الثلاثاء، 26 أكتوبر 2010

يوم الاتنين


كان يوم اتنين..
وانا ماشي.. ومعايا اتنين..
والشارع ضلمة..
وأصحابي.. ماشيين ساكتين..

مرينا بجامع.. صلينا..
واتسلينا بسبحان الله..
ونسينا الدُنيا ومشاكلها..
واللي شاكِلها..
واللي خاصمها.. واللي شاكيلها
من خلق الله..

ورمينا همومها..
ومين يومها..
كان قلبه حزين؟

ده اللي بيتشعلق ف هدومها..
واللي بيتمنى الله يدومها..
واخداهم فين؟

وختمنا دعانا وتسابيحنا..
ورجِعنا الشارع من تاني..
واحد من دول قال للتاني:
صلينا أخيراً وارتحنا..
والراحة مهمة وبسطاني
مش برضه نرفّه عن روحنا..
زي ما روحنا ف ملكوت الله..

أنا عايز زفة محَوْطاني..
فيها أغاني..
والرقص اياه..

والفقر ف بيتنا التحتاني..
بشكل أناني..
عايز أنساه..

ياسلام على خاتم سِلِيماني..
كنز شِطاني..
للمال والجاه..

بصيت لصاحبنا الوَسطاني..
بيقول: ياني..
دي أكيد مأساة..

وورانا الخادم في الجامع..
شايف سامع..
والسبحة معاه..

وسمعتو بيدعي ويستغفر
لللي حيكفر..
ف طريق إبليس، رايح وياه....

وساعتها على الناصية لمحنا..
ف عز المِحنة..
سنيورة فستانها دبحنا..
شاوْرِتْ لواحد م الشلة.. والتاني بلاه..

صاحبنا قال استفتحنا..
حننسى جروحنا.. تْزيد تفاريحنا..
ما كفاية صلاة..

ملقيتش ع الجامع بواب..
يفتحلي الباب..
أو قلب خالي من العِلّة.. أهرب جواه..

وف لحظة كان صاحبي اتخدر..
بخته اتقدر..
قبل اما ينطق.. كان قرر..
يسرع ف خطاه..

لفت دراعها على وِسطه..
ماهي م اللي ع الضعفا بيسطوا..
وبيتبسطوا..
وأخينا اهو تاه..

وادّتني ف الآخر نظرة..
فيها النَّصرة..
وطريق ناوياه؟

صاحبي اللي كان ساكت بّلم..
خاف يتكلم..
مش باين انه بيتألم..
وعنيه شايفاه..

وفجأة قال الليل ضلم..
يللا نسلم..
أهو درس منه حيتعلّم..
مش موت وحياة..

لقيتني في الشارع محتار..
بين جنة ونار..
في لحظة الجد الواحد.. لازم يختار..
شيء راح يرضاه..

لا مشيت ورا اللي اختار يِقسى
قلبه ويعصى..
ولا سِبْتُه في ندالة وخسة..
ينسى ويرسى..
على شط هواه..

قعدت على باب الدكان..
مستني أدان..
يكتب لي مع صوته الرحمن..
ولصاحبي هداه..

الخميس، 21 أكتوبر 2010

إدارة "غبية" وفاشلة!


ينصر دينك يا أستاذ شبراوي! ماقلته في اجتماع لجنة الصناعة والطاقة في مجلس الشوري هذا الأسبوع صحيح مائة في المائة.. مصر بالفعل تحكمها إدارة غبية وفاشلة.. والدليل كما قلتَ أن دخلها القومي يعادل إنتاج شركة محمول لا أكثر!

أعجبني هذا التصريح لأنه يذكرنا بأننا لسنا في حاجة إلى زعماء سياسيين، بقدر ما نحتاج لرؤساء مجالس إدارات ومديرين.. البلد مشروع استثماري، والمواطن موظف في هذا المشروع، وزبون لديه في نفس الوقت.. وإدارتنا أخفقت في توفير بيئة إنتاج مثالية لموظفيها، كما أنها أنكرت حقوق الزبون، بل وتعدت عليها وعلى الزبون ذاته.. كيف يمكن أن يفرز ذلك مشروعاً ناجحاً؟ لذا فمن السهل على موظفي شركتنا الفاشلة أن يتخذوا قراراً بالهجرة إلى الشركات الأخرى، التي لا تغرق لأذنيها في الفساد، وتقدر موظفيها وزبائنها على السواء..

يقول قائل في ذم المرشحين المتوقعين للرئاسة إنهم يفتقرون للتاريخ السياسي والعسكري.. يزايد هذا القائل بانغماسه في الشارع المصري ووعيه بمشكلات البلد ومعاناة المواطن، والحقيقة أن حجته تلك إنما تعكس جهلاً واستخفافاً بواقع الحياة في مصر، وتاريخها عبر العقود الست الماضية.. فقد فشل الزعماء الحنجوريون والقادة العسكريون في الدفع بالبلاد خطوة للأمام، وتحقيق أدنى درجات النجاح والتميز.. لماذا لا نجرب نوعاً آخر من القادة؟ قادة لا يلبسون تاجاً وإنما يشمرون عن سواعدهم.. قادة يضعون الخطط وينفذونها، ولا يروجون فقط لبرامج انتخابية غير واقعية.. قادة يندمجون مع الشعب ولا يستأجرون الكومبارس لالتقاط الصور معهم في القري والحارات الشعبية..

المشروعات تفشل لعدة أسباب، يقول المنظرون إن أهمها: الضبابية في تحديد قيادة المشروع، والافتقار إلى الأهداف، وانعدام التواصل.. وهذه الأسباب تنطبق على حالتنا المستعصية بامتياز، فنحن لا نعرف من يقود مشروعنا المتعثر، أهي مؤسسة الرئاسة التي تمجد زعيماً روحياً غائباً؟ أم الحزب الوطني برغبته في الاستئثار بالسلطة والثروة والرأي العام؟ أم وزارة الداخلية بقبضتها الحديدية؟ أم رجال الأعمال الذي ينهبون بيد ويمولون السلطة باليد الأخرى؟ من يدير المشروع؟ ومن يوقع على قرارات البيع والشراء؟ ومن يتحمل مسئولية النجاح والفشل؟

كما أن شركتنا المفلسة تفتقر للأهداف الواضحة، فهي مرة تبحث عن الريادة في السوق، وتراهن على تاريخها في التحرر من الإدارات الأجنبية والعميلة، ومرة تنشغل بالتوسط بين أكثر الشركات تغولاً في المنطقة وأضعف الشركات وأشدها بؤساً وهواناً.. ومرة ثالثة تنهمك في الرد على "الدعايات المضادة"، فتنفق ملايين الجنيهات على تدشين وسائل إعلام صحفية وتليفزيونية، وإنشاء مناطق إعلامية "حرة"، ثم تقطع لسان مقدمي برامج، وتمنع بث قنوات تليفزيون، وتتورط في إقالة رئيس تحرير جريء، وتقيّد خدمة الرسائل الهاتفية الصحفية قبل الانتخابات.. وأخيراً تسخر برنامجها التليفزيوني الرئيسي للدعوة إلى إغلاق موقع الفيس بوك بحجة أنه نافذة للجاسوسية على مصر!! إلام تهدف هذه الإدارة؟ إلى الدفع بمشروعنا التعيس إلى الأمام؟ أم إلى جره عقوداً للوراء؟

أما عن انعدام التواصل، فحدث ولا حرج! فالقيادة "السياسية" لا تقرأ إلا عناوين الصفحة الأولى من الأهرام، بينما تروج إلى انقطاع منافسيها عن قضايا الشارع، ونقص خبرتهم في التعاطي معها.. السلطة تفوّض جنودها ومخبريها في الالتحام بالشعب، والمعارضة تفوض شباباً تحت العشرين في طرق الأبواب والتحدث إلى المارة والعابرين لأخذ توقيعهاتهم على بيانات التأييد والاستنكار.. من يسمتع إلينا إذن؟ من ينصت إلى مشاكلنا ويفكر معنا في الحلول؟ إن هذه الشركة تنقسم إلى طابقين، في العلوي تتربع الإدارة المنتفعة والفاشلة، وفي السفلي يقبع الموظفون والكادحون.. والسلالم خربة، والمصاعد معطلة.. والفراغ الشاسع بين الطابقين سيؤدي حتماً إلى انهيار أحدهما، ولكن على رأس الآخر...
_____________
* نشرت يصحيفة المصري اليوم يوم 21 أكتوبر 2010

الثلاثاء، 5 أكتوبر 2010

"نظرية" المؤامرة!


أعلن وأنا في كامل قواي العقلية، وبملء إرادتي، انسحابي التام والنهائي من معسكر المتنورين المتفتحين، ثاقبي الفكر ونافذي البصيرة، الذين أفنوا شبابهم وبحّوا أصواتهم، من أجل إقناع المتهورين والمندفعين والبسطاء، بألا ينساقوا وراء "نظرية المؤامرة" التي يروج لها المغرضون والمأجورون، الذين يفسرون كل مصيبة على أنها من تدبير قوى خفية، تحرّك الشخصيات، وتضع الخطط، وتشتري الذمم، وتنفذ السيناريوهات، لخدمة مصالح النظام، وأقطابه وحاشيته، وأسياده وأتباعه، ورجاله ونسائه، وعياله وورثته!

كنت ـ كأقراني في هذا المعسكر ـ أعتدل في جلستي، وأعقد حاجبيّ، وأرخي جفنيّ، وأشرع في إبداء وجهة نظري تجاه أي جريمة أو كارثة، بادئاً بالقول: (أنا لست من أتباع نظرية المؤامرة!)... باعتبار أن نظرية المؤامرة خديعة.. وباعتبارها وهم وكذب وتضليل.. وباعتبارها خيال وسراب وضحك على الذقون! أستنكف على القلة القليلة أن تتهم جهات معلومة وغير معلومة بأنها وراء الجريمة! إذ هل يمكن أن ينفق المسؤول من وقته الثمين ولو ساعة واحدة في التخطيط للإيقاع بخصومه؟ هل يصدق أحد أن مسؤولاً أد الدنيا يجمع حلفاءه ومساعديه ويطلب منهم الفتك بأحد معارضيه، وإخراج مسرحية محبوكة لإقصائه عن طريقه، أو ربما إخفائه تماماً من الوجود؟ لا يمكن! "شيء لا يُصّدِكْه عَكْل"!

لكن ها أنذا.. وبالفُم المليان، أقول أنني كنت بريئاً! بعد أن اكتشفت أن من ينبذ نظرية المؤامرة وينفّر الناس منها، هو ذاته يحيك مؤامرة لإعماء الأبصار والبصائر عن الحقيقة.. وأنه بهذه الدعوة للإعراض عن مروجي نظرية المؤامرة، إنما يشوش على الراغبين في الفهم، ويعطل سعيهم لقراءة الأمور بشكل واقعي، بعيداً عن العواطف والمزايدات.. وبعيداً عن التسطيح والمغالاة! ولأن شعبنا طيب، ويأمل فقط في تأمين وجبة العشاء، فإنه يجد راحة في الدعوة إلى رفض وإنكار نظرية المؤامرة، ويطرد من رأسه أصوات المشككين والحذرين، مستنكراً عليهم تنغيص عيشته بالكلام عن الفساد والمكائد والمؤامرات.. وينهي الجدل ناصحاً: دع الملك للمالك!

ما قول هؤلاء إذن في إقالة ابراهيم عيسى من رئاسة تحرير الدستور؟ بدأ الأمر بشراء الصحيفة، ثم وقف برنامج عيسى على قناة أون تي في، متزامناً مع وقف برنامج عمرو أديب على قناة أوربيت، ثم إقالة مؤسس الدستور من رئاسة تحريرها في منتصف الليل، وإهانة صحفييها قبيل الفجر، والاستيلاء على ماكيناتها مع طلوع الشمس... هكذا كانت طريقة الرأس المدبر في الاحتفال بذكرى الغارة الجوية السريعة والنافذة في حرب أكتوبر المجيدة..

وما قول المتنصلين من نظرية المؤامرة في توقيت الإقالة، قبل أسابيع من انتخابات مجلس الشعب، وقبل أشهر من الانتخابات الرئاسية؟ وما قولهم فيمن يدافع عن حقوق الشعب الدستورية على منبر حزبه، ثم ينتهك حقوق الصحفيين وأصحاب الرأي بماله وسلطانه؟ وكيف يفسرون سطوع نجم رجل الأعمال "المعارض" في سماء السياسة والإعلام خلال أشهر قليلة، لينجح بين عشية وضحاها، وبسرعة مثيرة للدهشة والاستغراب، في الإجهاز على أكثر الأقلام المعارضة إزعاجاً واستفزازاً للنظام.. وهو إنجاز عجزت عنه الأجهزة الإعلامية والأمنية والقضائية خلال أكثر من عشر سنوات...؟

وماذا سيكون قول أعداء نظرية المؤامرة إذا نال حزبه التاريخي حظاً وافراً في انتخابات مجلس الشعب المقبلة؟ هل سنبقى جالسين في استرخاء على مقاعد "المعتدلين"، مدّعين أننا مازلنا نرفض نظرية المؤامرة، ونتهم المروجين لها بالمغالاة والتطرف في تفسير الأمور؟
قد يختلف البعض أو يتفق مع ابراهيم عيسى، قد يدينه البعض بإثارة الزوابع، وقد يدين له البعض الآخر بإلقاء الأحجار في الماء الراكد.. لكن يتفق الجميع على صفتين أصيلتين في تكوينه: موهبته، وصلابته... يحسده المترددون على إقدامه، فهو يكتب قبل أن يفكر، ودون أن يجري عشرات العمليات الحسابية كما يفعل الكثيرون الآن، ولو فعل ابراهيم عيسى ذلك، لربما رجع عن كثير مما كتب، وهدد بسببه أمنه ورزقه وحياته بأسرها..

أتذكر الآن رجل الأعمال الذي قال لي في نهاية التسعينات مبشراً ونذيراً، إنه لا يقاضي الصحفي إذا هدد مصالحه، وإنما يشتري صحيفته بالكامل.. قالها ورئيس الدولة يصدق على تعيينه رئيساً للمستثمرين في أحد أكبر المدن العمرانية الجديدة، بديلاً لزميله رجل الأعمال الذي جرسته الصحافة وضاق به النظام.. الأول جار عليه الزمن، والثاني انتصر على الإعلام بالإعلام.. وورث القاعدة رجل أعمال ثالث.. لكن لا أعتقد أن ابراهيم عيسى سيعود هذه المرة، ليلعب الطاولة على قهوة فيينا..
_____________
* نشرت بموقع الدستور الإلكتروني يوم 11 أكتوبر 2010

الاثنين، 4 أكتوبر 2010

دانيال باكون

بينما أكتب لك هذه الكلمات من لندن، وتقرؤها أنت فى مصر.. ثمة شاب إنجليزى ترك بيته الريفى فى إحدى بلدات مقاطعة إسِكس البريطانية، يخطو الآن فى شوارع مدينة الإسكندرية خطواته الأولى، حاملاً معه حقيبة سفر فيها كل ما وقعت عليه يداه من كتب لتعليم اللغة العربية والتاريخ العربى والفرعونى وخرائط المواقع الأثرية فى مصر.. فبالأمس فقط شدّ هذا الشاب رحاله إلى بلادنا، عازماً على قضاء عشرة أشهر فى قلب ثقافة، حار كثيراً بين تاريخها المدوَّن باعتزاز وفخر فى مراجعه الجامعية، وصيتها الذائع فى الإعلام الغربى كثقافة ظلامية تدعو إلى الإرهاب وتحض على الكراهية.

"دانيال باكون" شاب فى العشرين، تعلم اللغة اللاتينية وأدب العصور الوسطى فى جامعة رويال هولواى.. لا يوجد فيه ما يميزه عن أى شاب مصرى سعى من القرية إلى المدينة طلباً للعلم.. منذ عرفته عام 2007 وهو يسألنى عن كل شىء إلا بلادى.. كتب فى مجلة الجامعة عن كل شىء إلا السياسة.. كان يقرأ قليلاً من الصحف، وكثيراً من الأدب، وكل همه أن يتقرب من إحدى زميلاته.. إنه شاب عادى لم ينخرط فى حزب ولم تجنده الكنيسة.. لكنه قطعاً كان يلاحظ الصراع الفكرى بين زملائه المسلمين وغير المسلمين، ويضعه فى سياق الاحتقان الثقافى السائد فى العالم.. لم يطلب منى إجابة أو تبريراً، ظل يراقب الوضع ببراءة تخفى حكمة وصبراً..

أنهى دانيال دراسته التى أحبها، وبدلاً من اصطحابى فى رحلة بإحدى الغابات كما كان يعدنى، قرر القيام بمغامرة أخرى فى العالم العربى، يبحث فيها عن حقيقة الإرهاب فى ثقافة هذه الأمة، واختار مصر التى يعلم أنها أم الدنيا.. لم يكترث بتحذيرات أقرانه المطلعين على الموقف السياسى المتوتر فى مصر، وأخبار المظاهرات التى تتوج بها وسائل الإعلام الغربى نشراتها وصحفها كل صباح.. لم يستأذن جهة رسمية ولم يلتمس من أحد المشورة.. سألنى فقط عن غرفة ليقيم فيها، ومعهد ليتعلم فيه اللغة العربية..

وعندما استقر وجدان دانيال على خوض هذه المغامرة دشن مدونة على الإنترنت بعنوان (المغامر المصرى)، ليشرع فى سرد ذكرياته عن هذه الرحلة حتى قبل أن تبدأ.. وفيها يقول: "إنها رحلة سوف تأخذنى إلى واحدة من أقدم بلدان العالم وأكثرها إثارة، أرض أسوان والأقصر وتوت عنخ آمون... إننى أتطلع لفهم مصر على حقيقتها.. هذا هو السبب الحقيقى لقيامى بتلك الرحلة"..

أتأمل هذا الفتى الإنجليزى المقدام.. أعرف أنه ادخر من مصروفه واقترض من والديه كى يموّل رحلته.. أمه كانت تصنع كوفيات من الصوف، ليبيعها لزملائه وينفق على نفسه، وكنت أول زبائنه وهكذا تعرفت عليه.. ليس ثرياً ولا من أسرة موسرة، وإنما على باب الله مثلى ومثلك.. أراد أن يصل إلى الحقيقة دون وسيط، مهما كان الثمن..

ساعدتُ دانيال باكون قدر ما أستطيع.. ولكن يا ترى كم من دانيال باكون فى الغرب يأمل فى أن يعرفنا عن قرب ولا يجد من يساعده؟ كم من أبناء الثقافات (الأخرى) ينظرون بعين الشك لادعاءات الإعلام الأمريكى والصهيونى؟ وكم منهم آمن بها لأنه لم يجد ما يخالفها؟

يأتى دانيال إلى مصر سعيداً، فكيف سيعود؟ كيف سيستقبله المصريون، وماذا سيتركون فى ذاكرته عن بلادهم؟ هل سيسيل لعاب سائقى التاكسيات عندما يشتمون منه رائحة العملة الصعبة؟ هل سيستغل الباعة جهله ويبتزونه؟ هل سيتذكر كل منا أن دانيال وأمثاله يأتون إلى مصر لأنهم يحبونها، فلا ينبغى أن يغادروها وهم يسبونها؟

دانيال سيشهد أهم عشرة أشهر فى تاريخ مصر الحديث، حيث التغيير هو مطلب الجميع.. فلعلنا نتغير أمام ضيفنا إلى الأفضل..
____________
* نشر بموقع اليوم السابع يوم 4 أكتوبر 2010
http://youm7.com/News.asp?NewsID=286539

الجمعة، 1 أكتوبر 2010

تصوير الأنبياء


لأنني في مجتمع يخدم كل أفراده بإخلاص في شرطة العقل والفكر، ترددت لحظات قبل أن أقرر التعليق على رفض مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر تصوير الأنبياء والصحابة في أعمال فنية.. إذا أثنيت على الرفض سيقاطعني أصدقائي "المتنورين"، وإذا أدنته فقد يتهمني أصدقائي "المتأسلمين" بالكفر.. سأعمل بنصيحة طازجة أسداها لي بلال فضل: سِد أذنيك واكتب ما تشاء!

بصراحة وخزتني الفتوى.. كنت قد ناقشت فيها رجال دين وفن في أحد برامجي قبل عشر سنوات، وطمأنني على أبو شادي رئيس الرقابة وقتها بأن دوام الحال من المحال! وكاد المخرج الراحل مصطفى العقاد أن يبكي وهو يقول لي بحسرة: فيلم واحد بعشرات الخطب على المنابر! واستمعت لرأي متشدد من شيخ هَرِم، فقلت: لن يُخَلَد! وانتهى البرنامج، وقدمت من بعده برنامجين أو ثلاثة، وسافرت، وعدت، ثم سافرت، وعدت.. ثم سافرت... وقبل أن أعود، ها أنذا أسمع نفس الفتوى من نفس البشر في ذات السياق.. ألا يتغير شيء في هذا البلد؟ زميلي المسيحي المهاجر يبشر بدينه عن طريق فيلم "آلام المسيح"، الذي جسد فيه الممثل الأمريكي جيمس كافيزل شخصية السيد المسيح عليه السلام، وشابان أحدهما إيطالي والآخر أمريكي سعيا لتبشيري بدين يسمى المورمونية، فقدما لي فيلماً مذهلاً مترجماً إلى 22 لغة، بعنوان "البعث" يجسد شخصية نبي المورمونية جوزيف سميث.. وطالب نيجيري انضم حديثاً لإحدى الكنائس البريطانية يباهي بترجمة إنجيله إلى كل لغات العالم، ويسألني: هل ترجم القرآن إلى اللغة الكيسكانية؟

العالم يتفنن في ابتكار طرق جديدة لتقديم وشرح المعلومة، الإنترنت والموبايل والأقمار الصناعية وتقنيات صناعة الأفلام ثلاثية ورباعية الأبعاد.. كل هذه الطفرات شيدت جسوراً لا نهائية للمعرفة.. لن يستطيع أن يصدها مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر، أو أن يضع أمامها المتاريس ونقاط التفتيش.. سنرى الأنبياء والصحابة في أفلام ومسلسلات، سنمل من كثرة الأعمال التي تجسد الصحابة، وسنشيد ببعضها وننتقد البعض الآخر.. وستدخل هذه الأعمال بيوتنا شئنا أم أبينا.. ولن يجد مجمع البحوث سوى الصمت والحيرة والاستسلام أمام هذه الموجة الكاسحة.. طوفان لا يمكن لعاقل أن يقطع عليه الطريق..

إذا كنا مؤمنين بحق، فأين الكياسة؟ سيرة الأنبياء في الكتب.. وأمثال عباس محمود العقاد وسعيد حوى وصفي الرحمن المباركفوري، جعلونا ـ بتمكنهم اللغوي وإبداعهم الأدبي ـ نرسم للأنبياء الكرام وصحابتهم صوراً نبيلة، ونسمع لهم أصواتاً في قلوبنا.. إن الإيمان يُطعِم الخيال واليقين معاً.. وبشرى الحديث القدسي بأن في الجنة (ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) هي دعوة للتخيل والتخمين.. تفتح الباب أمام آفاق لا يتسع لها النص، ولا يحرمنا متعتها وفائدتها المولى سبحانه وتعالى..

أنا لا أفتي.. حاش لله! أنا فقط أفكر في بلدي التي تكبلها الرهبة من مواجهة الحقيقة.. وأفكر في ربع الشعب المصري الذي لا يعرف كيف يكتب اسمه، فكيف بقراءة القرآن والإنجيل.. وأفكر في قافلة العلم والمعرفة التي انطلقت وتركتنا في قلب الصحراء.. وأفكر في الملايين الذين سيزداد إيمانهم والملايين الذين سيعرفون الله عز وجل بمشاهدة الأنبياء وصحابتهم على الشاشة.. هل يعتقد شيوخنا أن هؤلاء يكفيهم خطيب يتعثر في قراءة القرآن، أو ينصب الفاعل ويجر المفعول؟ هل يرضيهم المتحولون عن الإسلام في بريطانيا وأمريكا وحتى في باكستان؟ وإذا كان ضعف الإيمان في قلب الأمة ضرراً، ألا يصبح تجسيد الأنبياء والصحابة أخف وأهون؟
----------------------
* نشر في زاوية 7 أيام بصحيفة المصري اليوم يوم 14 أكتوبر 2010

الجمعة، 17 سبتمبر 2010

ابحثوا عن فان جوخ على اليوتيوب


كتبت من قبل عن أهمية وخطورة موقع يوتيوب على الإنترنت، وشجعت المصريين على التفاعل معه والاستفادة منه.. كنت أفكر في الناخب الأمريكي الذي يبحث عن رصيد مرشحي الكونجرس في دائرته على اليوتيوب قبل أن يمنحهم صوته، وكيف أن هذا الموقع التاريخي هو "مضبطة" حرة ينبغي توظيفها في السباق الإلكتروني الراهن.. لم يخطر ببالي أن لبعض المستخدمين المصريين خطة أخرى لاستغلال اليوتيوب، على نحو ينطوي على الحيلة والدهاء، لكنه يعكس خسة واستفزازاً لمشاعر المصريين الشرفاء.. فقد نبهتني بالأمس إحدى الزميلات في جامعة رويال هولواي البريطانية إلى وجود عشرات المقاطع المصورة، التي تم رفعها خلال الأسابيع الماضية على اليوتيوب، يحمل معظمها إشارة نصية واحدة، هي: آثار مصرية للبيع!!




وبما أن علاقتي بالآثار لا تتجاوز حلقة من برنامج تحقيقات تليفزيونية كنت أقدمه قبل ستة أعوام حول تهريب الآثار، فإنني أدعو المختصين والخبراء، وعلى رأسهم الوزير فاروق حسني، وزاهي حواس رئيس المجلس الأعلى للآثار، إلى أن يطبعوا في خانة البحث على اليوتيوب هذه العبارة الصادمة، ليشاهدوا ما شاهدت من لقطات مروعة، إذا تم التحقق من صدقيتها، ستكون عاراً في جبين الحكومة وأجهزة الأمن بأكملها..


يبدأ أحد هذه المقاطع بلقطة لورقة مدون عليها تاريخ التاسع من مايو الماضي، مثبتة على تابوت حافل بالنقوش الفرعونية البارزة والغائرة، ويبدو من الوهلة الأولى أن هذا التابوت يعود لشخصية بارزة في التاريخ الفرعوني.. ثم تنتقل الكاميرا ذات الجودة المنخفضة بحركة عشوائية إلى تماثيل فرعونية بحجم الإنسان، يضطر المصور غير المحترف إلى تحريك أحدها لاستعراض الكتابات الهيروغليفية المنقوشة على ظهره، وقبل أن ينتهي المقطع بعودة للتاريخ المثبت على التابوت، نرى التماثيل جميعها في لقطة واسعة، لنكتشف أن عددها لا يقل عن العشرة، بما فيها التابوت..


يتجاوز عدد من شاهدوا هذا المقطع ألفاً وأربعمائة، أشك في أن بينهم مسؤول مصري واحد غيور على وطنه، وإلا لكنا سمعنا عن تحقيق في الأمر.. أما التعليق المصاحب للمقطع فيقول على لسان صاحبه بالنص: (آثار مصرية للبيع عبر إرسال رسائل لى).. بينما تتضمن الكلمات المفتاحية اسم (سقارة)، وهي من أهم المقابر الفرعونية التي تعرضت للسلب والنهب، وربما يتذكر الدكتور زاهي حواس مقابلتي التليفزيونية معه حول هذه الكارثة عام 2003، والتي انزعج فيها من أدلتي على إهمال بعض موظفيه، وقال لي بالنص، متهكماً: إنت تنفع تكون مذيع في اسكوتلانديارد، أو في الأفلام الخيالية!!

مقطع آخر بعنوان (عبقرية الفراعنة)، نسمع فيه أصواتاً لأشخاص يستعرضون بانبهار لعبة فرعونية بديعة، عبارة عن نموذج لإنسان داخل لوح مقعر، يؤدي تقليبه إلى تغير مساحة الضوء والظل على ملامحه، فنتوهم أنه يحرك رأسه ويتابعنا بنظراته.. عم محمود ـ كما يطلقون عليه في الفيديو ـ يحاول تصوير التمثال الصغير بهاتفه المحمول من كل جوانبه، بينما يعبر الآخرون عن دهشتهم، ويؤكد أحدهم أنه بات ليلته يتأمل في التمثال، أما الحاج أحمد كما يطلقون عليهم، فيبدو أنه المشتري الذي يريد الاطمئنان على بضاعته..
قد يكون هذا المقطع منقولاً عن مصدر آخر على الإنترنت، لكن المؤكد أن هذه النسخة جرت مشاهدتها ما لا يقل عن ثمانمائة مرة، فهل شاهدها المسئول عن تأمين هذا التمثال من بين هذه المرات؟

المثال الثالث لمقطع تظهر فيه عشرة تماثيل فرعونية مذهّبة صغيرة الحجم، إلى جانب تابوت كبير، ملقى بإهمال على أرضية غير معبدة، ويتفاني المصور غير المحترف في إبداء النقوش المختلفة على التابوت، بينما يتضمن مسار الصوت عبارة الفنان أحمد السقا في فيلم الجزيرة: من النهاردة مفيش حكومة.. أنا الحكومة!! وتوفيراً لجهد المشاهد، فإن رافع المقطع وضع رقم هاتفه على رأس المعلومات المصاحبة، لكنني وجدته "غير متاح" عندما حاولت الاتصال به للتثبت من هوية صاحبه..

إلى جانب هذه المقاطع، يستضيف موقع يوتيوب عشرات المقاطع الأخرى المشابهة، والتي لا يمكن أن تكون جميعها مجرد مزحة وخفة دم.. هناك بالتأكيد آثار خرجت من مخادعها، وعبث بها بعض الأشخاص، وإذا كانت لدى أحدهم الحرية في لمس القطعة الأثرية الناردة والعبث بها، فلم لا يفكر في الاستيلاء عليها وبيعها.. ولم لا تكون حيلة لصوص الآثار الجدد هي عرض مسروقاتهم على اليوتيوب، الذي يزوره مليار مستخدم للإنترنت يومياً..

هذه الظاهرة تواجه أجهزتنا الأمنية بعدد من الأسئلة: أين هذه الآثار المصرية المعروضة على الإنترنت؟ ومن هم هؤلاء الذين سمعنا أصواتهم واستفزتنا لهجتهم المصرية؟ وهل جرى البحث عن هذه الآثار على الإنترنت، أم اكتفت أجهزة الأمن بالتفتيش في حقائب المسافرين؟ وياترى هل يمكن أن نجد لوحة فان جوخ المسروقة على اليوتيوب؟
--------------------
* نشر في صحيفة المصري اليوم يوم 17 سبتمبر 2010

الخميس، 2 سبتمبر 2010

إفطار على الوجع.. و"بحة" نور الشريف!


لطالما كفكفت دموعي وأنا أشاهد فيلماً حزيناً، وانقبض صدري وأنا أتسمر أمام مشهدٍ سينمائي مروع، وتسارعت أنفاسي وأنا أتابع لقطة مثيرة ونابضة.. السينما تأسرني، وتهيمن على مشاعري، وتسلب مني الواقع، وتستبدله بعالم آخر مواز، أتوحد معه وأنا أحد صناعه، أتوه فيه وأنا عالم بأسراره.. ظننت منذ تعلقت بالسينما أنها الوحيدة القادرة على احتوائي، وأنني لن أخونها أبداً مع فنٍ آخر، مهما بلغ سحره وجماله.. لكن مسلسلاً تليفزيونياً غرر بي، واحتال على وجداني، واستدرج قلبي كي أضاجع مشاهده المؤثرة وقصته الفاتنة.. أنا الخائن!




(حارة) سامح عبد العزيز

كان الجسر الذي حملني من ملكوت السينما الخالد إلى دنيا التليفزيون العابرة هو سامح عبد العزيز.. اختطفني هذا المخرج الشاب بمهارة وحرفية من فيلمه (الفرح) إلي مسلسله (الحارة)، لأجد نفسي محاطاً بذات العذوبة والجاذبية السينمائية، ولكن بأدوات تليفزيونية بلغ التمكن منها ذروته.. (الفرح) الذي انتهى إلي (مأتم) في الفيلم، واصل في المسلسل كآبته، فالواقع التعيس الذي يعيشه سكان الحارات والأزقة في مصر هو ينبوع سامح عبد العزيز الذي نهل منه في الفيلم (2009) والمسلسل (2010) على السواء: الجدران هنا وهناك تمزعها نفس الشقوق والتصدعات، جروح البشر هي هي، الحزن المكتوم، الحسرة، الوجوه الخالية من المساحيق.. سامح عبد العزيز استعار من السينما ألوانها الخصبة، وزين بها حارته التليفزيونية الحزينة، فبدت الصورة كعروس تسير في جنازة..

ما أن يرتفع أذان المغرب، وأشرع في تناول فطوري، حتى تبدأ (الحارة) على إحدى القنوات المصرية.. أشرد كالعادة في كلمات التتير بصوت المغني طارق الشيخ: آه يا زمان يا مفركشنا.. ماسبتناش ولا يوم عشنا.. عمال يوماتي تقرمشنا.. حتت حتت وتاكل فينا.... أمضغ الطعام ببطء وأنا أسبح في تلك الأبيات الجريحة، أتخيل كل يوم وجهاً جديداً لأحد البائسين الذين أعرفهم، وهو ينطق بها.. ثم سرعان ما أعود إلى اللقطات الحقيقية التي اختلستها كاميرا مدير التصوير جلال الزاكي من الحارات الشعبية في مصر القديمة، والوجوه التي سحقها القهر والفقر، لكنها مع ذلك تبتسم!!


ينتهي التيتر، وأدخل إلى الحارة الضيقة ذات البيوت المتلاصقة.. فأرى بائعة الخبز سوسن بدر، وهي تجمع فضلات القطن من أمام ورشة المنجد كي تحشو بها وسادة ومرتبة تُزوِّج بهما ابنتها، فيما تحاول صرف أحد الكلاب الضالة التي تطمع مثلها في قطعة قطن بالية.. ثم أراها وهي ذاهلة أمام الحريق الذي شب في قطنها يوم التنجيد المنتظر بسبب "لمبة جاز"، يندفع سكان الحارة لإخماد الحريق إلا هي.. سعادتها انطفأت مع اندلاع اللهب، لسانها انعقد، دموعها تحجرت، لكن عينيها تصرخان في صمت، وتستحثان دموعي، فأترك الملعقة من يدي، وأعجز عن ابتلاع الطعام.. إنه إفطارٌ على الوجع!

أسمع نحيب سلوي خطاب، العانس التي تصعد على أكتاف المتظاهرين بحجة الهتاف، كي تُشبِع قليلاً من شهوتها.. إنها تبكي لأن الرضيعة ـ التي عثرت عليها ذات مساء بجوار سلة القمامة وأودعتها الملجأ ـ كبرت، واشتاقت لوالدها المجهول، وها هي تكتب له رسالة تلح على سلوى في تسليمها إليه.. تصفعني عبارات الرسالة، ويبهرني أداء الطفلة، وأصدق دموع سلوى خطاب...

يتردد صوت الشيخ تمام (صلاح عبد الله) وهو يعظ المصلين، ويردد بين فينة وأخرى: وحد الله من قلبك يا سِيدي! وأجد نفسي أستجيب، كما لو كنت أجلس بينهم في المصلى.. لا أتعاطف مع تشدده، لكنني لا أكرهه.. ولا أقتنع بخطابه الضحل، لكنني أرى في مريديه إيماناً حقيقياً به.. يدعوهم إلى الدين وهو الذي أخفق في تنشئة ابنه أحمد فلوكس عليه.. فلوكس يحيي أفراح الحارة، ومنها يحصل على فرصته الأولى كمطرب محترف.. يطرده الأب من منزله، ثم يسقط مغشياً عليه عندما يرى أفيشاً بصورته في الشارع.. أما زوجته عفاف شعيب فلا حول لها ولا قوة.. ترتدي واحدة من عباءتيها القاتمتين، وتتبعه في خضوع وذلة إلى أحد الجيران في الحارة للمواساة أو التهنئة..

هذه هي نيللي كريم بائعة المخدرات المحجبة، التي يدفع بها عشيقها أمين الشرطة باسم السمرة إلى السجن.. وها هو محمود الجندي الذي لا يفارق نرجيلة الحشيش.. ومحمد أحمد ماهر الذي أدمن اصطياد الفتيات عبر الإنترنت.. وسلوى محمد على الجارة المسيحية الودودة.. وفتوح أحمد الذي طبع بصمات والده الميت على مبايعات وهمية ليستولي على إرث شقيقته.... وجوه مصرية، لا يجمع بينها سوى الاحتياج والطموح المتعذر.. ونسيجٍ درامي أجاد حياكته السيناريست أحمد عبد الله، ونفخ فيه الروح مهندس الديكور إسلام يوسف..
عندما تنتهي الحارة، عادة ما أنظر إلى أطباقي فأجدها كما هي، لكنني أكون قد فقدت شهيتي، ليس فقط إشفاقاً على أبطالي التعساء، وإنما ندماً على خيانتي للسينما... لولا أن الحارة تستحق!

(عار) مصطفى شعبان

قبل منتصف الليل، تنادي عليّ أمي: العار حتبدأ..! أترك كتبي وأوراقي، وأخرج من كهفي، بينما أسمع كلمات أيمن بهجت قمر بصوت المطرب آدم في التيتر: قولوا للي أكل الحرام يخاف.. بكره اللي كله يفسده.. يابا الغني بالحرام لو شاف.. ابن الحلال يحسده...




تناسب هذه القصة أيامنا هذه.. كما كانت تناسب بداية الثمانينات ـ وقت ظهورها في الفيلم لأول مرة ـ عندما كان المرتزقة يتكالبون على حصد ثمار الانفتاح.. اليوم يخشى الأغنياء من نضوب ينابيع الثراء، ويشتد الجوع على المحرومين فيأكل بعضهم الحرام.. صارت حكاية (العار) مثل آدم وحواء.. قصة سارية المفعول في كل زمان ومكان، يطوّعها للمسلسل هذا العام السيناريست أحمد محمود أبوزيد عن فيلم والده الذي حمل نفس العنوان عام 1982، لكن بأحداث مختلفة، وأبطالٍ حاول بعضُهم محاكاة الأصل ففشل، وتعاطى البعض الآخر مع جوهر القصة فنجح بأدائه في إحياء حكمتها.. ولو وزعتُ الأبطالَ الجدد على سلم الإقناع، ستحتل عفاف شعيب (الأم) الدرجة الأولى بلا شك، يليها حسن حسني (الأب) في الدرجة الثانية، ثم أحمد رزق (سعد) في الدرجة الثالثة.. بينما أفرط شريف سلامة (أشرف) في التظاهر بالحزن والفتور، فبدا مملاً ومنفراً.. كما أسرف مصطفى شعبان (مختار) في تقليد نور الشريف، فحرم نفسه من شخصية جديدة في مسيرته الفنية كان يمكن أن يثريها وتثريه.. والأمر نفسه ينطبق على الممثلة التونسية درة (سماح)، التي تفتقد أساساً لموهبة التمثيل، فاجتهدت في نسخ شخصية الفنانة نورا، التي جمعت في الفيلم بين جمال ونبل بنت البلد، لكن لا أفلحت درة في المحاكاة، ولا نجحت في أقناعنا ـ على الأقل ـ بأنها مصرية..

أتابع المسلسل لأنني أحببت الفيلم، وأود أن أعقد المقارنة بينهما للنهاية، لكنني أشعر في مشاهد مصطفى شعبان بأنني أتجرع دواءاً مراً.. بحة صوته تستفزني، وتحديقة عينه تثير اشمئزازي.. يحاول المسكين أن يتقمص بهما شخصية نور الشريف في الفيلم، لكن هيهات.. هذا هو مصير كل من أراد أن يختصر الطريق بسرقة إبداعات الآخرين، وهذا هو العار الحقيقي في المسلسل...

اســترجل

بين كل فاصل إعلاني وآخر، فاصل إعلاني.. القنوات المصرية مصابة بحمى الإعلانات منذ فترة، لكنها في رمضان تتحول إلى هستيريا بلا حدود، ويأمل التليفزيون المصري في أن يتجاوز عائد إعلاناته هذا العام 150 مليون جنيه (حوالي 30 مليون دولار).. وهو ما يفسد على المشاهد متعة مواصلة أحداث المسلسل دون انقطاع، فيضطر مثلي لمشاهدة الإعلانات رغماً عن أنفه، حتى لو كان أحدها ينصحه بتناول مشروب من الشعير، ثم يأمره مستنكراً بصوت أجش: استرجل!! أو يزايد بدموع سيدة فقيرة فازت برحلة عمرة من شركة لمساحيق الغسيل، فتقول وقد احمرت وجنتاها من الانفعال: هذا المسحوق حاسس بينا!! أو إعلانٌ يجمع ستة نجوم يرددون جملة موسيقية رقيقة تستمتع بها، إلى أن تسأل نفسك فجأة: يا ترى كم تقاضى كل من هؤلاء في هذا الإعلان؟ فتشعر بخيبة الأمل!! الإعلان الوحيد الذي يستحق المشاهدة والتقدير هذا العام لعب بطولته ماجد الكدواني، ليس فقط لعفويته في الأداء، ولكن لفكرته المبنية على رغبته في الاستفادة بما يحتاج إليه فقط.. فإذا كان لا يقرأ صفحات الرياضة، لم لا يسمح له البائع بشراء نصف الصحيفة فقط؟ وإذا كان نصف البطيخة أقرعاً، فلم لا يكتفي بشراء نصفها الأحمر؟!!



________________
* نشرت بصحيفة القدس العربي يوم 2 سبتمبر 2010

الثلاثاء، 31 أغسطس 2010

الوثائقيون الجدد


للأفلام الوثائقية في العالم العربي تاريخ وسوق وقناة، فهل لها تأثير على المجتمع؟ قد يجد البعض سؤالي غريباً إذا كانت قناة الجزيرة تنفق بالفعل مئات الألوف من الدولارات كل عام على شراء وتمويل الأفلام الوثائقية وبثها على قناتيها الإخبارية والمتخصصة، وكثير من صناع هذه الأفلام اكتسبوا شهرة النجوم، كما أن أغلب القنوات الفضائية العربية تسير على درب نظيراتها في الغرب، وتولي هذا اللون اهتماماً كبيراً على خرائطها البرامجية.. فما فائدة السؤال؟

بنظرة على نظم الرقابة على التصوير الميداني، وشروط التمويل، ومعايير البث على قنوات التليفزيون، يجد صانع الفيلم الوثائقي نفسه في مأزق، فإما أن يتجنب التصوير في العديد من الأماكن (مثل أقسام الشرطة والمصالح الحكومية)، ويتخلى ولو جزئياً عن رؤيته الخاصة، ويبلغ منزلة الكمال في جودة الصورة والإخراج، أو أن يبقى عمله قيد التعديل والمراجعة من أصحاب القرار، وقد لا يرى النور على الإطلاق. يؤدي ذلك إلى حرمان المجتمع من مناقشة قضايا حيوية، وحرمان المشاهد من استيعاب أنماط فنية جديدة، وحرمان صانع الأفلام من التجرؤ على الأشكال التقليدية المطلوبة في سوق الفيلم الوثائقي العربي.. تؤثر الأفلام الوثائقية في المجتمع على هذا النحو بالقدر الضئيل الذي يؤهلها إليه سقف الحريات المنخفض في كل شئ.

جاء الإعلام الحديث ليوفر الحل.. فمن بين معالمه البساطة، ومن أهم سماته التفاعل، وفي مقدمة آثاره الانتشار: بامتلاك هاتف محمول مزود بكاميرا وموصول بالإنترنت يمكن الآن صناعة فيلم وبثه على العالم في الحال.. فنياً قد لا يضارع المنتج مستوى تلك الأفلام التي نراها على قنوات الجزيرة الوثائقية وديسكفري وناشيونال جيوجرافيك، لكن بالتأكيد سينطوي هذا المنتج ـ موضوعياً ـ على فتوحات اجتماعية عجز الفيلم الوثائقي التقليدي عن إحرازها في الماضي، ومن الأمثلة الجلية على ذلك، إنتاج أفلام وثائقية بهذا النمط العصري حول العنف في أقسام الشرطة، أو العنف الأسري، أو شيوع المخدرات في المدارس والنوادي الرياضية.. المصور سيصل إلى عمق هذه المحافل وسيلتقط ما شاء من صور ـ مع مراعاة المبادئ الأخلاقية ـ دون أن يعاني ما يعانيه المحترفون، بمعداتهم الثقيلة، وحاجتهم للحصول على تراخيص بالتصوير وفقاً لشروط معنية.. المتلقي سيتمتع في الحالة الأولى بمزيد من الصور الواقعية التي تسمح له بالتعرف على عالم جديد لأول مرة عن قرب.. الفرق واضح.

لم يعد المتلقى يكترث بجودة الصورة.. الحد الأدني صار يكفي إذا كان مضمون اللقطة فريداً. وهو ما جعل قنوات التليفزيون تدرس بث هذا النوع من الأفلام، الذي صار إنتاجه سهلاً، فأتاح للهواة فرصة نادرة للالتحاق بركب المحترفين، مما أثري عالم الفيلم الوثائقي بأفكار تنبع شخصياً من المستهلك، الذي يعلم احتياجاته أكثر من المنتج.. إنه (المنتهلك) إن صح الوصف!

شجعت هذه القناعة الكثير من الهواة على تعلم أصول الصنعة، كما دفعت الكثير من المؤسسات الإعلامية إلى تنظيم ورش لتدريب الهواة وأنصاف المحترفين على صناعة أفلام وثائقية، وخير مثال على ذلك الورشة التي نظمها لهذا الغرض مركز الإبراهيمية للإعلام خلال شهر ديسمبر 2009 وشرفت بالتدريس فيها، وأثمرت نحو عشرة هواة تمرسوا على قواعد هذه الصناعة، ودخلوا إلى معترك المهنة من بوابتها الخلفية: بوابة الإعلام الحديث.

كم من الأفلام الجريئة سنشاهد؟ وكم من القضايا المثيرة سنناقش؟ وكم من الموهوبين سنعرف؟ هذه هي الأسئلة التي سيجيب عليها المستقبل، إذا ما منحنا هذه الظاهرة فرصتها للازدهار.

مع طلاب ورشة مركز الإبراهيمية للإعلام

الاثنين، 23 أغسطس 2010

مضغ شعارات المعارضة!


المواظبون مثلي على متابعة أخبار الاعتصامات والوقفات الاحتجاجية في مصر ساءهم انشغال الناس بشهر رمضان.. فالنهار الذي كان قبل أقل من أسبوعين موعداً ثابتاً للهتاف ضد الحكومة والنظام، صار الآن وقتاً للاسترخاء، تراجع الحديث فيه عن البرادعي ومطالبه السبعة، وبات الجميع مشغولاً بمقاومة العطش والتندر بحرارة الطقس.. لكن التليفزيون المصري بقنواته الرسمية والخاصة لم يحرمنا فرصة مواصلة الاندماج في هذه الأجواء الاحتجاجية الشيقة، فمن لاذ ببيته وغاب عن رصيف مجلس الشعب ـ الذي نزل بضيافته معظم المعتصمين خلال الأشهر الفائتة ـ عليه فقط أن يجلس أمام شاشة التليفزيون في رمضان، ويضغط على أزرار الريموت كونترول واحداً بعد الآخر، لينعش سخطه على الحكومة، ويجدد غضبه على النظام، ويراجع ما ذاكره في بيانات التغيير.. حتى إذا انتهى الشهر الفضيل، عاد إلى مظاهراته وهتافاته حاضر الذهن وكأن شيئاً لم يكن!! كل ذلك على التليفزيون المصري؟؟ نعم..! أليس تابعاً للحكومة وخاضعاً لإشرافها؟ بكل تأكيد..! وما مصلحته إذن في نشر (ثقافة الاحتجاج) التي تستهدف النظام وتضر باستقراره وديمومته؟؟ آه.. هذا هو السؤال.. الآن استرخ كما تفعل كل نهار، واترك لي مهمة البحث في هذه الظاهرة الفريدة في عالم الدعاية (الجوبلزية)، إن جاز التعبير!

حوار صريح جداً

إذا لم تكن من الحريصين على أداء صلاة "التروايح" الرمضانية في جماعة، فإنك حتماً ستتورط في مشاهدة نجوم السياسة والفن على التليفزيون، وهم يصطنعون الحيرة والتردد أمام المذيعة منى الحسيني في برنامجها الذي يوصف بالجريء (حوار صريح جداً).. وهو من البرامج التي أراد بها التليفزيون المصري في نهاية التسعينات أن يضارع القنوات الفضائية العربية في التظاهر بالحرية المطلقة وتجاوز الخطوط الحمراء، لكن إدارة التليفزيون عادت إلى رشدها بعد بضع سنوات، وأوقفت البرنامج فجأة على نحو أغضب منى الحسيني.. فشدت رحالها إلى قناة (المحور) المملوكة لرجل الأعمال حسن راتب، ومنها إلى قناة (دريم) المملوكة لرجل الأعمال أحمد بهجت.. ورغم أن القطبيْن البارزيْن مقربان من السلطة، إلا أن الحسيني تمتعت في ظلهما بحرية ملحوظة في اختيار وتناول قضاياها، ولقيت في المقابل استحساناً من الجمهور المتعطش للنقد، وإن ظلت دائماً من رواد مدرسة الانحياز لطرف دون آخر، وإبداء رأيها الشخصي على الشاشة، بحجة أنها ـ أي المذيعة ـ (تتحدث بلسان الناس) على حد قولها لإحدى الصحف! فإذا أضفت إلى ذلك صوتها العالى وأداءها العدواني في أغلب الأحيان، ستتخيل ـ رغماً عنك ـ في لحظة ما أنك تراقب بتأفف خناقة في الشارع وليس (حواراً صريحاً جداً) كما يدعون!! يعود البرنامج إلى التليفزيون المصري هذا العام، مقابل أجر خيالي للمذيعة، ونسخة مجانية لقناة دريم، وسقفاً أعلى لحرية محسوبة بالورقة والقلم.. فماذا يقدم لمشاهديه؟..

دعت منى الحسيني النائب البرلماني المثير للجدل رجب هلال حميدة إلى البرنامج قبل أيام.. وهو من رجال السياسة الذين دسوا أصابعهم في كافة أطباق المعارضة المتوفرة في بوفيه السياسة المصرية المفتوح، ابتداءاً بالجماعات الدينية المتشددة ـ بل والإرهابية بحسب اعترافه ـ إلى حزب الأحرار، ومروراً بالتردد على عدة أحزاب أخرى عملت على استقطابه، وانتهاءاً بحزب الغد الذي دخله نصيراً لزعيمه أيمن نور، لكنه سرعان ما اشتبك معه في حرب على زعامة الحزب.. وبما أن نور ـ الذي كان يوماً ما من المقربين للرئيس مبارك والأجهزة الأمنية ـ صار من ألد خصوم النظام بعد خوضه انتخابات الرئاسة الماضية، فإن معركة حميدة ضده حظيت بتشجيع وتصفيق من الإعلام الرسمي.. غير أن منى الحسيني نالت الضوء الأخضر كي تخرج عن الصف وتشذ عن هذا الالتزام، فإذا بها تقول لضيفها على بلاطة: أنت من المعارضة المستأنسة!! وأكاد أجزم أن هذه هي المرة الأولى التي يعترف فيها التليفزيون الرسمي بوجود مثل هذه المعارضة أصلاً.. بل ويأتي هذا الاعتراف ـ على لسان المذيعة المدللة ـ في إطار استجوابها للنائب بشأن علاجه على نفقة الدولة رغم ثرائه.. تساءل حميدة بثقة وفخر: كيف أرفض عرضاً كريماً كهذا من الرئيس مبارك شخصياً بعد أن دعاني لزيارته في قصره وقضيت معه ساعة ونصف الساعة؟ ألا يكون ذلك عيباً وقلة ذوق؟؟ فتلاحقه الحسيني باستنكار: أم هي (تورتة)، كل واحد عاوز ياخد نصيبه منها؟!!

لا تأتي منى الحسيني بجديد، فهي تعيد ما دأب الإعلام الخاص والمعارض والمطالبون بالتغيير وفضح الفساد على ترديده حتى الأيام الأخيرة قبل شهر رمضان، حيث كانت قضية العلاج على نفقة الدولة هي المادة الخام لكثير من المظاهرات والاعتصامات، بعد الكشف عن تواطؤ مسؤولين حكوميين ونواب برلمانيين في إهدار نحو 350 مليون جنيه مصري (أكثر من 60 مليون دولار) من ميزانية العلاج على نفقة الدولة، استفاد منها في المقام الأول وزراء ورجال أعمال مقتدرون..

ظن المغفلون أن الحكومة عينها انكسرت، وأنها ستداري على الفضيحة، لكن الحقيقة أن الحكومة عينها جرئية، بل وأجرأ مما كانت عليه في أي عهد.. وأن سياسة الإعلام المصري الرسمي تتجه الآن إلى (استهلاك المعارضة)، ومضغ شعاراتها كالعلكة!! مثل هذا الموقف البطولي للتنديد بالفساد، والذي يفاخر المعارضون بتبنيه حصرياً، سيتقاسمه معهم الإعلام الرسمي، بل ويكرره على الأسماع ليل نهار، إلى أن يتحول إلى مسلسل ممل ومعاد، فيعرض عنه المتفرجون، ويبحثون عن مسلسل غيره..


السائرون نياماً

يذيع التليفزيون المصري في رمضان مسلسلاً مأخوذاً عن رواية المبدع سعد مكاوي، تحمل عنواناً يصف حال الشعوب العربية في استسلامها غير المشروط للفساد والاستبداد.. (السائرون نياماً) رواية بديعة ترجمها بمهارة إلى اللغة التليفزيونية السيناريست مصطفى محرم، وحقق لها المخرج محمد فاضل معادلاً بصرياً ثرياً ومدهشاً.. وأحداثها تدور خلال الثلاثين عاماً الأخيرة من حكم المماليك، فهل هي صدفة أن تُبث على الشاشة مع نهاية العام الثلاثين من حكم النظام الحالي في مصر؟ ستفكر مثلي في هذه المفارقة إذا تأملت في تفاصيل العمل وعينك على ما يجري في الشارع المصري.. فالفنانة المخضرمة فردوس عبد الحميد (البطلة المفضلة لدى زوجها محمد فاضل) تجسد شخصية (زليخة) زعيمة (البهاليل)، وهم المتدينون الزاهدون الذين يلعنون القصر في حلقات الذكر والتسابيح، ويؤلفون خلية للمقاومة الشعبية ضد الحاكم (أي أنهم يخلطون الدين بالسياسة)، لكن الجارية جولشان تعترف: الناس بتحبهم وبتسمع كلامهم... (ألا يذكرك ذلك بالإخوان؟).. وفيما تقول زليخة لأحد مريديها: لازم ناخد حقنا بإيدينا، بس لازم يكون فيه عدل...! وتضيف: الوقت المناسب اللي بنحضرله ونستناه لسه مجاش!! يرد الفتى بلسان حال شباب اليوم المتعجل للتغيير: وياترى حنشوف الوقت المناسب ده، ولا ولادنا اللي حيشوفوه؟... لا تنتهي إسقاطات المسلسل على الوضع الراهن عند هذا الحد.. فهناك أزمة قمح، تماماً كالتي ضربت مصر قبل أسابيع، والفساد الذي تغلغل في أرجاء السلطنة، والفقر الذي يشجع الناس على الهجرة، ومنهم هذا الفلاح الذي خدم لدى الإقطاعيين (رجال الأعمال) أربعين عاماً، لكن زوجته تتمنى لو أنهم (هاجروا زي "وداد").. فيعلق الزوج متأملاً: ومين قالك إنها مبسوطة؟ لكن الزوجة البائسة تتنهد وترد بيأس: أهو كنا تُهنا في الزحمة وعرفنا نربي أولادنا...

سعد مكاوي نشر هذه الرواية في منتصف الستينات، وعندما انتبهت لقيمتها الأوساط الأدبية، فسرتها على أنها إسقاط على فترة ما قبل هزيمة عام 1967 والعوامل التي مهدت لها، وعلى رأسها التناحر بين مراكز القوى داخل مؤسسة الحكم الواحدة.. الآن تعود إلينا الرواية بإسقاط جديد، يطوعه في قالب عصري الكاتب المعروف بثوريته مصطفى محرم في ضوء التململ الشعبي والحراك السياسي في مصر، ويلخصه الشاعر جمال بخيت في تيتر النهاية بأغنية نارية، يتقاسم غناءها على الحجار وفردوس عبد الحميد، تقول كلماتها: حسك عينك.. تكتم حسك تقفل عينك.. قوم يا أخينا وسدد دينك.. حرر نفسك بحر وبر!

هل صبأ التليفزيون المصري؟ هي ارتد عن "حكوميته"؟ هل تراجع عن ملكيته؟ بالقطع لا.. بل ما زال يعمل جاهداً على سد الطريق أمام قوافل المعارضة الجامحة، وتعبيده في نفس الوقت أمام استقرار وديمومة النظام الحالي، ولكن الركض وراء المعارضة وحركات التغيير أصبح موضة قديمة.. جيل الحكام الجدد في مصر صار أصغر سناً، ومستشاروه الإعلاميون لديهم صفحات على الفيس بوك.. وحيلتهم في التصدي لخطاب المعارضين لم تعد الهجوم ولا حتى المناقشة وتداول الأفكار والمطالب، بل ترديد نفس الخطاب بشكل هزلي إلى أن يبلى ويفقد قيمته.. ويعتقد الناس أن من حقهم انتقاد النظام في ظل النظام، وأن رفع الصوت بالمعارضة لا يعني إنكار الولاء..

الجماعة

فرحت في الإخوان عندما شاهدت مسلسل (الجماعة)، فقد تلكأوا سنوات في إنتاج عمل درامي يروي سيرة إمامهم حسن البنا.. ظلوا يعيدون ويزيدون في أخبار التحضير لمثل هذا العمل حتى سبقهم وحيد حامد بقلمه الساحر وفكره المنحاز، وقدم هديته للنظام الحاكم في موعدها، مع بدء حملة واسعة وقوية لحشد التأييد الشعبي لجمال مبارك رئيساً للبلاد، وإعلان الإخوان دعمهم للدكتور محمد البرادعي الذي يعارض هذا الترشيح في ظل الدستور الحالي.. لكنني فرحت أكثر لأننا دخلنا بهذا المسلسل عصراً سبقنا الغرب إليه، يعبر فيه كل تيار عن وجهة نظره في التاريخ بالأداة التي يتقنها ويقدر على تكاليفها.. لن تجد عملاً درامياً تاريخياً معصوماً من التحيز.. لكن هذا هو عصر الدراما.. وليحتكم الجمهور إلى وعيه...
____________
* نشر في صحيفة القدس العربي يوم 23 أغسطس 2010

الأربعاء، 30 يونيو 2010

مصر الجديدة

يا أنا يا أنت أيها القلم اللعين.. كلما أسلمتُك قريحتي، غدرتَ بها وأكرهتَها على الدخول في قاموس اليأس والقنوط.. في كل مرة أكتب عن بلادي تزحف شكواك لا إرادياً على سطور الصفحات، وتمضي ألفيْ خطوة بعدد الكلمات.. كلمة كلمة تنتظر دورها أمام مشنقة الأسطر لتطوق عنقها وتضغط، فتخرج عباراتك مخنوقة وموجوعة... خذلتَني كثيراً يا قلمي... ولكن ليس بعد الآن! لقد عزمتُ هذ المرة على مواجهتك بالحقيقة.. والحقيقة هي أن في بلادي أمل.. شئتَ يا قلمي أم أبيت!

تسألني كيف؟ وأمتي ممزقة؟ ومستقبلها على المحك؟ وزعامتها تؤول لإيران وتركيا وإسرائيل بعد أن شاخت مصر واستقالت من ريادتها؟ والجامعة العربية لا تهش ولا تنش؟ والمحتل الأمريكي يحظى بالشرعية على أراضينا؟ وكل بلد في أمتي مقسوم من الداخل؟ والجسد الفلسطيني مذبوح لنصفين؟ ونداءات التنصل من مسئولياتنا القومية والعربية تعلو وترتفع؟ وولاء العرب للأمة ضعُف وصار موضة قديمة، وينال المدافعون عنه صنوفاً من السخرية والهجوم؟ والعراق يسبح في دم أبنائه؟ والسلاح ينتشر خارج القانون؟ والتدين يحل محل الدين بأوهام النصر السهل؟ والشعوب غارقة في الفوضى؟ والأنظمة غارقة في الديكتاتورية والفساد؟... كيف يعرف الأمل طريقاً لأمتي وهذا هو المشهد؟

أعرف.. أعرف أننا مقهورون.. أسمع صيحات الجوعى وآهات المرضى وهتافات الفقراء.. أرى الاعتصامات والإضرابات، وأشم رائحة الفساد.. أتقيأ كلما قرأتُ صحيفة حكومية.. وأبكي كلما قرأتُ عن ضحية للتعذيب.. وأنتفض غيظاً كلما شاهدتُ أقطاب النظام اللي واكلينها والعة... بلدي جرجرها هذا العهد إلى جوف بحر من الأزمات والكوارث، ثم أعجزته شيخوخته عن إعادتها إلى بر الأمان.. وبدلاً من إتاحة الفرصة للأحزاب وحركات التغيير كي تنقذ ما يمكن إنقاذه، يواصل النظام تطبيق القوانين الاستثنائية والعرفية، ويضاعف من أعداد القتلى في السجون والمعتقلات والشوارع، ويرتكب مزيداً من السرقات عيني عينك.. لا يرحم هذا النظام، ولا يخللي رحمة ربنا تنزل..

أفهم أسباب الإحباط عند المواطن الذي انتحر من فوق كوبري قصر النيل.. وعند خريج الجامعة الذي يرى ابن الأستاذ يفوز بالتعيين رغم عدم كفاءته.. وعند الموظف المرغم على الاستدانة للوفاء باحتياجات أبنائه.. وعند الشاب الذي توخزه الشهوة كلما شاهد فيديو كليب، ويعجز عن تكاليف الزواج.. وعند الأسرة التي تعيش في المقابر لأنها لم تجد سكناً يليق بآدمية أفرادها.. وعند الشباب والفتيات الذين سمعوا عن شهيد التعذيب خالد محمد سعيد، ويسمعون عن أمثاله كل يوم.. وعند الجيل الجديد الذي يشعر بالتخلف مقارنة بأقرانه في الغرب.. أفهم أسباب الإحباط عند أمثالي ممن تنفسوا نسيم الحرية في بلاد الفرنجة، بينما يستنشقون الغاز المسيل للدموع في شوارع مصر.. التشاؤم من المستقبل ليس وليداً من رحم الصدفة، ولا تجنياً بلا مبرر على أحد..

ولكن مهلاً أيها القلم.. لا تحبسني من جديد في النصف الفارغ من الكأس.. فالصورة لمن يرى ليست كالحة السواد.. وعلينا أن ندين لهذه الإحباطات المتوالية بالفضل في خروج الشعب المصري من قمقم الاستسلام والرضا بالمقسوم.. ألا ترى ما يجري في الشارع؟ المعتصمون يتشبثون لأول مرة منذ عقود بالأرصفة المقدسة.. والوقفات الاحتجاجية أمام المقار الحكومية تجاوز عددها ألفين في ثلاث سنوات، يغذيها بالأمل على صفحات الإنترنت شبابٌ في سن المراهقة.. ازداد الوعي.. وعرف الناس حقوقهم بعد أن فاض بهم الكيل.. لم يعد النقد من الكبائر.. ولم يعد الاضطهاد حاجزاً ومانعاً من التعبير عن الرأي.. صار لسائق التاكسي وبائع الفاكهة والمتسول مواقف سياسية واضحة.. أبصر الشعب بعد أن أعماه النظام البوليسي لسنوات طويلة.. ألا يمنحنا هذا شعوراً كافياً بالاطمئنان والأمل؟

وإذا اتفقت معي على أن التاريخ يعيد نفسه، ألا ترى أن الفصل الذي نحاكيه اليوم هو ذاته الذي جرت أحداثه في مصر بعد الحرب العالمية الثانية؟ عندما أُغلِقت المصانع، وانتشرت البطالة، وارتفعت تكاليف المعيشة، وواظبت النقابات العمالية على تنظيم المظاهرات لمطالبة الحكومة بإصلاح الأحوال السياسية والاقتصادية؟ وقتها ساد الاتجاه إلى تشكيل جبهة موحدة للوقوف في وجه النظام الحاكم، قوامها العمال وفقراء الطبقة الوسطى والمثقفون والفلاحون.. كان الدكتور محمد البرادعي في ذلك الوقت لا يزال في المهد.. لكن من يدري؟ ربما كان والده المحامي والمناضل السياسي مصطفى البرادعي عضواً في تلك الجبهة أو أحد زعمائها! كان الشعب ساخطاً.. وكانت الحكومة عاجزة.. ووجد فكر الإخوان مسرحاً مؤاتياً للانتشار.. وبدأ الصراع الأزلي بينهم وبين الوفد والشيوعيين، إضافة للخلايا الماركسية التي نشأت خلال الحرب، واتسعت في مدن مصر الكبرى..

كانت قائمة الاغتيالات السياسية قد ضمت حتى ذلك الحين عشرات الخونة والفاسدين، بداية باغتيال بطرس باشا غالي رئيس الوزراء عام 1910 انتقاماً من حكمه على أربعة مصريين بالإعدام عام 1906 بعد حادثة دنشواي، وعقاباً له على إعلان الأحكام العرفية (التي يسميها نظامنا اليوم من قبيل الدلع قوانين الطوارىء).. واغتيال السير لي ستاك سردار الجيش المصري وحاكم السودان عام 1924، الذي أعقبته استقالة وزارة سعد زغلول احتجاجاً على توبيخ الاحتلال له.. ثم الاغتيالات التي استهدفت الجنود والضباط الإنجليز لبث الرعب في نفوسهم وإرغامهم على الجلاء.. واكتملت أسباب السخط والتمرد بنكبة حرب فلسطين عام 1948، التي تجلى فيها الضعف العربي، رغم مشاركة معظم الجنسيات العربية فيها..
تحول الغضب الشعبي في يناير من عام 1952 إلى حريق هائل التهم أكثر من سبعمائة منشأة بالقاهرة في أقل من عشر ساعات.. فإلى أين قاد ذلك؟ الإجابة: إلى التحرير.. إلى ثورة عارمة انتهت بمغادرة الاحتلال، وإلغاء الملكية، وإعلان الجمهورية، والقضاء على الإقطاع وسيطرة رأس المال.. ولم يعد هناك توريث ولا رجال أعمال ونواب فاسدين، ولا رشوة من شركة مرسيدس.. وإن كانت حمى الفساد قد عادت من جديد بعد سنوات...

ضاقت (في بلادنا مرات عديدة).. فلما استحكمت حلقاتها (مثلما نرى اليوم).. فُرِجت! ليس هذا مجرد شطر في قصيدة نظمها الإمام الشافعي قبل اثنتي عشر قرناً.. إنها بشرى تحققت في القرن الأخير مرة، فلِمَ لا تتحقق ثانية؟ هذه هي المقدمات تتكرر، فلم لا تتبعها نفس النتائج؟ سألت نفسي هذا السؤال عشية إعلان خبر اغتيال شهيد التعذيب بالإسكندرية خالد محمد سعيد.. كنت قد شرعت في كتابة مقالي الأسبوعي، وقررت بالصدفة منذ الصباح أن يدور حول التعذيب.. وبينما كنت أجمع المعلومات، وقعت عينيّ على الخبر المروع في إحدى المدونات منقولاً عن صفحة الدكتور أيمن نور على الفيس بوك.. بعد نصف ساعة فقط تشكلت مجموعة على الموقع الاجتماعي عنوانها (أنا اسمي خالد محمد سعيد)، بدأَتْ في نشر ما تسنى لمشرفيها من أخبار مقتضبة عن الحادث، ودعت جمهور الموقع للانضمام.. كان ذلك في حوالي الساعة السادسة مساءاً بتوقيت لندن، ومع حلول منتصف الليل كان قد انضم للمجموعة قرابة خمسين ألف عضو، أمطروا صفحاتها بالتعليقات الغاضبة والحزينة.. وليس سراً أنني كنت في تلك الساعات أكتب المقال بينما تنهمر دموعي، ليس فقط بتأثير الحادث، وإنما تفاعلاً مع هذه الثورة الناعمة التي تتأجج أمامي من الشرفات وغرف النوم ومقاهي الإنترنت.. لقد تصدرت صورة خالد منذ الساعات الأولى وحتى هذه اللحظة أغلب الصفحات على الموقع بما فيها صفحتي.. وتطوع العشرات من الموهوبين فوراً بتصميم شعارات جريئة على الصورة تهاجم النظام ووزارة الداخلية وتعد خالد بالثأر.. وبادر ذوو الملكات الشعرية بنظم القصائد على عجل، ومنها: (خالد سعيد.. الدم نازف م الوريد.. والظلم قابض من حديد.. بس الصراحة فيه جديد.. فيه جيل عنيد.. عزمه شديد.. مفيهوش عبيد.. فيه ألف إيد.. حالفة تجيب حق الشهيد)... ما أحلاها كلمات وما أصدقها!
لم يلتق القائمون على هذه المجموعة وجهاً لوجه.. تبادلوا الآراء من خلال الإنترنت، وتبلورت أهدافهم دون أن يرى أحدهم الآخر إلا عن طريق الرسائل والتعليقات.. كلف هؤلاء أنفسهم بعدد من الأهداف على رأسها جعل المتابعين للقضية على صلة بدقائقها ومستجداتها لحظة بلحظة، من خلال نشر تقارير الطب الشرعي، وأخبار تحقيقات النيابة، ونقل ما تنشره الصحف عنها مصحوباً بالنقد والتحليل، والسعي للكشف عن هوية الضابط الذي أشرف على تعذيب خالد، ونشر الفيديو الذي تسبب بقتله، وكذلك فضح حالات التعذيب الأخرى..

وعندما انتشرت الدعوة للوقفة الاحتجاجية أمام وزارة الداخلية في لاظوغلي بعد يومين، كان قد تم الاتفاق على موقعها ومسارها، واقتراح مسارات بديلة، ونشر خرائط تفاعلية لمساعدة المشاركين في الوصول.. وفي اليوم التالي كان عدد المنضمين إلى المجموعة قد تخطى مائة ألف، معظمهم من المراهقين غير المنتسبين لأي تيار سياسي أو ديني.. وفي صباح اليوم المشهود كان العدد قد وصل لمائة وخمسين ألفاً.. شارك منهم بضعة آلاف بالفعل في تلك الوقفة الاحتجاجية، التي سعت قوات الشرطة لمنعها بكافة السبل..

وعلى الأرض صار للمواقع التفاعلية الأخرى دور لا يقل أهمية في نقل الحقيقة.. فقد كان هناك من يبث لقطات حية على مواقع يوتيوب وفيميو وهولو وغيرها، تكشف ممارسات قوات الشرطة وحصارها للمتظاهرين.. كما لعب بعضهم دور "الصحفي المواطن"، فبحث عن شهود الحادث، وأجرى معهم مقابلات مصورة بالفيديو، وبثها على اليوتيوب.. وصارت هذه المادة ينبوعاً نهلت منه الصحف ومحطات التليفزيون.. بل نجح هؤلاء في العثور على وثائق حيوية تفيد التحقيق، أو تثبت أوجه القصور فيه، مثل شهادة تأديته الخدمة العسكرية التي نفت ادعاء الشرطة بأنه كان هارباً من الجيش.. والفيديو الذي حصل عليه الشهيد قبل اغتياله، ويصور ضباطاً وجنوداً في قسم شرطة سيدي جابر يتقاسمون بسعادة ضبطية مخدرات، وهو الفيديو الذي هدد خالد ببثه على الإنترنت، ويُعتقد أنه كان السبب في تخلص أفراد الشرطة منه.. لم يعوّل شباب الفيس بوك الواعد على الإعلام سواء الحكومي أو المستقل.. وكأنه أراد أن يستعرض قوته وقدرته على تحريك الشارع دون أدني مساعدة من أحد.. وما زالت تلك المجموعة الثورية ـ التي وصل عدد أعضائها الآن إلى ربع المليون ـ تمارس حقنها للرأي العام بأفكار ومعلومات، وتدعوه لفعاليات بهدف الثأر من قتلة خالد، ومناهضة جرائم التعذيب وانتهاك حقوق الإنسان في مصر بوجه عام...

ولأن هذا الشباب الصاعد يعيش الحدث ويتفاعل معه في نفس اللحظة، فإن أياً من حركات التغيير لم تضارعه في هذه الفورية، فاضطر الدكتور محمد البرادعي إلى الانضمام لمجموعة الفيس بوك عندما اختطفت منه المبادرة، وكذلك فعل الدكتور أيمن نور، وبات المعارضان في الصف الثاني، خلف شباب يمارس التغيير بكاميرا الموبايل وعلى اللاب توب.. دون الدخول في تعقيدات السياسة والتورط في أشكال التنظيم ثقيلة الحركة..

لمست في هذه الأزمة روحاً وطنية نادرة بين شباب بلادي، وأحسست بها تسري في عروق الشعب بخفة وسرعة.. الفيس بوك صار منبراً للتغيير، يعتليه طلبة المدارس والجامعات.. إنها مصر الجديدة.. مصر التي أدارت ظهرها للتبعية والخمول واللامبالاة.. وتستهل بأصغر فتيانها وفتياتها عهداً من الحرية والتغيير... كيف حالك أيها القلم، وأنت ترى كل ذلك؟
في بلادي أمل، وفي شبابها رجاء.. ولو لم يكن هذا هو الحال لما حشدت قوات الأمن المركزي جنودها وأغلقت الشوارع وحاولت منع المسيرات والمظاهرات والوقفات الاحتجاجية كل يوم، وحتى كتابة هذه السطور، إذ تتحول منطقة سيدي جابر في الإسكندرية الآن إلى ثكنة عسكرية استعداداً لزيارة الدكتور محمد البرادعي.. ولو لم تكن لتلك الطفرة في عقول شبابنا آثار إيجابية متوقعة ومؤكدة، لما أشهر الإعلام الحكومي خناجره في وجوه المطالبين بتغيير الدستور وإلغاء قوانين الطوارىء، ومعظمهم من طلبة المدارس والجامعات.. النظام البوليسي صار يرتعد من شباب الإنترنت.. الشباب الذي صدق وعده، وهزم الخوف والإرهاب وحده.. وهكذا يشعر كل نظام جبان يستعين على الشعب الأعزل بالقتل والتعذيب، بما في ذلك إسرائيل.. فبين نظامنا ونظامهم اتفاقية سلام وسلاح وبطش وتنكيل.. ما جمّع إلا اما وفّق!

بيني وبين التفاؤل المفرط شعرة.. أعرف! وأعرف أن كلامي قد يبدو كآيات الغلبة على الكفار وأحاديث النصر المبين التي يرددها البعض وهو يتقوقع في دور العبادة بلا عمل.. ينتظر الأمل! لكن الحقيقة أن هذا أمل ملموس، وليس غيبياً.. فمن ظل يدعي أن شبابنا رخو ويبحث عن الموضة ويميل إلى التقليد، عليه أن يعترف الآن بخطأه عندما يرى هذه القوة الثورية الجديدة، تنطلق بجموح في الشارع المصري، تزينها وجوه بريئة من أبنائنا وإخواننا الصغار، وترتفع فيها هتافات عفوية، ليس من بينها الإسلام هو الحل، ولا الحق فوق القوة.. تيار اللا تيار فاز بالشارع، وحزب اللا حزب تمكن من قلب الموازين وأحدث الحراك المنشود.. سلم لي بقى على الأحزاب العتيدة، التي تحرث في الرأي العام منذ عشرات السنين، ولم تفلح في زحزحة نفسها خطوة للأمام، فما بالك بالثمانين مليون!

ستغير هذه المجموعات غير المنظمة وجه مصر.. عفويتها وعشوائيتها ستكون جواز مرورها إلى الشارع المتعطش للتغيير.. ستنتقل رسالتها كالعدوى بين المصريين، وستنجح في إيقاظهم بصدماتها الإلكترونية الفعالة والآنية.. وسينبعث دخان التغيير المصري في فضاءات الدول العربية الأخرى.. لنجد أمتنا بعد سنوات قليلة وقد نهضت على قدميها من جديد...
صدقني! الأمل ساطع كالشمس في منتصف النهار.. يزيح الستار بنوره عن التدهور الذي يحيط بالبلد، والتغضن الذي يكسو ملامحها ويخفي بريق وجهها.. فلا يستغرقنك النظر إلى هذا القبح، وتنسى أنه لولا النور لما كشفتَ الظلمة، ولولا الأمل البادي في الأفق، لما رأيت الطريق إلى المستقبل.. وإذا كنت من المغضوب عليهم، فتأكد أنك لست من الضالين...
عايز نصيحتي؟ شارك... شارك في كل الفعاليات التي تسعى للتغيير.. اذهب إلى كل وقفة ومسيرة، وارفع صوتك بالنداء.. ستهز الهتافات عرش الفساد كلما اشتدت وارتفعت إلى السماء.. ستوقظ الحكومة من سباتها، وتقض مضاجع النظام.. الزن على الودان أمرّ من السحر!
ونصيحة أخرى لو سمحت.. حاور.. تكلم مع من تختلف معهم.. وقابلهم عند منتصف الطريق.. واتفق مع الجميع على مصلحة واحدة.. مصر!

وتعلم... ذاكر.. اتعب على نفسك.. ابحث.. اعرف.. اقرأ.. فك طلاسم الإنترنت.. التحق بدورات في اللغة الإنجليزية.. تواصل مع الآخر.. آمن بما تفعل.. احلم.. احلم... احلم...
الأمل بين يديك.. أنت صاحبه وصانعه.. فلم تبحث عنه بعيداً؟
افعل مثلي.. وانتصر على اليأس...

_________________________
* نشرت بصحيفة الدستور يوم 30 يونيو 2010

الأربعاء، 23 يونيو 2010

المتربصون


عيني عليك يا دكتور برادعي.. ما أن عدت إلي مصر حاملاً شموع الأمل، حتي ارتطمت رأسك بحائط زجاجي منيع، جعل من انطلاقة التغيير التي كنت تتطلع إليها مهمة متعثرة وشبه مجمدة!

بالتأكيد كانت صورة سعد زغلول وهو عائد من منفاه في جزيرة مالطة تغازل خيالك وأنت تحزم حقائبك في فيينا بعد أن عزمت علي الرجوع.. سعد زغلول عاد من المنفي علي أكتاف الثورة، ومنها إلي مؤتمر الصلح في باريس ليخاطب الاحتلال البريطاني باسم مصر.. لن نقارن! أنت وسعد مواطنان مصريان ألهب حماسَهما حبُ البلد ورغبا في التغيير.. لكنك لم تجد في المطار شيخاً يتناوب مع قس حمْل لافتة واحدة باسم مصر.. لم تسمع هتافات تشيد بوحدة أطياف الشعب في مواجهة الظلم.. لم تجد عمال البريد والمحامين والموظفين الحكوميين يتظاهرون في حماية حكمدار العاصمة.. محظوظ سعد زغلول! علي أيامه كان الوطن واحداً.. اليوم عليك يا دكتور برادعي أن توزع زعامتك علي فئات وأحزاب وحركات من الصعب حصرها.. لا تري فيك أي منها نفس الصورة التي تراها الأخري.. والاستقطاب.. يا عيني علي الاستقطاب.. كل صاحب راية في البلد يتشبث بذراعك من ناحية ويشد.. ماذا عليك أن تفعل؟ لا تستطيع حتي أن تملي كلمتك علي أحد في هذا الصخب.. لا يمكنك أن تقول: هس.. اختشوا.. انظروا إلي أعلي.. هذا هو هدفنا الذي نريد أن نرقي إليه! سيتصور المتكالبون عليك أنك تشير للعصفورة.. فكيف ينشغلون بها عن معركتهم الأهلية؟

ما أن عدت يا دكتور برادعي، وشكلت جمعيتك من شرق المسرح السياسي المصري وغربه، حتي بدأ التنافس علي النفوذ فيها بين مساعديك.. لم يرق لهم ما اعتبروه تشدداً من المنسق العام الدكتور حسن نافعة، وكان عليك أن تطبطب علي كتف هذا وتقبل رأس ذاك كي لا ينفرط العقد.. احتدمت الاعتصامات علي الأرصفة، واختلطت أصوات المحتجين مع حشرجات الإعلام الرسمي، الذي يسعي حثيثاً للطعن في نواياك وتلويث سمعتك.. فبماذا ترفع صوتك الناعم الرقيق؟ بالهتافات مع الهتيفة؟ أم بالرد علي الأقلام المأجورة؟ ثم بدأ كورال حزبي في ترديد مقطوعة مصمصة الشفاه، وأنت تستجدي الجميع للجلوس حول طاولة واحدة.. فالمعارضة لا تطمئن للإخوان، ومقاطعة الانتخابات لا تحظي بالإجماع، وكذلك اعتمادك كمرشح وحيد للرئاسة إذا ما تنازلت عن شرطك بتعديل الدستور أو تحقق.. كلما التمست من زعيم حزب أن يلين ويتنازل من أجل مصر، ضم شفتيه ورفع كتفيه وطرق بقدم علي الأرض، وهو يقول بدلال صبياني: لأه..

لم تترك حيلة سياسية تعلمتها من أقرانك في الخارج إلا وحاولت تطبيقها في مصر.. تحدثت مع وسائل الإعلام المستقلة لتدشن وجودك السياسي بعبارات محسوبة.. أسست مقاراً ووظفت ممثلين في كل مدينة وقرية.. دعوت للتوقيع علي عريضة بالمطالب أطلقت عليها حملة المليون.. وصليت الجمعة وحضرت قداس عيد القيامة.. واجتمعت مرات ومرات مع رموز المجتمع ورجال السياسة.. وفي النهاية ها هي مصر تتكشف أمامك.. لا اجتماع ينفع ولا مظاهرة.. فبين كل اثنين من مؤيديك خصومة، ووراء كل ابتسامة في وجهك مصلحة، وقبل كل اتفاق شرط، وبعد كل وعد نكوص.. ألم تختبر ذلك بنفسك؟

مصر هكذا منذ شاخت قياداتها وخرفت.. ماذا تتوقع من رئيس حزب أو زعيم حركة اقترب من الثمانين؟ رئيس البلد نفسه تجاوزها.. البلد عجّزِت.. وعلي صدور شبابها يجثم إرث من الأمية والخوف والفقر يحميه نظام بوليسي إيده طرشة.. النضال الإلكتروني دؤوب، لكنه بلا زعيم.. ولا يمكن لثورة أن تغير مصيراً من غرفة النوم.. النضال الإلكتروني مهم، لكنه لا يكفي!

أشعر بك، ويشعر بك كل مصري، وأنت تردد مقولة عبد المنعم مدبولي: أنا اللي جبت ده كله لنفسي! بدأتَ تقلب في أجنداتك الخارجية، وتلبي دعوات لمؤتمرات ومحاضرات.. هل هو هروب؟ لكن المعارضة بحاجة دائمة لرضعة حماس من الزعيم.. نعم سيادتك.. معارضتنا الطاعنة في السن لم تفطم بعد!! ومن ثم فقد أثار غيابك المتكرر ضجرها، وبدأ مهرجان التلويح بالاستقالات..

انظر إلي المشهد الآن.. أنت من طائرة إلي طائرة.. وأعوانك يعضون علي نواجزهم من الغيظ.. ونبرة أقطاب الجمعية بدأت تخفت.. ووتيرة جمع التوقيعات تقل.. والانتخابات البرلمانية علي الأبواب.. والانتخابات الرئاسية في الطريق.. هذا في الوقت الذي بلغ التربص أشده بين أطياف المجتمع.. وما أدراك ما التربص!

في ساحات المحاكم أمسك القضاة بتلابيب المحامين.. تخلي الطرفان عن وقارهما وتراشقا بأقذع الاتهامات.. نسيا الغلابة المختصمين علي لقمة عيش أو راتب متأخر أو علاقة أسرية علي المحك.. طظ في هؤلاء حتي تضع الحرب بين رجال العدل أوزارها.. ولكن عندئذ كم واحدًا فينا سيبقي في وجدانه ذرة احترام لهذا الحصن المتداعي؟ سمعنا من قبل عن قضاة مرتشين، ومحامين أفاقين.. وكنا برغم ذلك لا نكف عن ترديد عبارات الإجلال لأحكام القضاء ونأبي أن نعلق عليها.. أما الحكومة علي مر العقود الماضية فكانت وقحة بما يكفي لتحدي عشرات الأحكام القضائية وعدم تنفيذها.. وظل الزواج السري بين القضاء والنظام من الخطوط الحمراء.. لكننا أبداً لم نتوقع أن يبلغ خلاف في أوساط رجال القانون درجة الشرشحة! إلي من نلجأ اليوم في قضايا التعذيب والتزوير، وما أكثرها؟ إديني عقلك!

المسيحيون والمسلمون يحتلون جانباً آخر من المشهد، فقد بات في يقين الكنيسة أنها ضيف ثقيل علي البلد، والعديد من القرارات الحكومية التعسفية والقوانين الجائرة ترسخ هذا الشعور.. المادة الأولي من الدستور تكفل مبدأ التساوي في المواطنة، ثم تأتي المادة الثانية لتهدده بجعل الإسلام هو المصدر الوحيد للتشريع.. والنتيجة هي ما نراه الآن! المسلم ظل من حقه حتي وقت قريب أن يبني زاوية للصلاة في بئر السلم للاستفادة في أحيان كثيرة من التخفيضات الحكومية في تكاليف الكهرباء والمياه والعوائد.. بينما المسيحي عليه إلي الآن أن يستجدي عشرات الجهات، أعقدها الأمنية، وأن يستوفي شروطاً عشرة تعرف بشروط القربي (اخترعتها وزارة الداخلية عام 1934) من أجل أن يبني كنيسة.. ولا يقل الأمر تعقيداً إذا أراد أن يرممها قبل أن تنكسر رقبته تحت سقفها المتهالك.. فحكومتنا متدينة، والخمار يكسوها حتي أخمص القدمين، لذا فهي تطبق الوثيقة العمرية بحذافيرها.. ناهيك عن التحرش الموسمي بين مسيحيين ومسلمين، الذي غالباً ما ينتهي بالدم.. فهل يعقل أن نناقش حرية العقيدة وممارسة العبادات وحقوق المواطنة في القرن الواحد والعشرين، في بلد يفخر بحضارته وثقافته وتفتحه علي العالم؟ قداسة البابا شنودة حاول أن يداري ضيقه من حال الأقباط في مصر عندما منحني شرف مقابلته عام 2003.. ببلاغته التف علي أسئلتي واكتفي بنظرات الأسي المعجون بقليل من الأمل.. اليوم فاض الكيل بالبابا، فرفع للمرة الأولي صوته الواهن بالاحتجاج علي ليّ ذراع الكنيسة بحكم محكمة.. وكأنني أعيد الاستماع إلي نفس شكاوي الزعيم المسيحي الراحل جون قرنق في جنوب السودان.. إن البابا اليوم في مواجهة نظام بأسره.. الإنجيل يهتز.. والقساوسة يغلون.. والصليب يرتعد غضباً.. إنه دِمّل اعتصره حكم محكمة القضاء الإداري الغامض، فخرج صديد الغل المتراكم والموروث.. ليستكمل آيات التربص الشعبي والرسمي.. كله مخنوق من كله!

المشهد يتزين كذلك بالأصفاد التي تنتظر زملائي الصحفيين وائل الإبراشي، ومجدي الجلاد، وعادل حمودة، وخالد صلاح، وغيرهم ممن تربص بهم الوزراء والمسئولون الرسميون ورجال الأعمال النافذون.. قضية الإبراشي هي الحلقة الأحدث في سلسلة التنمر الحكومي بأصحاب الرأي.. نقل الإعلامي الجريء في صحيفته (صوت الأمة) نبض الشارع المصري بشأن قرارات الضرائب العقارية محل الجدل.. معظم الناس ناقمة علي تلك القرارات، خاصة في ظل الأزمة العالمية، ووضع الاقتصاد المتدهور في البلاد، وتدليل رجال الأعمال بتخفيف الأعباء عنهم علي حساب الغلابة ومحدودي الدخل.. لكن وزير المالية يوسف بطرس غالي ـ الذي سبق وأن سب الدين تحت قبة البرلمان ـ اعتبر أن ناقل الكفر (من وجهة نظره) كافر.. وبما أنه لا يستطيع معاقبة ملايين المحتجين علي قراراته، فليجعل من وائل الإبراشي عبرة.. وطبعاً يا فرحته بالمادة 177 من قانون العقوبات.. إذا طبقت كما يأمل، فسيعاقب رئيس تحرير صوت الأمة بالحبس مدة قد تصل لخمس سنوات وغرامة تصل لعشرة آلاف جنيه بتهمة التحريض علي عدم الانقياد للقوانين.. مثله في ذلك مثل المدانين في قضايا قلب نظام الحكم والإرهاب وتهديد السلم العام!! لا وعد الرئيس بإلغاء حبس الصحفيين طبق، ولا احترمت الحكومة إعلان الرئيس في يناير الماضي أن قانون الضرائب العقارية لم يحسم بعد.. هوا من بيحكم البلد بالظبط؟.

حتي القراء يتربصون في أحيان كثيرة بالصحفيين.. منذ أيام كتب ابراهيم عيسي مقالاً جريئاً يدعو فيه لتشجيع الفريق الجزائري في كأس العالم.. أراد ابراهيم أن يطوي صفحة خلافنا الأحمق مع أشقائنا الجزائريين، ويقول «أنا وابن عمي ع الغريب".. فناله من تعليقات زوار الموقع الإلكتروني للدستور أقسي الشتائم والسباب.. يا ابن كذا ويا ابن كذا.. وبقيتُ أبلغُ عن (تعليقات غير لائقة) طيلة المساء مستغلاً هذه الخاصية ـ التي تتيحها المواقع التفاعلية ـ بلا جدوي... يا إلهي! علينا أن نفكر ألف مرة قبل أن نكتب كلمة قد تثير غضب قارئ أو مجموعة من القراء.. فهناك من يتربص، ويتطلع للتنفيس، ويبحث عن ضحية!

ولكن انتظر.. فنحن نتربص بأنفسنا أيضاً.. ألم تر كيف فعل الوفد بالمصري اليوم؟ الدكتور عمار علي حسن كتب في المصري عن صفقة بين الحكومة والحزب العتيد للتخلي عن الدكتور البرادعي وعن الإخوان، مقابل بعض المقاعد الوثيرة في مجلس قال إيه الشعب.. صحيفة الوفد كرست في صفحتها الأولي مساحة يومية للهجوم علي المصري اليوم واتهامها بالعمالة وتزييف الحقائق.. والمصري اليوم بدورها ـ وبطبيعتها ـ لم تذر اتهاماً إلا وعقبت عليه، وسارعت بتقديم بلاغات للنيابة العامة ضد الوفد بالقذف والسب.. ولم يحقن هذا الحبر المهدر سوي انتخاب قيادة جديدة للحزب، ودُفِنت الضغينة حية... لكنها ما زالت يقظة ونشطة في خلافات أخري كثيرة داخل بلاط صاحبة الجلالة! وبمناسبة صاحبة الجلالة تلك.. سألت الأستاذ مصطفي أمين عندما كان عمري أربعة عشر عاماً: كيف تري الفرق بين الصحافة اليوم والصحافة من خمسين سنة؟ فقال دون أن يفكر: الصحافة بالأمس كانت صاحبة الجلالة، أما اليوم فقد صارت الآنسة المهذبة..! يا تري كيف كان سيصفها الأستاذ لو عاش إلي يومنا هذا؟

وفي بؤرة مشهد التربص المحيط بمصر، يستلقي الشاب المصري القلق علي مستقبله تحت جزمة رجل الشرطة، يئن من التعذيب والتنكيل به لأنه جاهر بمعصية الرفض والاحتجاج.. تتربص الأجهزة الأمنية بالشعب.. تمسك له علي الواحدة.. تلبد له في الدرة.. يتغذي جنودها علي ضرب وقتل المعارضين وغير المعارضين.. وزارة الداخلية سمن علي عسل مع الحكومة ورجالها الأوفياء.. وحميم علي زقوم مع حركات التغيير وشبابها الغلابة..

كيف يمكن للبرادعي أو لغيره أن يقود ثورة للتحرر من الرجعية والتخلف في بلد هذا حالها؟ كيف يمكن لمسيرة واحدة أن تسلك الاتجاه نفسه إذا كان كل فرد فيها يتململ من لمس كتف أخيه؟ كيف تهتف الحناجر بالشعار نفسه وتنادي بنفس المطالب إذا كانت الألسنة منهمكة في تبادل الاتهامات والشتائم؟...

مهمتك صعبة يا دكتور برادعي.
_________________
* نشرت بصحيفة الدستور يوم 23 يونيو 2010

الأربعاء، 9 يونيو 2010

أحلام "طريفة"!

رأيتُ أفريقيا بالعين المجردة دون أن أبرح مكاني في أوروبا.. ولّيْتُ ظهري لمدينة طريفة الإسبانية، وجلستُ علي شاطئ مضيق جبل طارق أراقب بانبهار البيوت المغربية المتناثرة حول أسوار مدينة طنجة علي الضفة الأخري.. لا يوجد ما هو أقرب من هذه البقعة الأوروبية إلي القارة السمراء.. تبحر البواخر بين الساحليْن كأذرع تمتد للمصافحة كل يوم عشرات المرات.. يكاد صخب المدينتين يختلط في الأجواء وهو يرتفع بهتافات الصيد نهاراً وقرع الطبول ليلاً، وتحمل الرياح النشطة في ملتقي البحر والمحيط نداءات التقارب الثقافي بين الأمتين الأفريقية والأوروبية..

لن تجد مفراً من الاستسلام لهذه الانفعالات والخواطر إذا كنت معي في طريفة الأسبوع الماضي، ضيفاً علي مهرجان للسينما الأفريقية، وحولك فخفخينا من الوجوه البيضاء والسمراء تتبادل نظرات الود وعبارات المديح وطرقعات القُبَل.. في لحظة ما تصدق أن القارتين صارتا واحدة بفعل هذه المشاعر المتدفقة في الساحات وبارات الأزقة خلال أمسيات الفلامنكو علي الإيقاع الأفريقي! ترغمك النهود الإسبانية المرتعشة مع دقات الدفوف علي النظر في الأمر! تُسكِرك النسمات الرقيقة فتنسي التاريخ والسياسة، ثم تُرخِي جفنيك وتردد مع «ماني سيزنيروس مانرِك» نشيداً وطنياً جديداً من خيالها ينادي بوطن أورو أفريقي واحد... «ماني» ليست ديبلوماسية أو مدفوعة من مخابرات بلادها لاحتواء الأفارقة.. إنها مديرة المهرجان التي أسسته قبل سبع سنوات، وتجمع حولها فريقاً من المخلصين للفن السابع، بعضهم من أصول أفريقية، والبعض الآخر يميل مثلي إلي ذوات البشرة الداكنة!

قابلتُ «ماني» في نواكشوط العام الماضي عندما كنتُ عضوا في لجنة تحكيم مهرجان الفيلم الموريتاني، بينما كانت هي تجوب أحياء ونجوع العاصمة الفقيرة بآلة عرض سينمائي في الهواء الطلق جاءت بها براً من إسبانيا.. كان المشهد لا يوصف، الفتيات والصبية ينبذون فجأة دُماهم القطنية والخشبية، والسيدات يغادرن عتبات أكواخهن، والرجال يتذرعون بطلب الراحة من غزل شباك الصيد، ويهرع الجميع نحو تلك الشاشة السحرية التي أضاءت لهم ظلام الحي.. صورتُ الدهشة في هذه العيون لتقرير لم يبث، لكنني أشعر بالامتنان لـ «ماني» وزملائها كلما راجعت هذه اللقطات..

لذلك لم أتوان في تلبية دعوتها لحضور مهرجانها الأفريقي في طريفة، ملهَماً بعشقيْن: عشقٍ لأفريقيا التي زرت نصفها، وعشقٍ للسينما التي تحتلني بالكامل.. استهوتني فكرة العناق الثقافي والجغرافي بين القارتين في تلك المدينة الأندلسية القديمة.. ولم لا؟ ألا يتعطش الكثير منا لسلام مع الغرب يجلب المعونات ويمول المشروعات ويوفر القروض؟! لكن.. ما أن مضي يومي الأول في الاستماع إلي الإشادات والوعود وتبادل بطاقات التعارف، حتي عادت إليّ أسئلة تاريخية أخري، جلست هنا علي شاطئ المضيق ـ حيث أكتب هذه السطور ـ أبحث لها عن إجابات، بينما أحاول بين فقرة وأخري تقريب عدسة الكاميرا إلي حدها الأقصي، باحثاً علي الشاطئ المقابل بفضول عن سيدة مغربية تنشر غسيلها، أو طفلٍ يلهو بطائرته الورقية...

كان فيلم (باب ستة) الذي شاهدته بالأمس هو الذي أيقظني من بِنْج المهرجان، الفيلم الذي أخرجه البرتغاليان بيدرو بينهو وفديريكو لوبو يروي في قالب وثائقي قصص شبان وفتيات من شتي الأجناس الأفريقية تجمعوا علي أبواب مدينة سبتة، استعداداً للتسلل عبرها خفية إلي عالمهم المأمول في قارة أوروبا.. ما أكثر هؤلاء! بين عامي 1996 و2006 تضاعف عدد المهاجرين غير الشرعيين منهم إلي إسبانيا وحدها من خمسمائة ألف إلي خمسة ملايين، طردَت الحكومة الإسبانية منهم نحو ستين ألفاً عام 2007، وخلال الأعوام الثلاثة الأخيرة ـ مع ارتفاع نسبة البطالة في إسبانيا إلي عشرين بالمائة بسبب الأزمة الاقتصادية ـ أخذت المشكلة أبعاداً «دراماتيكية» ـ كما تقول منظمات حقوق الإنسان ـ بسبب قسوة السلطات الإسبانية في التعامل مع هؤلاء المهاجرين غير الشرعيين... تعلم «ماني» هذه الأرقام، وتعلم أن بلادها وقّعت اتفاقيات مع سبع دول أفريقية أملاً في لعب دور الشرطي لحماية حدودها، لكن ما حك ظهرَك مثلُ ظفرك.. هكذا يقول الأسبان أنفسُهم، حتي المتحمسين منهم لما سمي بمشروع مارشال لمواجهة الهجرة عن طريق دعم اقتصادات الدول الأفريقية المصدّرة لها...

أي مشروع هذا الذي قد ينتشل أفريقيا من مستنقعها البائس؟ إن هؤلاء يضعون خططهم علي الورق وهم جالسون في غرفهم المكيفة! هل ذهبوا إلي الصومال مثلاً؟ هل شاهدوا كيف أبيدت الدولة هناك عن بكرة أبيها؟ أنا ذهبْتُ إلي هناك مرتين، ورأيتُ كابلات الكهرباء وقد اقتلعت من الأسفلت كي تغرق البلاد في الظلام وتختفي عن الأعين جرائم القتل وضحاياها من الأبرياء.. هل ذهبوا إلي جنوب السودان؟ ذهبتُ أيضاً إلي هناك، وأرشدني جون قرنق ـ قبل اغتياله وقتها ـ إلي أبناء جلدته الموشكين علي الفناء جوعاً وقهراً في القبائل والقري المهمشة.. هل ذهب الطامحون الأوروبيون إلي الكونغو وشاهدوا جثث المدنيين ملقاة في الشوارع بفعل الأمراض وسوء التغذية، والنزاع العسكري بين الحكومة والمتمردين، كلٌ مدعوم ببعض جيرانه علي الحدود..

وماذا عن أريتريا التي شاهدتُ فيها الفقر ولمستُ القمع حتي بعد أن وضعَت الحربُ أوزرَاها بينها وبين جارتها إثيوبيا بسنوات؟ وساحل العاج؟ وبروندي؟ وأوغندا؟ وليبيريا؟ وأنجولا؟ وتشاد؟ والسنغال؟ ناهيك عما فعله الإرهاب في الجزائر، والفتنة الدينية في نيجيريا، والانقلابات في موريتانيا، وغيرها الكثير والكثير...

هل يعرف الإسبان كم أهدرت أفريقيا في تلك الحروب والنزاعات؟ أكثر من خمسمائة مليار دولار... كم من هذا المبلغ يمكنك يا «ماني» أن تدفعي إذا كنت بحق تحبين أفريقيا؟

مهرجان لطيف! كانت هذه هي إجابتي الشافية علي زميلتي في «بي بي سي» عندما سألتني علي الهواء عن رأيي فيه.. مهرجان شيق.. مهرجان مسلٍ.. مهرجان دمه خفيف.. لكن ما الذي يمكن أن تقدمه هذه المغازلات الأوروبية لشعوبنا المهروسة تحت أقدام حكامها؟ تضم قائمة المغازلات ـ غير هذا المهرجان الحافل ـ مشروعاتٍ لتمويل الأفلام وتطوير الفلاحة ومؤتمرات لجذب الاستثمار، بناء كنائس ـ كتلك التي زرتُها في جوبا جنوب السودان ـ للتبشير والتعليم والرعاية الصحية، منظمات إغاثة، «مراسلون بلا حدود»، «أطباء بلا حدود»، طموحات بلا حدود.. وعود بلا حدود.. لكن مشكلة أفريقيا هي هي، بل تتفاقم وتزداد توحشاً.. ولا تريد لها إسبانيا أن تُحَل إلا لكي نخرج من دماغها، ولا نريها وجوهنا أبداً.. لكي نبقي في بلداننا السقيمة إذا توفر فيها الحد الأدني من متطلبات العيش، من وجهة نظر عزيزتي «ماني»...

وأمثال «ماني» طمّاعون، لا يرغبون فقط في أن يتخلصوا منا للأبد، بل يريدون منا أن نحبهم.. يأتون بنا من الضفة الأخري للمضيق، ويحجزون لنا الفنادق الفاخرة، ويوفرون لنا أشهي صنوف الطعام، ويدلعوننا مساء في البارات بالرقص والطبول، ثم يُشِيدون بإبداعات صناع الأفلام المبتدئين من أفقر بلدان أفريقيا.. من أجل أن نقول: ما أطيب هؤلاء! إنهم يؤمنون بقضيتنا، ويسعَوْن بحق لمساعدتنا.. إن معوناتهم لنا لا تتوقف.. جزاهم الله خير الجزاء..

لكن ماذا عن الفاتورة المنسية؟ الفاتورة التي تتبرأ منها أوروبا، رغم أن الدليل علي شرعيتها في كل بيت أوروبي يتزين بتحف أفريقية أصيلة، أو يستظل بشجرة اقتلِعَت بذرتها النادرة من التربة الأفريقية، أو يستثمر في تجارة يعود تاريخها لنهب ثروات أفريقيا واسترقاق أبنائها.. الفاتورة المنسية ثقيلة، ولو فتحت دولة أوروبية واحدة فاتوحة سدادها، ستنقلب الآية، ونبدأ نحن في تنظيم مهرجان لتشجيع الأفلام الأوروبية الناشئة في طنجة!

الفاتورة بنودها لا تحصي ولا تعد.. نريد دية عن كل نفس أفريقية قتلت في عهد الاستعمار، وتعويضاً عن كل مصاب في ذلك العهد، ترك جرحه عاهة أو لم يترك.. نريد تعويضاً عن التجار المسلمين في شمال أفريقيا الذين جردتهم إسبانيا والبرتغال من أملاكهم وتجارتهم وسجنتهم في القرن الخامس عشر لإقصائهم عن سوقهم الطبيعي في بلدان شرق أفريقيا، فحرمتهم وحرمت أحفادهم من العيش الكريم.. نريد استرداد سبتة ومليلية اللتين تحتلتهما إسبانيا من المغرب منذ العام 1497، نريد حقنا في المياه والنفط والمعادن التي شُحِنت إلي دول أوروبا ونحن نئن من بطش احتلالها وغير قادرين علي رفع رءوسنا.. نريد نصيبنا في كل طفل أوروبي تعلم علي حساب جهلنا، وكل مريض أوروبي عولج علي حساب أمراضنا وأوبئتنا، وكل بناء أوروبي شُيّد بسواعد أحرارنا المستعبدين.. نريد ما هو أكثر من مجرد مهرجان وحفل صاخب وبطاقة تعارف عليها كود إسبانيا.. نريد اعترافاً بحقوقنا التي نُهِبَت في عقود الاستعمار، وفضحاً للأنظمة العميلة، التي ما زالت تقتات من هذه الدول الاستعمارية لمواصلة امتصاصنا واسترقاقنا.. وردّاً لكل قرش سُرق من جيوبنا ونحن أذلة مجردون من السلاح.. وقبل كل ذلك نريد رد اعتبار يفوق وجبة غداء علي شاطئ مضيق جبل طارق أو كوبون مشروب مجاني كالذي رفضتُ تسلمه من المهرجان.. نريد حقنا في الريادة علي العالم، نحن الأحق بمقعد دائم في مجلس الأمن، نحن الأولي بحق الفيتو، نحن الأجدر بالقوة والاحترام.. لم تتكبد أمة في العالم أشد مما تكبدته أفريقيا.. الأفارقة يعرفون معني الفقر والأمية والعزلة والموت جوعاً.. نحن الذين قُطِعت أيدينا كي لا تحمل السلاح، وجُرّفت حقولنا كي نكف عن المقاومة.. واغتصبت نساؤنا كي ننكسر ولا نجرؤ علي رفع أصواتنا، لكننا مع ذلك تحررنا بشرف وحققنا الاستقلال، ولم يكن ذلك علي حساب أحد، ولم ننهب في سبيله حقوق أحد.. ألا ترين معي يا «ماني» أن الموضوع أكبر من مجرد مهرجان، وأكبر من كل هذه المشروعات الأوروبية ذات العناوين الرنانة من أجل ما تسمونه مساعدة أفريقيا؟

«ماني» مشغولة.. تركتُها مع مساعديها هذا الصباح علي مقهي في شارع شانتشو أل برافو منهمكة في تقييم العروض ودقة تنفيذ المهرجان، وواصلتُ طريقي باتجاه كنيسة القديس متّي التي تتصدر الشارع الضيق.. كانت أوجاع أفريقيا لم تستيقظ في قلبي بعد.. دخلتُ إلي الكنيسة برغبة سائح يطابق ما قرأه عن معالم المدينة مع الواقع البديع.. هذه الكنيسة شيدها الإسبان في القرن السادس عشر علي الطراز القوطي وأعيد تصميم واجهتها في القرن الثامن عشر.. لا تختلف الكنيسة عن الكنائس المسيحية التي زرتها في بريطانيا، لا شك أن نقوشها لافتة، وزخارفها المطلية بالذهب تخطف الأبصار، وهو ما آخذه علي أتباع دين تكمن عظمته ـ مثل الإسلام ـ في دفاعه عن الفقراء والمسحوقين.. لكن ما عكر صفو زيارتي أنني أخرجت من جيبي صفحة مطبوعة من الإنترنت حول معالم المدينة لأراجع تاريخ الكنيسة، فإذا بي أكتشف أن هذه الكنيسة بالذات بنيت علي أطلال مسجد من العصر الأندلسي، كما هو الحال مع كنيسة القديسة مريم الملحقة بقلعة جوزمان بجوار ميناء طريفة، والتي شيدت هي الأخري علي أنقاض مسجد من القرن العاشر الميلادي.. يا له من صباح! هل كان عليّ أن أتذكر خيبتنا في طريفة؟ وكْستنا نحن العرب والمسلمين تلاحقني حتي في أقصي الجنوب الأوروبي؟

جلست علي إحدي الأرائك الخشبية الأنيقة في صحن الكنيسة، ممعناً النظر في المحراب الحافل بالشموع، وشارداً في تاريخ الأندلس الذي لم يعد البكاء عليه شيقاً.. تذكرت الحقائق كمن يردد نصاً أُعِد سلفاً.. جاء القائد الشاب طارق بن زياد إلي هذه البلاد في القرن الثامن وضمها للدولة الأموية.. بعد سنوات قليلة كانت الفتوحات قد امتدت شمالاً إلي وسط فرنسا وغرب سويسرا، وغرباً إلي لشبونة.. كما كانت الفتوحات الموازية في أفريقيا قد بلغت قلب القارة وضمت خيرة أبنائها إلي جيش الدولة العتيد.. لكن الثقافة كانت دائماً هي الحلم في قلوب الحكام الأمويين خلال أكثر من مائتي عام، من صقر قريش إلي هشام بن الحكم.. ازدهر الأدب والفن والعمارة، وشُيّد مسجد قرطبة، وأحيطت المدينة بأسوار عالية وأنشئت بها المدارس والمنتديات والمكتبات والحدائق، وكانت تضاء ليلاً بمصابيح الإنارة لمسافة ستة عشر كيلو متراً... ثم زرع شيطان الضعف والأفول بذرته في نفوس أمراء الأندلس، فأعلن كل منهم استقلاله بإحدي دويلاتها، مما أغري بالهجوم الإسباني الكاسح، وسقطت غرناطة عام 1492، ومعها سقطت الأندلس وحلم القوة العربية إلي الأبد..

أطرقتُ برأسي في حسرة معتادة، نظرت بعمق تحت قدميّ وكأني أريد أن أنبش في الأرض.. يا تري كم من المسلمين قتل هنا؟ وكم من الدماء أريقت في المسجد المهدوم؟ وماذا كان دعاء المقتولين؟ وعلي من؟ وهل هو نفس دعائنا اليوم علي قادتنا الضعفاء الفاسدين؟ ارتفع بنيان الكنيسة علي بقايا المسجد، وشاخت الكنيسة فأعاد الإسبان تجميلها.. ثم بَهَتَ لونها من جديد وبدت علي وجهها آثار الزمن، وسوف يعاد ترميمها بالتأكيد.. أما نحن فشيخوختنا مصير لا نهائي، هي محطتنا الأخيرة التي سنبقي فيها إلي يوم القيامة.. منذ نهاية القرن الخامس عشر لم تقم لنا قائمة.. نتقدم للوراء، ونخسر كل يوم أرضاً جديدة.. حتي ماء النيل صار بعيد المنال.. فقدنا الأندلس في أوروبا، ونفقد النيل في أفريقيا، ولم يعد لنا أصدقاء في القارتين، إلا من تجمعه بحكامنا مصلحة شخصية تضمن لهم البقاء..

خرجتُ من الكنيسة بنقمة بالغة علي حالنا، وببعض الصور الفوتوغرافية، لعلي أدقق فيها لاحقاً فأجد أثراً لمنبر أو مشكاة!

رحلتي إلي طريفة كشفت لي مقدار الفشل المحيط بأمتنا العربية والأفريقية علي السواء.. واستعلاء أوروبا وتنصلها من مسئولياتها الحقيقية تجاهنا.. وقناعتنا الساذجة ـ نحن العرب والأفارقة ـ بفعاليات أوروبية تصحح قشور أخطائهم بحقنا.. لكننا ننسي دائماً لب المأساة، أما هم فيتناسون..

تحلم إسبانيا بأن تعالج مرضاً فتاكاً بحبة إسبرين.. تفخر ـ كشقيقاتها في أوروبا ـ بمكانة المنتصرين، وإللي عندنا نعمله.. ما الذي ينبغي عليها فعله أكثر من مهرجان للسينما الأفريقية؟ ستتناقل وسائل الإعلام الخبر، وتتردد سيرتها الحسنة علي كل لسان كراعية للفن الأفريقي، ومُحَفِزة للمبدعين الأفارقة علي البقاء في بلدانهم وإصلاحها من الداخل.. حتي شبر الأرض الذي يحلم به مهاجر أفريقي بائس طمعاً في حياة أفضل لن يحظي به.. بالأمس دخل الأوروبيون بلادنا وعاثوا فيها فساداً ونالوا منها كل ما أرادوا.. واليوم حرام علي الأشقياء المحرومين أن يستردوا من حقوقهم قطرة..

الحال كله مقلوب.. لا علي أوروبا أن تفتح أبوابها لكل من هب ودب، ولا علي أبنائنا أن يخاطروا بحياتهم مهاجرين متسللين متسترين بالظلمات.. لكن علي أوروبا فقط أن تسدد ديونها لنا، وعلي حكوماتنا أن تكف عن التبعية والمزايدة، وتتخلص من لعنة أمراء الأندلس المهزومين...

وقبل ذلك لن تكون الوحدة بين الأمتين الأفريقية والأوروبية صادقة.. ولن يتحقق حلم طريفة في دمج القارتين في مدينة واحدة، حتي لو كانت بهذه المياه الصافية، والرمال الناعمة، والهواء العليل...

أترك القلم جانباً لأليّن أصابعي المجهدة من الكتابة.. أمسك بالكاميرا وأصوبها باتجاه طنجة.. أقترب بالعدسة أكثر فأكثر... لماذا لا أري سيدة تنشر غسيلها أو طفلاً يلهو بطائرته الورقية؟

____________________
* نشرت بصحيفة الدستور يوم 9 يونيو 2010

الأحد، 30 مايو 2010

حرب اليوتيوب

إضافة صورةكل عام ويوتيوب بخير.. الأسبوع الماضي احتفل بعيد ميلاده الخامس، فخوراً بالمعارك التي خاضها، والوزارات التي أسقطها، والأنظمة التي كشف عوراتها.. غيّر هذا الموقع الإلكتروني من وجه العالم، جعل من مشاهدة مقاطع الفيديو العفوية والمدروسة طقساً يومياً لدي ملياري مستخدم للإنترنت، تزداد معرفتهم بأسرار مجتمعاتهم يوماً بعد يوم، وتتضاعف ـ بفضل ذلك ـ قدرتهم علي المقاومة والتغيير..

في عيد ميلاده نقول له من أعماق قلوبنا: شكراً! فلولاه لما شاهدنا عصا الشرطة في مؤخرة عماد الكبير سائق سرفيس بولاق الدكرور، وإلا لادعت وزارة الداخلية أنه يفتري عليها وخرجت من القضية كالشعرة من العجين! ولولاه لما شاهدنا صدام حسين يتقدم بثبات لحبل المشنقة ثم يتلو نصف الشهادة ويموت، وإلا لزعم خصومه أنه توسل إليهم وقبل أقدامهم وطلب منهم الصفح والمغفرة.. ولولا اليوتيوب لما شاهدنا كمائن المقاومة العراقية تقتلع الدبابات الأمريكية، بحيث لا يجرؤ جورج بوش وأعوانه بعدها علي الإنكار... اختصر يوتيوب المسافات، عبر الحدود وتجاوز الخطوط الحمراء، جعلنا نتسلل إلي غزة عبر أنفاق التهريب، ونتفاعل بهمجية مع تعصب بعض الجزائريين في مباريات كرة القدم، ونشمئز من التنكيل بجثة قاتل مصري في قرية لبنانية.. تحدي يوتيوب النظام الإيراني وفضح قمعه لمعارضيه في الانتخابات الرئاسية، وألقي في نفوس الأمريكيين الرعب من رسائل بن لادن، وحطم قيود الرقابة علي أتباع الديانات المغمورة والميول السلوكية المنبوذة.. رأينا وجوه المعارضين في بلداننا لأول مرة، واستمعنا إلي أصواتهم وأفكارهم بدون مونتاج أو مؤثرات.. لقد وجدت الأنظمة السياسية المستبدة نفسها في مأزق.. فلم يعد في عصر اليوتيوب شيء اسمه المجهول!

قصة مولد هذا الموقع الجسور لا يميزها شيء، قد تحدث لي ولك كل يوم عشرات المرات.. تصور نفسك مع أصدقائك في حفل عشاء، تقرعون الكؤوس ـ لا سمح الله ـ وتتناولون الطعام وتلتقطون صور الفيديو للذكري.. في نهاية الأمسية تلحّون في حصول كل منكم علي نسخته من هذه اللقطات المطوّلة، وتوفيرها لبقية الأصدقاء الذين لم يتمكنوا من الحضور.. تتبادلون الرأي في الكيفية المثلي لتنفيذ ذلك، لكن تجدون في الأمر صعوبة.. فإذا كان دأبكم في مجال التكنولوجيا محدوداً مثلي فسوف تتغاضون سريعاً عن هذا الأمل، وتعِدون أنفسكم بتكرار المناسبة قريباً في ظل إمكانات أوفر وأسهل.. لكن ذلك لم يكن رد فعل تشاد هيرلي وستيف تشن وجاويد كريم بعد أن تناولوا عشاءهم في سان فرانسيسكو.. لقد عكفوا بإصرار علي ابتكار وسيلة لتبادل ملفات الفيديو فيما بينهم، فكان «يوتيوب» في ليلة من ليالي شهر مايو عام 2005 تطورت الفكرة إلي موقع مفتوح، جذب إليه الملايين في أشهر قليلة، مما أغري جوجل بشرائه من الشبان الثلاثة بعد نحو عام بمبلغ مليار ونصف المليار دولار!

في عام 2009 كان يوتيوب قد حظي بالصدارة في عالم الإنترنت، لذا عوّل عليه باراك أوباما في حملته الرئاسية، فدعا مؤيديه إلي بث خطبه ومؤتمراته الانتخابية ورسائل التأييد له علي الموقع الشعبي، كي يشاهدها ملايين الناخبين في شتي أنحاء الولايات المتحدة.. لقد تحول يوتيوب إلي ساحة معركة لم يدفع فيها السود والفقراء والمستضعفون قرشاً واحداً من أجل التغيير.. وفي النهاية نالوه، ودخل الناشط الحقوقي الأسود إلي البيت الأبيض من بوابة اليوتيوب، مما شجع الأغلبية الصامتة في كثير من دول العالم ـ ومنها مصر ـ علي السير في نفس الطريق..

كان المناخ العام في مصر ـ حتي قبل مولد يوتيوب بسنوات ـ قد هيأ لظهور نشطاء الإنترنت، هؤلاء الذين أفرزهم الفقر مع تدهور الأوضاع المعيشية، والكبت السياسي مع احتكار الدولة للإعلام التقليدي، وعدم الرضا عن مواقف النظام الخارجية مع احتدام الصراع بين العرب والقوي الكبري في العالم.. كان عصر الأحزاب قد انتهي، وبعض قياداتها شارفت ـ هي الأخري ـ علي الثمانين، ولم يعد الإعلام ينقل عنها سوي أخبار الصراعات الداخلية والاجتماعات الروتينية فيما بينها للتنسيق من أجل تغيير لم يتوصل أحد لتعريفه.. تقاعد جمهور هذه الأحزاب بعد أن تحطمت أحلامه علي صخرة الكهولة السياسية في مصر، لتخلو الساحة أمام جيل جديد ساعدته الثورة المعلوماتية وما يسمي بالجيل الثاني من الإنترنت ذي الخواص التفاعلية علي أن يبدع أدوات جديدة للتغيير.. بدأت بالمدونات، مروراً باليوتيوب، وانتهاء بالفيس بوك وتويتر أشهر موقعين للتواصل الاجتماعي الآن علي الإطلاق..

كان التحدي الأكبر أمام هؤلا النشطاء هو مقارعة آلة الإعلام العتيقة التي تسيّرها الدولة وتغسل بها الأدمغة، خاصة مع استفحال الأمية والفقر.. الإعلام التقليدي يتحدث عن بلد مستقر وشعب راضٍ وحكومة نموذجية، بينما لا يجد أكثر من عشرين مليون مواطن قوت يومه وفقاً لأكثر الإحصاءات تفاؤلاً.. وجد معظم هؤلاء النشطاء ضالتهم في موقع يوتيوب، فكلفوا أنفسهم عبء توثيق الفقر والانتهاكات في كل مكان وبثها فوراً علي الموقع، لإحراج الحكومة وإرغامها علي الاستجابة لمطالب الإصلاح والتغيير، لكن هذا الجهد ظل متواضعاً..

في هذا الخضم عاد البرادعي إلي مصر، مسبوقاً بتصريحاته العفوية عن ترشحه للرئاسة إذا جري تعديل الدستور، حشد نشطاء الإنترنت الرأي العام الإلكتروني للالتفاف حوله، وبين عشية وضحاها صار الموظف الدولي زعيماً ورمزاً.. وانتقلت عدوي تأييده كالنار في الهشيم علي اليوتيوب وغيره من المواقع التفاعلية كالفيس بوك وتويتر..

وجد أقطاب النظام والمعارضة أنفسهم في حرج.. وكان عليهم لمواكبة هذه المسيرة الإلكترونية المندفعة أن يبحثوا لأنفسهم عن موطئ قدم في الفضاء الرقمي.. وفي أوقات متقاربة دخل الجميع الفيس بوك، أسهل طريق للتواصل مع المصريين البالغ عددهم علي هذا الموقع الضخم ثلاثة ملايين، علي رأسهم نشطاء الإنترنت، الذين نظموا من خلاله إضراب السادس من أبريل، وحملات مقاطعة السلع الأمريكية والدنماركية... علي أمل تطويعهم واستقطابهم.. لكن لا الحزب الوطني ولا أحزاب المعارضة استطاعت أن تحشد عليه سوي مناصريها التقليديين، الذين يتقاضون منها أجوراً علي الأرجح لتعمير صفحاتها الشاغرة علي الفيس بوك..

لحظة كتابة هذا المقال، يكاد الحزب الوطني أن يكون أكثر الأحزاب شعبية علي هذا الموقع، حيث تضم صفحته الرئيسية 1119 شخصاً، إلي جانب ثمانمائة وستة آخرين علي صفحات متفرقة منه تؤيد الحزب في المحافظات المختلفة، أي أن الإجمالي يقترب من الألفين.. الحزب العربي الناصري يتألف جمهوره علي الفيس بوك من 1381 فرداً علي الفيس بوك.. حزب الوفد ترك مهمة تأسيس حضوره علي الفيس بوك لصبي صغير السن ـ كما يبدو من صورته ـ أنشأ صفحة خصصها لما وصفه بأقوي حزب معارض في مصر، بينما لا نجد علي قائمتها سوي سبعة وستين عضواً فقط.. اعتقد حزب الوفد أنه قد يجذب مزيداً من الأعضاء إذا أنشأ صفحة باللغة الإنجليزية، لكن خاب ظنه، حيث لم ينضم إليها أحد علي الإطلاق! فأنشأ صفحة أخري مماثلة بالإنجليزية، ليظل عدد المعجبين صفراً! وأخيراً أنشأ صفحة ثالثة بالإنجليزية باسم حزب الوفد الجديد، فانضم إليها شخص واحد فقط! بينما تضم صفحة حزب التجمع علي الفيس بوك أربعمائة وسبعين عضواً..

حزب الغد، المرشح الأقوي لاستغلال وتوظيف الفيس بوك ـ بحكم اسمه علي الأقل ـ لديه صفحتان فقط علي الموقع، إحداهما باسم شباب حزب الغد تضم ثلاثة وأربعين عضواً، أما الصفحة الثانية فهي لحزب الغد في البحيرة، وعلي قائمتها مائة وتسعة وسبعون عضواً فقط.. الطريف أن الصفحة الرئيسية للحزب ترشح وصلات لثلاث صفحات أخري تعكس ميولاً ملتبسة لدي القائمين علي هذه الصفحة: منبر الجزيرة (قد يُفهم ذلك في ضوء تغطيات قناة الجزيرة المتواصلة لأخبار زعيم الحزب أيمن نور)، صفحة معجبي الإعلامي وائل الإبراشي (لا أدري لماذا زميلي وائل بالتحديد)، وصفحة ثالثة بعنوان (اجعل صفحة النبي رقم واحد علي الفيس بوك.. انشرها بقدر حبك للنبي).. وكنت أتوقع أن أجد هذا الرابط علي صفحة للإخوان المسلمين مثلاً، لا علي صفحة حزب الغد الليبرالي، ذي التوجهات العلمانية، والذي يقول إنه يمثل كل الأطياف!

وفيما تغيب الأحزاب الخمسة عشر الباقية تقريباً عن ساحة الفيس بوك، يقترب عدد مؤيدي الجمعية الوطنية للتغيير ـ برئاسة الدكتور محمد البرادعي ـ من خلال صفحاتها الثلاث من العشرين ألفاً.. ومن اللافت أنها حظيت بهذا الرقم ـ الذي يفوق إجمالي مؤيدي الأحزاب العريقة الأخري علي الفيس بوك ـ في ثلاثة أشهر فقط..

في المقابل لم تنتبه بعد رموزنا السياسية لتأثير اليوتيوب، رغم أنه أقوي هذه المواقع التفاعلية وأوسعها انتشاراً.. يردد «زعماؤنا» عبارات إنشائية عن مجتمع المعلوماتية والفضاء المفتوح وتزويد المدارس بالحواسب الآلية، لكن أتحداك أن تجد لوزيرين في الحكومة بريداً إلكترونياً أو حساباً علي أي من المواقع التفاعلية.. ولو وُجد ذلك لكان باقتراح وإشراف السكرتير أو المستشار الإعلامي من باب الفشخرة أو مسايرة الموضة.. في سفارتنا بإحدي الدول العربية قابلتُ مسئولة في المكتب الإعلامي لا تعرف الفرق بين الإيميل والموقع الإلكتروني! وعندما شرحت لها الفرق، سألتني بغباء منقطع النظير هل عليها أن تكتبه بأحرف «كابيتال» ولا «صمول»!! فما بالك بتوظيف اليوتيوب سياسياً وشعبياً؟ يكفي الحكومة إعلامها التقليدي الذي يدار علي مزاجها بينما يموله الشعب من الضرائب والجبايات.. فليهنأوا بإعلامهم التقليدي هذا، ولكن عليك أنت ـ أيها المصري الغلبان ـ باليوتيوب.. انضم إلي نشطاء الإنترنت وأد واجبك في كشف الحقيقة.. كيف؟

في مصر عشرات الجحور المنسية.. أطفال تسبح في مياه المصارف، ونساء تبعن أعراضهن مقابل رغيف خبز، وعجائز يموتون علي الأرصفة مع الكلاب الضالة.. قبور تؤوي الأحياء والأموات، وأنفاق تأتي لنا بالسلاح والمخدرات، وأوكار تمارس فيها الرذيلة وتستوطن فيها الأمراض.. مصر ليست حي المهندسين أو الزمالك أو محطة الرمل، ولا هي شبرا أو الأنفوشي أو مدن الصعيد.. إنها القري التي لا يصل إليها القطار ولا المياه النظيفة.. قري ليس فيها شبر من الأسفلت ولا سقف من الحجر.. نُجوع يولد ويموت فيها البشر دون أن يسمع لهم صوت أو تتحقق لهم أمنية.. مصر فيها بلاوي يتغافل عنها الإعلام التقليدي، ولن ينصفها سوي اليوتيوب بعيونه المفتوحة ليل نهار.. ولا يحتاج كشف هذا المستور سوي لتسجيل لقطة بكاميرا هاتفك المحمول ورفعها ببساطة علي هذا الموقع الحر.. اذهب إلي أقرب منطقة مهمشة إليك، ابحث عن أفقر وأغلب سكانها، ستجده في انتظارك منذ سنوات.. وثّق مأساته بأصغر وأتفه كاميرا لديك.. ليس مطلوباً منك أن تكون مصوراً محترفاً.. المطلوب هو أن تنقل معاناة هذا البائس أو ذاك ممن نسيهم أو تناساهم إعلامنا التقليدي الرسمي والخاص.. إذا فعلتَ أنت ذلك، وكل من صادف انتهاكاً أو فساداً أو قصوراً، فسوف نري بلدنا علي حقيقته.. لن يجرؤ إعلام مأجور علي خداعنا بتجميل الواقع أو حجبه وإبراز بعض جوانبه دون أخري..

عندما أنشأت حسابي علي يوتيوب خصص الكاتب الإماراتي المخضرم «علي عبيدا»ً مقاله الأسبوعي بصحيفة البيان لتهنئتي، والتعليق علي ظاهرة الإعلام البديل، وكيف صار لكل مواطن الحق في امتلاك قناته التليفزيونية وبث ما يراه مناسباً دون رقيب أو حسيب.. وفي بريطانيا يسمون مثل هذا الشخص بالمنتج المستهلك، أي الذي ينتج ما يستهلكه من مادة إعلامية، ومن ثم يتحكم في مواصفاتها ويستمتع بها.. وها أنذا أستكمل كتابة هذا المقال في القطار عائداً من مدينة بريستول البريطانية إلي لندن بعد أن شاركت في سيمبوزيوم دارت إحدي جلساته حول الفيلم الوثائقي الجمعي علي اليوتيوب، وهو الذي يتقاسم إخراجه عدد من الأفراد دون أن يتلاقوا إلا علي الإنترنت، وهذا هو مشروع رسالتي للدكتوراه.. يتباهي البريطانيون علي هذا النحو بتنقيح فكرة اليوتيوب واستثمارها وتأسيس العديد من الابتكارات عليها.. أما نحن فبعد خمس سنوات من إنشاء هذا الموقع العملاق، ما زلنا نُعرّف الناس به، ونحُضُّهم علي زيارته، وتزويده بمقاطع فيديو هادفة...

إن صوتك في الانتخابات ـ أي انتخابات ـ يجب أن ينبني علي حقائق لا يزيفها اليوتيوب، حقائق حول الواقع والمرشحين والناخبين.. فقبل أن تذهب إلي لجان الاقتراع توجه أولاً إلي يوتيوب، شاهد ما اغتنمه أقرانك من لقطات سرية تزيح النقاب عن وجه من بلادك لا تعرفه.. كيف تتنازل عن صوتك الثمين لشخص أو حزب أو نظام دون أن تفتش عن تاريخه؟ دون أن تعثر علي كل بقعة ـ ولو دقيقة ـ في ثوبه السياسي، وتتأمل فيها؟ في بلاد بره يفعلون ذلك.. ألم تسمع بحكاية جورج آلينحاكم فيرجينيا السابق الذي هزمه اليوتيوب بسبب «الماكاكا»؟

قبل أربع سنوات كان هذا السياسي الأمريكي العريق يخاطب عدداً قليلاً من أبناء دائرته في أحد التجمعات الانتخابية، وفي لحظة ما توجه بالحديث إلي أحدهم وكان أمريكياً من أصل هندي يدعي سيدارث، ويحمل في يده كاميرا صغيرة.. قال له جورج آلين بازدراء: أهلاً بالماكاكا في أمريكا!!.. لم يفهم أحد معني الماكاكا إلا سيدارث، فقد كانت ماكاكا هي إساءة بالغة في بعض مناطق شمال أفريقيا ـ كما تبين فيما بعد ـ تعني العبد الأسود، وقد تعلمها ألين فيما يبدو من أمه المنحدرة من أصل يهودي جزائري.. كانت كاميرا سيدارث في وضع التشغيل عندما انزلقت تلك الكلمة من لسان جورج آلين الفالت.. وما إن رفع سيدارث اللقطة علي يوتيوب برغبة منه في الانتقام، حتي شنت وسائل الإعلام حرباً ضروس علي جورج آلين، الذي انكشف وجهه العنصري أمام بقية ناخبيه، بعد أن شاهدوا المقطع المصور وأدركوا أنه ليس الشخص المناسب كي يمثلهم في البرلمان.. وهكذا انتهي مستقبله السياسي تماماً، ليرث مقعده في مجلس الشيوخ غريمه السيناتور جيم ويب... وهذا ما يفعله اليوتيوب في المجتمعات الواعية..

صدقني.. يوتيوب هو الذي ينفع مع هؤلاء!! هو البعبع الذي سيعمل له رجال السياسة عندنا ألف حساب.. هو الجُرسة التي يخشاها الفاسدون، ويتجنبها اللصوص النافذون.. ولكن كيف إلا إذا صار اليوتيوب سلوكاً وثقافة؟ إن يوتيوب هو أضعف الإيمان لتغيير المنكر وما أكثره في بلادنا.. هو التحرك الصامت لمن يكره الفساد ويخشي بطشه.. يوتيوب هو الذي يفتح ذراعيه بشجاعة لحقائقنا.. يبثها للعالم باسمه وعلي مسئوليته، فهل تستطيع حكومتنا أن تعتقل يوتيوب وتدخل العصا في مؤخرته؟!

------------------------

* نشر بصحيفة الدستور المصرية يوم 27 مايو 2010