أعلن وأنا في كامل قواي العقلية، وبملء إرادتي، انسحابي التام والنهائي من معسكر المتنورين المتفتحين، ثاقبي الفكر ونافذي البصيرة، الذين أفنوا شبابهم وبحّوا أصواتهم، من أجل إقناع المتهورين والمندفعين والبسطاء، بألا ينساقوا وراء "نظرية المؤامرة" التي يروج لها المغرضون والمأجورون، الذين يفسرون كل مصيبة على أنها من تدبير قوى خفية، تحرّك الشخصيات، وتضع الخطط، وتشتري الذمم، وتنفذ السيناريوهات، لخدمة مصالح النظام، وأقطابه وحاشيته، وأسياده وأتباعه، ورجاله ونسائه، وعياله وورثته!
كنت ـ كأقراني في هذا المعسكر ـ أعتدل في جلستي، وأعقد حاجبيّ، وأرخي جفنيّ، وأشرع في إبداء وجهة نظري تجاه أي جريمة أو كارثة، بادئاً بالقول: (أنا لست من أتباع نظرية المؤامرة!)... باعتبار أن نظرية المؤامرة خديعة.. وباعتبارها وهم وكذب وتضليل.. وباعتبارها خيال وسراب وضحك على الذقون! أستنكف على القلة القليلة أن تتهم جهات معلومة وغير معلومة بأنها وراء الجريمة! إذ هل يمكن أن ينفق المسؤول من وقته الثمين ولو ساعة واحدة في التخطيط للإيقاع بخصومه؟ هل يصدق أحد أن مسؤولاً أد الدنيا يجمع حلفاءه ومساعديه ويطلب منهم الفتك بأحد معارضيه، وإخراج مسرحية محبوكة لإقصائه عن طريقه، أو ربما إخفائه تماماً من الوجود؟ لا يمكن! "شيء لا يُصّدِكْه عَكْل"!
لكن ها أنذا.. وبالفُم المليان، أقول أنني كنت بريئاً! بعد أن اكتشفت أن من ينبذ نظرية المؤامرة وينفّر الناس منها، هو ذاته يحيك مؤامرة لإعماء الأبصار والبصائر عن الحقيقة.. وأنه بهذه الدعوة للإعراض عن مروجي نظرية المؤامرة، إنما يشوش على الراغبين في الفهم، ويعطل سعيهم لقراءة الأمور بشكل واقعي، بعيداً عن العواطف والمزايدات.. وبعيداً عن التسطيح والمغالاة! ولأن شعبنا طيب، ويأمل فقط في تأمين وجبة العشاء، فإنه يجد راحة في الدعوة إلى رفض وإنكار نظرية المؤامرة، ويطرد من رأسه أصوات المشككين والحذرين، مستنكراً عليهم تنغيص عيشته بالكلام عن الفساد والمكائد والمؤامرات.. وينهي الجدل ناصحاً: دع الملك للمالك!

ما قول هؤلاء إذن في إقالة ابراهيم عيسى من رئاسة تحرير الدستور؟ بدأ الأمر بشراء الصحيفة، ثم وقف برنامج عيسى على قناة أون تي في، متزامناً مع وقف برنامج عمرو أديب على قناة أوربيت، ثم إقالة مؤسس الدستور من رئاسة تحريرها في منتصف الليل، وإهانة صحفييها قبيل الفجر، والاستيلاء على ماكيناتها مع طلوع الشمس... هكذا كانت طريقة الرأس المدبر في الاحتفال بذكرى الغارة الجوية السريعة والنافذة في حرب أكتوبر المجيدة..
وما قول المتنصلين من نظرية المؤامرة في توقيت الإقالة، قبل أسابيع من انتخابات مجلس الشعب، وقبل أشهر من الانتخابات الرئاسية؟ وما قولهم فيمن يدافع عن حقوق الشعب الدستورية على منبر حزبه، ثم ينتهك حقوق الصحفيين وأصحاب الرأي بماله وسلطانه؟ وكيف يفسرون سطوع نجم رجل الأعمال "المعارض" في سماء السياسة والإعلام خلال أشهر قليلة، لينجح بين عشية وضحاها، وبسرعة مثيرة للدهشة والاستغراب، في الإجهاز على أكثر الأقلام المعارضة إزعاجاً واستفزازاً للنظام.. وهو إنجاز عجزت عنه الأجهزة الإعلامية والأمنية والقضائية خلال أكثر من عشر سنوات...؟
وماذا سيكون قول أعداء نظرية المؤامرة إذا نال حزبه التاريخي حظاً وافراً في انتخابات مجلس الشعب المقبلة؟ هل سنبقى جالسين في استرخاء على مقاعد "المعتدلين"، مدّعين أننا مازلنا نرفض نظرية المؤامرة، ونتهم المروجين لها بالمغالاة والتطرف في تفسير الأمور؟
قد يختلف البعض أو يتفق مع ابراهيم عيسى، قد يدينه البعض بإثارة الزوابع، وقد يدين له البعض الآخر بإلقاء الأحجار في الماء الراكد.. لكن يتفق الجميع على صفتين أصيلتين في تكوينه: موهبته، وصلابته... يحسده المترددون على إقدامه، فهو يكتب قبل أن يفكر، ودون أن يجري عشرات العمليات الحسابية كما يفعل الكثيرون الآن، ولو فعل ابراهيم عيسى ذلك، لربما رجع عن كثير مما كتب، وهدد بسببه أمنه ورزقه وحياته بأسرها..
أتذكر الآن رجل الأعمال الذي قال لي في نهاية التسعينات مبشراً ونذيراً، إنه لا يقاضي الصحفي إذا هدد مصالحه، وإنما يشتري صحيفته بالكامل.. قالها ورئيس الدولة يصدق على تعيينه رئيساً للمستثمرين في أحد أكبر المدن العمرانية الجديدة، بديلاً لزميله رجل الأعمال الذي جرسته الصحافة وضاق به النظام.. الأول جار عليه الزمن، والثاني انتصر على الإعلام بالإعلام.. وورث القاعدة رجل أعمال ثالث.. لكن لا أعتقد أن ابراهيم عيسى سيعود هذه المرة، ليلعب الطاولة على قهوة فيينا..
_____________
* نشرت بموقع الدستور الإلكتروني يوم 11 أكتوبر 2010