. سعيداً بأنني عاصرت آخر جيل الأساتذة، ونادماً لأن المهنة لم تعد لها قيمة أو ثمن...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق