الاثنين، 28 سبتمبر 2009

عندما ذهبت إلى" إسرائيل"...


ذهبت إلى «إسرائيل»..

قابلت إيهود باراك فى الكنيست، والرقيب العسكرى الإسرائيلى فى «بيت آجرون»، وقائد الشرطة الإسرائيلية فى الخليل.. ظهرت على شاشة التليفزيون وجهاً لوجه أمام هؤلاء، ولم تفصلنى نقابة الصحفيين فى مصر.. بل وضعتنى السفارات الإسرائيلية فى كل أنحاء العالم على قائمتها السوداء.

كان ذلك عام ألفين.. قضيت فى القدس والضفة الغربية وتل أبيب سبعة عشر يوماً، وفور عودتى إلى القاهرة، اتصل بى أحد أعضاء مجلس النقابة، وأبلغنى بأن المجلس سيضطر آسفاً لإحالتى إلى التحقيق فى مخالفتى قرار النقابة بعدم «التطبيع» مع «إسرائيل».. ولم يكن ذلك العضو يعلم وقتها لماذا ذهبت إلى هناك، أو ماذا فعلت بالتحديد.

والحقيقة أننى كنت أقدم فى ذلك الوقت برنامج (مقص الرقيب) على قناة أبوظبى، وقررت أن أعد إحدى حلقاته من الأراضى المحتلة حول رقابة الاحتلال الإسرائيلى على الصحفيين الفلسطينيين والمراسلين الأجانب.. استأذنت صفوت الشريف وزير الإعلام آنذاك، وفهمى فايد السفير المصرى فى أبوظبى، وإبراهيم نافع رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام، التى كنت مجازاً منها للعمل فى التليفزيون.. فوافق الجميع.

كان أحد زملائى- وكان صحفياً مبتدئاً فى مجلة الشباب بالأهرام- قد ذهب للسفارة الإسرائيلية فى القاهرة قبل ذلك بعامين، آملاً فى إحراز سبق صحفى بمقابلة السفير.. وما إن خرج من مقر السفارة، حتى «اصطادته» مباحث أمن الدولة وحققت معه لبضعة أيام.. وهو ما دفعنى لتجنب استصدار التأشيرة الإسرائيلية من مصر أصلاً، فطلبت من مراسلتنا فى العاصمة الأردنية مساعدتى فى استصدارها من السفارة الإسرائيلية هناك على ورقة منفصلة عن جواز سفرى، ومن ثم لا أتعرض لمضايقات فى مطار القاهرة عندما أعود إليه بعد الزيارة.

فى القدس، كانت محطتى الأولى فى بيت الصحافة الحكومى الإسرائيلى، أو ما يسمى «بيت آجرون»، حيث استقبلنى رئيس القسم العربى فواز كمال.. وأجاب ممتعضاً عن أسئلتى حول دوره فى منع الصحفيين العرب والفلسطينيين من ممارسة عملهم بحرية، لكنه أطلعنى بفخر على قائمة الصحفيين المصريين ممن أسماهم بـ(أصدقاء إسرائيل).. وكان من بينهم الدكتور عبدالمنعم سعيد، الذى زعم أنه شهد احتفالات إسرائيل بمرور خمسين عاماً على تأسيسها عام ١٩٩٨.

لم أفاجأ.. فقد كان الدكتور عبدالمنعم ضيفى على برنامج (الدفاتر القديمة) على قناة النيل الثقافية فى ربيع عام ١٩٩٩، ودافع عن مشاركته فيما قيل إنها احتفالات بذكرى تأسيس إسرائيل، موضحاً أنها كانت فى الواقع مؤتمرات علمية، وأن الصور التى التقطت له على منصتها أمام شعار وعلم الدولة، كانت فخاً دفعه إليه الإسرائيليون لإحراجه.. وقد روى لى محمد بسيونى سفير مصر السابق فى تل أبيب حكايات كثيرة تؤكد ذلك الأسلوب لدى الإسرائيليين، بعضها استهدفه شخصياً.

بعد أيام، وقبل انعقاد قمة كامب ديفيد بيوم واحد فقط، ساعدنى عزمى بشارة فى الدخول إلى الكنيست، ومقابلة إيهود باراك، رئيس الوزراء الإسرائيلى فى ذلك الوقت.. الذى استفزه سؤالى المباشر عن انتهاكات حكومته بحق الصحفيين الفلسطينيين فيما تروج إسرائيل للقمة ومشروع كلينتون للسلام.. فأشار إلى أفراد حراسته، ليطردونى من مبنى الكنيست، ويتم تسجيل ذلك بالكاميرا وإذاعته فى الحلقة.

أما فى ساحة الحرم الإبراهيمى بالخليل عصر أحد أيام السبت، فقد حاولت تغطية اشتباكات المستوطنين اليهود مع السكان الفلسطينيين، فأصبت فى رأسى، وحقق معى قائد الشرطة الإسرائيلية، وظهر ذلك أيضاً على شاشة التليفزيون.

توالت هذه المشاهد أمام عينى وأنا أتلقى من عضو مجلس نقابة الصحفيين نبأ عزمه إحالتى للتحقيق.. ولم أفلح فى إقناعه بأن ما كنت أفعله فى إسرائيل يفوق بتأثيره عشرات الخطب على المنابر حول القضية الفلسطينية.

بعد أيام دعانى إبراهيم سعدة لزيارته فى مكتبه، واقترح علىّ كتابة يومياتى فى الأراضى المحتلة، لنشرها فى كتاب يصدر عن أخبار اليوم بعنوان (مقص الرقيب).. لإبراء ذمتى أمام زملائى الصحفيين.

أذيعت الحلقة، وصدر الكتاب، وثارت ثائرة إسرائيل، فصدر عن وزارة الخارجية الإسرائيلية تعميم يقضى بحرمانى من دخول الأراضى المحتلة على الإطلاق مرة أخرى.

لكن عضو مجلس النقابة استبق ظهور الحقيقة، واتصل بى قبل صدور قرار التحقيق رسمياً، ليطلب منى متصنعاً الحياء، التدخل لدى مؤسسة الإمارات للإعلام- التى كنت أعمل بها حينذاك- لصرف مستحقاته عن بعض الخدمات التى قدمها لها من خلال وكالته الصحفية الخاصة، ووعدته بالمساعدة قدر ما أستطيع.. وفى نهاية الحديث الهاتفى سألته: ماذا عن التحقيق معى لزيارة إسرائيل؟ فأجاب بثقة: اعتبر الأمر كأن لم يكن...!!

الأحد، 20 سبتمبر 2009

في القطار...

ــ هو لا يكف عن التودد بالحديث..
- هي شاردة.. تعبث بأظافرها.. نادراً ما تجيب...
- هو يملأ المقعد بثقة..
- هي تنكمش، وتضم مقدمتي قدميها.. ترتدي الأسود بالكامل.. حتى شعرها ورموشها تصطبغ بالأسود..
.. سبقته عدما غادرا القطار..
... (لا ترغب في رفقته؟)...

الأحد، 13 سبتمبر 2009

"صديقي"!!

يعدني فينقض..
يراني في المحن.. فيتنصل...
يقتل بفضفضاتي فراغه..
يرد تضحياتي بإعراض..
وانفتاحي بتحفظ..
ووفائي بنكران..
أميزه فيهملني..
أغفر له فيتمادى..
أحتاج إليه فيراوغني..
ثم يناديني: صديقي!

رفاق.. بلا اختيار!

لا يختار المرء رفاقه في رحلة القطار.. يقطع تذكرته وهو يجهل هل من الأشرار سيصادف على متنه أم من الأخيار! يجلس بجوار شخص، وهو لا يعلم ماذا يخبئ في حقيبته من أسرار.. لا يدري أي وجهة يقصدها هؤلاء الرفاق.. من منهم مغادر، ومن منهم يعود.. إلى خير.. أم إلى شر وغدر وخيانة.. على المرء أن يقبل بمن يقابل على القطار.. فالرحلة مؤقتة، والوجهة هي الباقية..


إن القطار لا يستبقي شيئاً.. لا الركاب، ولا حقائبهم، ولا مشاعرهم.. هموم الرحلة مسؤولية الراكب.. شاقة كانت أم مسلية.. يطالبك القطار بأن تأخذها معك، أو أن تتخلص منها في سلة المهملات..


البعض يستطيع، والبعض الآخر يحتفظ بالذكريات، بل ويعيد تدويرها.. لا ينسى راكباً ابتسم له، أو آخر وخزه في كتفه.. إهانة الرحلة قد لا تنسى، وجرحها قد لا يطيب ولو بعد حين.. فالذكرى تتشبث بوجدان المرضى بالإنسانية.. مثلي.. أنا... العليل بالإحساس في حياة عامرة بالقلوب الميتة...


يا لها من رحلة، تلك التي أرغم نفسي على تحمل مشقاتها.. فقطاري حافل بالأشرار والحاقدين..

السبت، 12 سبتمبر 2009

نفق اللاعودة!


كلما مررت من النفق المؤدي للقطار في توتنهام هيل ـ حيث أسكن الآن ـ حلت في ذاكرتي أقسى مشاهد الفيلم الفرنسي Irreversible أو "غير قابل للعودة"، حيث وقعت الخطيئة الكبرى، التي غيرت حياة الأبطال جميعاً إلى الأبد..


أشعر وأنا أسير في النفق المقبض، أنني أرى مونيكا بيلوتشي في أبهى حلة، تسير في النفق غاضبة، ولكن برقة.. بعد أن غادرت الحفل بمفردها، تاركة حبيبها فينسيت كاسل مخموراً يهذي.. أشعر أن هذا هو منتصف الليل الحزين، وليس صباحي الجديد في توتنهام هيل، الذي صار عادياً من اليوم الأول..


أسمع طرقات الكعب العالي على الأرض الجافة، يرتطم صداها بوحشية في مربعات السيراميك الأبيض الرخيص، الذي يغلف النفق يميناً ويساراً..


تقع عيني على كاميرا المراقبة، لكني لا أراها.. ففى الفيلم غاب الجميع عن مونيكا، وتركوها فريسة للجنوح الأعمي.. همهمات أحد المارة تستدعي صوت البطل المجرم، البرت دوبونتل، وهو يجر أقدامه ويترنح، تقاومه فتاة ليل سمراء، سأعرف في فصل لاحق من الفيلم أنها رجل مثلي.. يلتفت ألبرت القذر إلى مونيكا الرقيقة، فتنزل نظرته على قلبي كالسهم.. ينقض عليها، فتتأخر خطواتي.. كأنني أعود إلى زمن الفيلم على هيئة شبح عاجز..


تقاوم ذاكرتي تفاصيل الاغتصاب، فيما تقاوم مونيكا أمامي، وتحت قدمي، مصيرها المشؤوم.. تختصر ذاكرتي المشهد إلى حده الأدني، فيبقى منه الأشد عنفاً ومرارة...


عندما أصل لنهاية النفق، أسأل نفسي: كيف تحول هذا المكان إلى غرفة تعذيب معزولة؟ صرخت مونيكا فلم يسمعها أحد.. بينها وبين الشارع الباريسي المتأنق لم تكن سوى درجات السلم وبقية من الممر.. لكن أحداً لم يلتفت.. لكن أحداً لم يسمع...


ماتت بطلتي منكفئة على صدرها.. وطئها الشرير في دبرها فانتحرت كرامتها.. وأفاق البطل المخمور فانتقم ببشاعة، واجهتُها هي الأخرى في ذهول وانقباض..


أصبح النفق بالنسبة لي رمزاً للا عودة، لكنه يعود إلى ذاكرتي في مكان سأرتاده كل صباح.. أما في المساء، فلن يحتاج خيالي للمحاكاة.. فالسر الكامن في الفيلم، سينفضح عندما أرى المشهد من جديد.. رأي العين!

الجمعة، 4 سبتمبر 2009

ضباب!

أيام عصيبة.. أكاد أفقد فيها شهيتي للبحث، الذي أفلتت مني خيوطه بعد التعديل الكبير الذي اقترحه المشرف.. بدا لي وكأن ما أنجزته منه كاللوحة التي انتهت، ولا يجوز إتلافها بمزيد من الإضافات..
لكنني مخطىء، كما ينبهني دائماً صديقي الدكتور حسين خلف.. فالبحث العلمي قائم على المراجعة، ويجب أن يلين الباحث مع متطلبات البحث، وصولاً لما يطمئن أنه الحقيقة.. وينصحني الدكتور حسين بأن أكون مستعداً للمزيد من التعديلات من قبل المشرف، بل وقد يصل الأمر إلى إلغاء عمل استغرق أسابيع أو شهوراً.. لكنني ـ وكما يقول لي صديقي الناقد أمير العمري ـ أحمل بداخلي سمات شخصية الفنان، الذي يتذوق عمله ويحبه، ولا يرغب في التفريط بسطر واحد مما كتب، أو لقطة واحدة مما صوّر أو أخرج.. لأنه يتربط بها ويتواصل معها وجدانياً...
المهم أنني أعيش هذا الصراع الآن.. أشعر بالتشتت.. فجأة تناثرت مراجعي، وتاهت أفكاري.. أتعثر في كل كلمة وسطر، وتتراقص حولي أشباح الفشل..
أتذكر صديقتي الدكتورة هيام عبد الحميد، عندما روت لي في الإمارات كيف كانت تبكي في بعض الأحيان خلال رحلتها للدكتوراه في بريطانيا.. كانت تشعر أنها عاجزة عن استكمال الطريق.. وهو ما نفس ما ذكرته لنا المدربة الحاصلة على الدكتوراه في أول برامج التدريب الأكاديمي بالجامعة.. يبدو أن ما أمر به الآن هو مخاض مكتوب على أمثالي.. لكن متي سأعبره إلى مرحلة اليقين والسلام النفسي؟! يبدو أنني لم أشعر من قبل بهذا اليقين، وأخشى ألا اشعر به أبداً..
عليّ أن أتغلب بسرعة على تلك الأفكار الضبابية.. الأيام والأسابيع، بل والشهور، تمضي، وسيفاجئني المشرف بطلب المقابلة، ومن بعدها تحديد موعد مناقشة الفصل الأول الذي سيؤهلني للترقي إلى العام الثاني من الدكتوراه.. لقد انحسر حجم الفصل الأول إلى النصف تقريباً بعد تعديلات جون.. ولم أزد عليه من وقتها سوى ألف كلمة فقط.. مطلوب أربعة آلاف كلمة أخرى ذات معنى.. وفق مقترحات جون التي اتفقنا عليها.. وأنا أنقل الآن إلى بيت جديد، وأقضي نصف وقتي في العمل...
رباه!

الاثنين، 24 أغسطس 2009

عاشت الخنازير.. حرة مستقلة!


الإعلام الغربى يواصل حقنه للمشاعر القومية العربية بسموم الطائفية والانقسامات العقائدية. نجح فى ذلك بجدارة على المسرح العراقى، واللبنانى، والآن جاء الدور على مصر!
قبل أسبوعين نشرت الصحافة البريطانية تقريراً مقحماً، يجدد الحديث عما وصفها بمذبحة الخنازير فى مصر ـ خوفاً من تفشى ما بات يعرف بأنفلونزا الخنازير ـ وذلك بعد نحو ثلاثة أشهر من الشروع فى تنفيذ هذا القرار الحكومى المثير للجدل!
برر المراسل الإنجليزى الغرض من تقريره بأنه يرصد آثار تنفيذ القرار صحياً واقتصادياً على جامعى القمامة، وسكان المناطق العشوائية، وهو ما أوحى للقارئ بأن لموعد نشر التقرير مغزى صحفياً مجرداً.. وأن فى محتواه معلومة موضوعية.. والحقيقة أن التقرير خلا من هذا ومن تلك.
انتبهوا معى للطريقة التى سيقت بها الحجج فى هذا التقرير.. انطلق المراسل من الأسباب التى دفعت مجلس الشعب للتصديق على القرار، فذكر نصاً أن (البرلمان ذا الأغلبية المسلمة) صوّت عليه بالموافقة قبل أن ينفذ، هكذا لم يجد من وصف للبرلمان غير ديانة أعضائه، الأمر الذى يجعل المشاهد أمام وجهة نظر تلبس لباس الحقيقة، فالقرار الحكومى بإعدام الخنازير - التى يحرّم الإسلام أكلها - وضع فى سياق دينى، وهو ما يخالف طبيعة النظام السياسى المصرى من ناحية، والرهبة السياسية فى الوقت الحالى من الإساءة للأقباط من ناحية أخرى!
يتصور المراسل أن البرلمان ـ مع كل تحفظاتنا على تشكيلته وأدائه ـ سوف يقامر بتداعيات قرار كهذا، ويوصى به، لأنه فقط ينسجم مع قناعات دينية لدى بعض أو أغلبية أعضائه! وفى تقديرى لم تنتظر الحكومة فيروس أنفلونزا الخنازير كى تنتقم من المسيحيين، لقد عاشت الخنازير فى «مزابل» مصر منذ مئات السنين حرة مستقلة! لم تفكر أشد الحكومات جهلاً أو تطرفاً فى المس بها.. فلماذا الآن؟
ويواصل المراسل مهمته فى استعراض آثار تلك (المذبحة) - على حد وصفه - على لسان نائبة قبطية فى البرلمان، استنكرت على الحكومة قطع أرزاق الغلابة، وتقصد جامعى القمامة، أو (الزبالين) كما لفظها المراسل بالعربية، فقد زادت على نفقات جامع القمامة تكلفة التخلص من أطنان الطعام العفن الذى كانت تتغذى عليه الخنازير، فحرمت أسرة (الزبال) المسيحى من الخنزير الذى كان ينمو مجاناً ثم يباع فيوفر دخلاً معقولاً، كما أضيف لميزانية تلك الأسرة بند إضافى، لنقل مخلفات الطعام إلى مقالب أخرى!
يضيف المراسل استنتاجاً آخر مبتوراً يخلص فيه إلى أن بقايا الأطعمة - التى لا يتمكن جامعو القمامة من إزالتها بالكامل -تبقى فى الشوارع، وأن المستشفيات بدأت بالفعل تتلقى (الحالات الأولى) - بحسب تعبيره - من الأطفال المصابين بالتلوث والتسمم.. فهل طفح الطعام الفاسد فجأة فى شوارع مصر بعد ذبح الخنازير؟ وهل انتظره الأطفال الجوعى لينكبوا عليه ويلتهموا منه، فيصابوا بالأمراض؟ وهل استقبال (الحالات الأولى) - إن صحت المعلومة - يعنى أن هناك ظاهرة؟
إن العفن يملأ شوارع مصر منذ عقود، وهناك مئات الآلاف من الأطفال الذين يفضلون التغذى على القمامة بدلاً من الموت جوعاً.. هذا هو حال بلدنا.. لكن ليس للخنازير علاقة بالأمر.. ولم يزد أو ينقص شىء بالقضاء عليها.. فماذا عساها تفعل قطرة ماء فى بحر؟
أراد التقرير أن يوفر سبباً جديداً للاعتقاد بأن الحكومة والبرلمان يضطهدان المسيحيين فى مصر، بل وعندما يأتى التوافق البرلمانى على قرار يهدف ـ من وجهة نظر المراسل ـ إلى الإضرار بتجارة فئات كادحة أغلبها من المسيحيين، فإن ذلك يعنى أن التصويت بنعم للقرار يمثل رغبة الشعب الذى انتخب (كما يفترض) أعضاء البرلمان.. والخلاصة التى أراد المراسل لها أن تستقر فى وعى المشاهد، هى أن المسلمين والمسيحيين فى مصر أعداء!
أعتقد أن هذا التقرير يتجانس تماماً مع الطريقة التى يغذى بها الإعلام الغربى الانقسامات الطائفية فى المنطقة العربية، بتصنيف حوادث القتل بين سنى وشيعى، وتفسير التوترات السياسية على أنها مذهبية، وإبراز الخصومات الدينية على أنها جوهر أى جدل أو نقاش.. لمست ذلك شخصياً فى تناول الشأن العراقى واللبنانى والفلسطينى سياسياً وأمنياً على السواء - فى الصحف وقنوات التليفزيون الغربية، وهى فرص لا يدخرها الغرب سواء بقصد أو بدون قصد.
ومن المؤسف بالفعل، أن بعض وسائل الإعلام العربى تحاكى ذلك عن جهل!

الأربعاء، 5 أغسطس 2009

مستقبل البلاد!


يتقدم زعيم الحزب بخطواته الواثقة نحو غرفة الاجتماعات، متأبطاً عشرات الأوراق التي سيعرضها على رجال حزبه في اجتماعهم الأسبوعي! يبادر الساعي بفتح الباب والانحناء لدى دخول الزعيم، ثم يغلقه من خلفه، مشيراً لزميله قبل أن يشرع في الثرثرة: شششش! الاجتماع بدأ..!


يتخذ الزعيم مكانه على رأس الطاولة، فيما يتحلق حولها نوابه ورفاق كفاحه من قيادات الحزب.. يفتح الجميع ملفاتهم المتخمة بالبرامج والخطط.. كل منهم يطمع في التصويت لاقتراحه بشأن موضوع الاجتماع المصيري: مستقبل البلاد وسبل الخروج من أزمتها! يستهل الزعيم كلمته الافتتاحية، بعبارة قاطعة: مستقبل البلاد على المحك، وعلينا أن... وفجأة، يرن جرس هاتفه المحمول.. يتلعثم، يلقي نظرة خاطفة على شاشته، ثم يلقي به إلى سكرتيره الشخصي ـ الذي يجلس إلى جواره ـ متظاهراً بعدم الاكتراث، ليستكمل من بعد ذلك الكلمة..

ينتحي السكرتير جانباً وهو يجيب على المتصل بصوت هامس: (...) أهلاً وسهلاً!! (...) لا، الزعيم مشغول الآن! (...) لا يمكن على الإطلاق، لديه اجتماع هام! (...) أي تصريحات تلك؟ لم نسمع بها! (...) ابق معي على الخط، سأعرض عليه الأمر!

من جديد، يضطر الزعيم للتوقف عن استعراض التحديات التي تواجه بلاده، إذ يهمس السكرتير في أذنه: صحفي من محطة تليفزيونية يؤكد أن زعيم الحزب المنافس يدلي الآن على الهواء بتصريحات مضادة لحزبنا، يشكك فيها بولائنا للشعب!!

ينتفض الزعيم واقفاً، وينتزع الهاتف من السكرتير، ويصيح فيما يبتعد عن طاولة الاجتماعات العريضة: كيف يجترىء على حزبنا العتيق؟ كيف يجسر على انتهاك تاريخنا في النضال؟ كيف يقدم على المس بوطنيتنا؟!.. كان المجتمعون قد توقفوا عن التقليب في أوراقهم، ليتابعوا في ترقب ثورة الزعيم..

يسود الصمت لحظة، والزعيم ما زال متشبثاً بالهاتف، قبل أن يندفع مستفسراً من الصحفي بغضب: أنا وهو على الهواء الآن؟ وما أن يأتيه الرد ـ فيما بدا للحاضرين ـ بالإيجاب، حتى ينبرى مجدداً في كيل الاتهامات لزعيم الحزب المنافس، والهجوم عليه، والنيل منه.. يستعرض الزعيم بفخر ماضي حزبه، والمعارك التي خاضها ضد الاستعمار، والانتفاضات الشعبية التي قادها وحقق بها الأمجاد... ثم يستنكر على الحزب المنافس كونه وليداً، تنقصه الحنكة السياسية، وتستقطب شعاراته الحماسية صغار السن فقط...

يخرج الزعيم من الغرفة ليواصل اشتباكه مع منافسه الشاب ـ عبر القناة الفضائية ـ في الردهة المهيبة، أمام عينيْ الساعي الحائرتين... أما السكرتير ـ الذي تسمر في مكانه منذ بدأت ثورة رئيسه ـ فيتناول الريموت كنترول، ويضغط على الزر رقم واحد، وهو يصوبه باتجاه جهاز التليفزيون الضخم، لتظهر الشاشة وقد انشطرت لنصفين، على أحدهما صورة الزعيم بكوفيته التقليدية، وعلى الآخر صورة منافسه بلحيته الكثة..

وتمضي ساعة على الحديث الهاتفي المذاع، وقيادات الحزب لا يغادرون مقاعدهم كما لو كانوا في دار لعرض الأفلام الإباحية.. فبعضهم يجفف عرقه، والآخر يبل ريقه برشفة ماء، وكلما ألقى المذيع بسؤال ماكر على الزعيم، يبالغ الجميع في الإصغاء، ثم يهتفون ويصفقون بعد أن يدلي زعيمهم بالإجابة الشافية، وكأنه أحرز هدفاً في مباراة...

ينتهي البرنامج، ويشكر المذيع ضيفيه، اللذيْن كثيراً ما يلتقيان على وسائل الإعلام، لكنهما لم يجتمعا في غرفة واحدة منذ سنوات.. يردد المذيع شعار القناة الشهير بسعادة، ثم يختم البرنامج، تاركاً جمهوره في غرفة الاجتماعات مستغرقاً في تجهيز عبارات المديح التي سيستقبل بها زعيمه..

تمضي دقائق، نصف ساعة، ساعة.. ولا يعود الزعيم إلى الاجتماع الخطير.. وما زال معاونوه مرابطين حول الطاولة، يمتنعون حتى عن تبادل الرأي في المقابلة أو جدول أعمال الاجتماع انتظاراً لعودة الزعيم.. لكن الزعيم لا يعود...

يخرج السكرتير باحثاً عن رئيسه، يصادف الساعي، يسأله: أين الزعيم؟ يرفع الساعي حاجبيه، ويخفض جفنيه، ويقول: معرفش! لقد ظل يصيح في الهاتف وهو يسير على غير هدى، حتى خرج من مبني الحزب..!!

يسارع السكرتير بالاتصال بالزعيم، متحدثاً إليه بنبرة خافتة كعادته.. وبعد لحظات ينهي المكالمة، ويعود أدراجه إلى غرفة الاجتماعات.. يفتح الباب على مصراعيه، ويهتف في المجتمعين: لقد ألغي الاجتماع...

يقفز الرجال من مقاعدهم، ويسألونه بصوت واحد: لماذا؟؟ فيجيب، مجاهداً ابتسامة: الزعيم نسي نفسه! وظل يسير وهو يتحدث للقناة التليفزيونية، حتى وصل إلى منزله!!

يتطوع أحدهم بسؤاله: وماذا عن مستقبل البلاد؟ فيرد السكرتير بهدوء: سنناقشه الأسبوع المقبل، أو الذي يليه...

أما الساعي فينظر إلى زميله ملياً... لكنهما لا يجرؤان على التعليق!

الاثنين، 27 يوليو 2009

"بهلوانات الصحافة" في البيت بيتك!


نكأت مقابلتي على برنامج (البيت بيتك) ـ ليلة 14 يوليو الماضي ـ جراحاً مزمنة في جسد الإعلام العربي، اتسعت وغارت وتعفنت، ومات الإحساس بها.. استدرجني خيري رمضان بمهارة لنزع الجبيرة الهشة التي أخفينا بها هذه الجراح لسنوات، فإذا بنا أمام وضع صادم يثير الغضب والشفقة في آن.. كان فيلمي عن الواقع الإعلامي من خلال تجربتي الشخصية ـ وهو الذي أطلقت عليه بلا تردد (أي كلام) ـ هو المناسبة التي شجعتنا على إعادة النظر في كل شيء.. لقد نجح الفيلم في أن يقرع أجراس الإنذار من داخل البيت الإعلامي الرسمي، والثمن دفعته طوعاً، عندما شبهت نفسي ـ في لقطة ترمز لما آلت إليه المهنة ـ بالصحفي المهرج، الذي يصفق له الجمهور كما لو كان يؤدي فقرة في السيرك..

كانت هذه الفكرة ـ التي تحديت بها نفسي وزملائي والجمهور ـ هي ما أثار حفيظة البعض على مقابلتي في (البيت بيتك)، إذ كيف ـ من وجهة نظرهم ـ أختزل جمهوراً متفاوت الثقافة والميول، في بعض أفراده فقط ممن يقتلون الوقت بمشاهدة حلقات التوك شو والمغامرات الصحفية وبرامج الميدان، كتلك السيدة التي صارحتني قبل سنوات بأن سر متابعتها لبرنامجي هو أنه (يسليها) وقت إعداد الغداء!! قالتها على سبيل الإطراء، لكنني اختزنت المشهد بألم ودهشة في عقلي الباطن، حتى تمكن الجراح من استخراجه مع ورم في رأسي بعد حين، ليظهر في لقطة سيريالية بالفيلم، أدركت منذ اللحظة الأولي أنها ستصيب زملائي الصحفيين بالصدمة..

لقد حفلت ردود الأفعال على المقابلة والمقتطفات التي عرضت من الفيلم بالعديد من الالتباسات، فمن الزملاء من عاتبني على (تنكري للمهنة)!!، ومن المدوّنين من أشاد بصراحتي بوصفي (المهرج التائب)!!، ومن النقاد من اعتبر التركيز على لقطة المهرج وإغفال الإسقاطات الأخرى استغلالاً للفيلم في حرب بالوكالة ضد الصحافة والصحفيين... لم يهتد أي من هذه التفسيرات للحقيقة التي أراد الفيلم أن يبلغها، وأردت من خلال مقابلة (البيت بيتك) أن أبرزها...

ولعل من تسنت له متابعة أعمالي التليفزيونية خلال الفترة بين عامي 1999 و2005 ـ قبل أن أذهب إلى بريطانيا للدراسة ـ سوف ينتبه للفخ الذي سقط فيه هؤلاء لدى تفسيرهم للفيلم والمقابلة، فلقد كانت برامجي ـ وبعضها على "يوتيوب" ـ منابر لضحايا المنع والرقابة، وميداناً للدفاع عن حقوق الإنسان والحريات.. كل ما في الأمر أنني أردت ـ من خلال الفيلم ـ أن أنقي ثوبي الإعلامي من "دنس" ما يعرف لدى بعض الصحفيين بالـ (الفرقعة)، تلك التي غالباً ما تتحقق على حساب الأمانة والمصداقية..

أما الحقيقة الأهم، التي ضلت طريقها في غمرة النقاش مع زميلي خيري، فهي أن المهرج لم يكن أنا، وإن كنت قد أديت دوره في الفيلم.. كان المهرج هو صورة الإعلام في مرآة الجمهور، محاطاً بكل عناصر التشويق التي توفرها المؤثرات الصوتية والبصرية.. أذكر أنني في شتاء عام ألفين صوّرت حلقة من برنامجي (مقص الرقيب) في معتقل الخيام بعد أشهر من تحرير الجنوب اللبناني، واستعنت بمدير إضاءة لابتكار جو من الإثارة في ممرات السجن.. وهكذا ظهرت في الحلقة وأنا أتجول ـ برفقة أسير محرر ـ في هذه الممرات الضيقة وداخل الزنازين الموحشة، ممسكاً بمصباح، وهامساً بملاحظاتي وأسئلتي في أذن مرافقي... وبعد إذاعة الحلقة كان أطرف ما نشر عنها مقال لكاتب مرموق في صحيفة الحياة اللندنية، أطرى فيه على شجاعتي في (اقتحام السجن سراً بعد منتصف الليل للكشف عن خباياه)!!.. واصفاً حلقة البرنامج بالمغامرة!! لذلك تحديداً فإنني لا أرى اختلافاً بين صناعة الإعلام وصناعة الشيكولاته، كلاهما ينبغي تغليفه بالشيفون والسوليفان قبل بيعه!! وهذه القاعدة الموروثة هي التي أنتجت جمهوراً استهلاكياً، ينجذب فقط للشكل، بغض النظر عن المضمون...!!

الصحفي المهرج ـ الذي لم يتوفر له السياق الدرامي فغاب عن الفيلم ـ كان حاضراً بقوة خلال مقابلتي مع خيري رمضان في (البيت بيتك)، فقد تحدثنا عن الذين يخلطون الرأي بالمعلومة، والذين يبالغون في استعراض القضايا، ويستغلون مشاعر الجمهور، والذين يستحثون ضيوفهم على الصياح، وينافقون السلطة، وينشدون الشهرة على حساب الأمانة والموضوعية، كما تحدثنا عمن يلعبون دور القاضي، ويجارون (أو يخربون) أذواق الجمهور.. تمنيت لفيلمي أن ينوب عني في الاستهزاء بهؤلاء.. لكن خيري دفع بي إلى ساحة الكلام، مطمئناً لتسلحي بفيلم جريء، طالت جرأته صانعه المسكين..!

الثلاثاء، 9 يونيو 2009

الاستعداد لنهاية الجولة الأولى!

ما أن استيقظت من النوم أمس، حتى أرسلت أخيراً نسخة الفصل الأول إلى البروفيسور جون المشرف على رسالتي، بعد الانتهاء من تنقيحها وتنفيذ التصحيحات اللغوية المحدودة التي أوصى بها نيل، لكنني لم أكتب بعد المقدمة، ولا أظن أن حالتي الصحية خلال هذه الأيام تسمح بابتكار مقدمة بليغة، حيث أن سعالي يشتد، وأشعر بهزال وصداع مؤلم.. لذا فإنني سأؤجلها إلى أن أتحسن، ولا أظن أن جون سوف يعقب على ذلك..

الآن ـ كما ذكر لي جون في رسالة سابقة ـ عليّ أن أستعد لتقديم ملخص الرسالة يوم الأربعاء ظهراً، أمام عدد كبير من أساتذة وطلبة الدراسات العليا، في جلسة يديرها جون نفسه، وهي تجربة تشبه إلى حد كبير ما قمت به قبل نحو شهر ونصف في السيمبوزيوم الدولي الثالث لطلبة الدكتوراه الباحثين في الإعلام العربي والإسلامي، بإشراف الدكتور نور الدين ميلادي.. وهكذا أفهم أنني إنما دعيت لهذا السيبموزيوم بترتيب قدري، كي أتهيأ لمناقشة ملخص رسالتي يوم الأربعاء، التي سأرتقي بها إلى الجولة الثانية والأخيرة من الدكتوراه..

لكنني ـ برغم ذلك ـ قلق، وعليّ أن أتجهز جيداً، نظرياً وتقنياً.. وهو ما سأفعله بعد أن أعود للمنزل، وأنال قسطاً من النوم.. قد يساعد على تخفيف آلام حلقي وجسدي..

دوائي المر!

منذ أتيت إلى لندن في ربيع ألفين وستة، انشطر وقتي إلى نصفين بفعل نوبات العمل، أحدهما أمضيه بمنزلي في صمت، لا أسمع سوى صدى الذكريات.. وهو ما يضطرني في أحيان كثيرة إلى أن أرفع صوتي بالقراءة.. أما النصف الآخر، الذي أقضيه في العمل وسط زملائي وأصدقائي، فلا أكف فيه عن الحديث والحركة..

هكذا فرض نمط جديد نفسه على حياتي ووقتي.. ولم أجد غير الاستسلام له مكرهاً، خاصة هذا العام، فصرت أتنصل من أي نشاط اجتماعي خلال عطلاتي لأتفرغ للدكتوراه.. وتحول الأمر بمرور الأسابيع والشهور إلى ما يشبه السجن الطوعي.. في زنزانة لا ترافقني فيها سوى الكتب والأوراق، ولا منفذ إليها سوى الإنترنت..

تماماً كعقربي الساعة، اللذيْن يسلكان نفس المسار بلا ضجر.. أكرر طقوسي في صمت مطبق، بحرفية وانضباط، ليست في نيتي الثورة عليها أو حتى محاولة تعديلها.. كيف لي وأنا أسابق الزمن كي أنجز المهمة؟..

أوقات سعادتي مؤجلة، أدخرها لمستقبل تحققت فيه أغلى الأمنيات، كي تكون بمثابة الجائزة.. أشرد في وحدتي، سابحاً في فضاء الأحلام، فأرى نفسي كذلك.. متحرراً من فروض تلك المرحلة، التي تمضي ببطء، يكرسه ضباب لندن، وصمتها الأبدي..

إن الملل هو عيب وحدتي في لندن..

لكن ميزتها هي العزاء لي.. فقد أهلتني هذه الوحدة ـ بتأملاتها ـ للاهتداء إلى معنى الحياة، وقيمة الإنسان، والطريقة المثلى للعيش بين البشر، منحتني أوقات الاختلاء بالنفس فرصة النظر إلى الله، والتحدث إليه، بل ومعه.. فقد أجابني أكثر من مرة بعلامات على التأييد والرضا.. ونبهني إلى أن العالم أكبر من غرفتي في المنزل، ومن الطابق الثالث في إجتون هاوس، وأن هناك من يراني ولا أراه.. يشاطرني كل شبر وينصت إلى همهماتي، وينفذ الخطة المرسومة لي قبل أن أولد..

كتبت في وحدتي وقرأت كثيراً، وشاهدت أفلاماً أكثر.. حفل عقلي وقلبي بأفكار لن يكفي العمر القصير للتمعن فيها.. عرفت ذاتي، وماذا تريد.. وحاسبت نفسي، وروضتها على الصبر والإرادة.. نلت الماجستير، واقتربت من تحقيق حلم الدكتوراه، أنجزت فصلاً في رسالة علمية بلغة لم أتعلمها في طفولتي، ولم أتقنها في صباي.. صنعت أفلاماً، وخططت لأخرى.. لقد ساعدتني الوحدة ـ برغم قسوتها ـ على العمل...

إن وحدتي كالدواء المر!..

الأحد، 7 يونيو 2009

من خواطر القطار!


كم من الآلام في هذا العالم من صنع البشر! الذين يسبّون قسوة الحياة وهم أحد أسبابها.. ويندبون حظهم وهم يستحقونه، ينتقدون أفعال الناس ثم يكررونها.. يلومون على الآخرين حقدهم، وهم أول من يستكثر الخير على الغير.. يدوسون على المشاعر، ثم ينظمون الأشعار، يخفون أسرارهم، ثم ينقبون عن أسرار من حولهم..

يا إلهي..
إننا وقود الحرب التي تقتلنا، ومادة الكراهية التي ننفر منها، فكيف لنا أن نجهل سر تعاستنا؟

السبت، 6 يونيو 2009

ثمْن الطريق في ثلث الزمن!

السابعة والنصف صباحاً..

أنتظر القطار للتوجه إلى العمل.. شارداً كالعادة، خاصة بعد أن مارست عادتي الصباحية بالاستماع إلى أغنيات فيروز الرقيقة..

لم أنم ليلة أمس تقريباً.. أشعر باحتقان في حلقي يزيد من إشفاقي على أمي، التي تعاني من سعال مزمن.. أدعو لها كل مرة أبتلع فيها ريقي، وأشعر بالألم، وأتمنى لو أن ألمي هذا يعيد إليها الصحة والعزيمة..

لكن أرقي دفعني بحماس لاستكمال خلاصة الفصل الأول، التي استعرضت فيها أهم الأفكار التي تناولتها به، كما وضعت قائمة بالكلمات المفتاحية Key words بعد المقدمة ـ التي لم أنته منها بعد ـ لتظهر صورة العمل أخيراً أقرب ما تكون لفصل في رسالة دكتوراه حقيقية..

الآن أفكر فيما مضى من المشوار وما تبقى، فبميزان الكلمات.. انتهيت بالفعل من كتابة ما يزيد عن عشرة آلاف كلمة، والمطلوب للرسالة إجمالاً نحو ثمانين ألف كلمة.. فإذا كان عليّ أن أخطو ثمان خطوات في ثلاث سنوات كي يتحقق الحلم، فها قد قطعت خطوة منهم في أقل من عام.. أي ثمن الطريق في ثلث الزمن..

إن هذا يعني أن عليّ أن أزيد من سرعتي كثيراً خلال العامين المقبلين، وقد يعني ذلك مزيداً من الوقت المخصص للدراسة، ليس بالضرورة على حساب عملي الصحفي، وإنما بمزيد من التنظيم والحكمة في إدارة الوقت..


أتذكر صورة أمي المعلقة على حائط غرفتي، وهي تتشبث بذراعي يوم التخرج من الماجستير، وابتسامتها تنطق بالسعادة والفخر والرضا، أتمتم بالدعاء إلى الله: يارب أعنّي على تحقيق حلم الدكتوراه كي أسعد أمي.. يارب أمدها بالصحة وطول العمر حتى تنال هذه اللحظة التي ستتوج كفاحها وصبرها..

إنني لا أملك سوى الدعاء لأمي، ولا أراهن على سواه.. وهذا هو سلاحي أيضاً في رحلة الدكتوراه...

الجمعة، 5 يونيو 2009

إحصاءات (نصر الدين)!

اضطررت ـ خلال مراجعتي الأخيرة للفصل الأول ـ لحذف فقرات مطولة، لأنها تتضمن إحصاءات غير محدثة، منقولة عن كتب وأوراق علمية، وليست تقارير أصلية.. التقارير مصدرها الوحيد في العادة هو مراكز الأبحاث ـ سواء المستقلة أو التابعة لشركات كبرى ـ وهي مكلفة للغاية، والوصول إليها يكاد يكون مستحيلاً..

كان الوقت فجراً، عندما أنهيت مهامي في العمل قبل ساعتين من موعد انتهاء النوبة.. غادر أحد الزملاء مبكراً كي يستعد لاختبار رخصة القيادة ظهراً، ولم يبق سواي مع زميل آخر.. أخرجت أوراق الدكتوراه آملاً في أن أستكمل مراجعتها الأخيرة، وأرسلها إلى زميلي نيل كوليه، الذي يتطوع دائماً لمراجعتها اللغوية..

ما أن شرعت في المراجعة، حتى اقترب رئيس تحرير النشرات الإخبارية، ممسكاً بيده بضعة أوراق، كانت تتضمن على الأرجح مادة صحفية لتحويلها إلى خبر أو تقرير.. راقبته دون أن أمعن فيه النظر، متمنياً أن يدعني وشأني كي أتفرغ للمراجعة.. وبالفعل، أعطى بالأوراق لزميلي، وكلفه بترجمة تقرير عن بي بي سي الإنجليزية..

تنفست الصعداء.. وواصلت مهمتي بحماس، كنت سعيداً لأن مراجعتي للبحث طمأنتني.. لقد بدا ثرياً ومتماسكاً.. الأخطاء التي عالجتها كانت قليلة، لكن كان عليّ أن أستبعد تلك الإحصاءات الثمينة التي برهنت بها على كثير من النتائج، لأنها ليست حديثة بما يكفي.. عليّ أن أفكر كذلك بأن الرسالة سوف تنشر ـ بإذن الله ـ بحلول عام 2012، وعندها ستكون هذه الإحصاءات من إرث الماضي السحيق، خاصة في مجال الإعلام الحديث، الذي يتطور بسرعة لافتة..

أفقدتني الفقرات المحذوفة بضع مئات من الكلمات، فانخفض إجمالي الفصل الأول إلى ما دون العشرة آلاف كلمة بقليل، لكن لا بأس، لم يعد بمقدوري في هذه المرحلة أن أضيف المزيد، كما أن المشرف لن يزن البحث بالكلمات، كما يحدث عادة في مصر.. أنهيت المراجعة راضياً، وقمت بتنسيق الصفحات على نحو أنيق، وطبعت البروفة الأخيرة..

بفخر لملمت أوراقي، فقد انتهت نوبة العمل مع شقشقات الصباح، ووصل السائق الذي سيعيدني إلى المنزل، غادرت بي بي سي وأنا أفكر في البركة التي تحل بأوقات السحر، فتضاعف الجهد وتأتي بالتوفيق..

في طريقي إلى المنزل كنت أتذكر الفقرات المحذوفة، وكم أرهقني جمعها في الأشهر الماضية، وها أنذا أرغم نفسي على حذفها.. لقد فقدت بضعة أرقام ونسب مئوية، كان من شأنها إضفاء المصداقية على كثير من النتائج والخلاصات، لكن تأثيرها سيكون عكسياً لو لم أحذفها.. عليّ أن أجد بديلاً لها على أي حال.. ليس على وجه السرعة، ولكن خلال المرحلة المقبلة من البحث على الأقل..

لم يهدني تفكيري في هذه اللحظة إلى السبيل الذي سأسلكه كي أعثر على إحصاءات محدثة تتصل بموضوع البحث.. لكنني عزمت على أن أحصل عليها حتى لو اضطررت لدفع المال.. عندما أنتهي من مناقشة الفصل الأول، وأعود من إجازة الصيف، ستكون خطوتي الأولي هي الاتصال بمراكز الأبحاث الناشطة في حقل الإعلام الحديث.. تبدو المهمة مستحيلة وأنا أتخيل أسعاراً لا تناسب إلا عملاءها من الشركات والجامعات، فتلك المراكز البحثية لا تعمل لوجه الله، ولن تتطوع بإمدادي بالمعلومات لأنني طالب دكتوراه فقير..

وصلت إلى المنزل، فتحت التليفزيون على الفور كعادتي، فوجدت تقريري الصحفي ـ الذي انتهيت من إعداده قبل ساعتين ـ على الهواء.. شاهدته، ثم أرسلت نسخة الفصل الأول إلى زميلي نيل عبر البريد الإلكتروني، بعدها انطلقت إلى الفراش...

مضت الساعات وأنا أسبح في فضاءات النوم.. أعيش حياتي الأخرى في الحلم.. ثم فجأة انتشلني جرس الهاتف من تلك الأعماق.. أجبت بصوت متقطع: من؟ نصر الدين؟ نصر الدين من؟ آآآآه.. نصر الدين.. كيف حالك؟ لم أسمع صوتك منذ سنتين.. بالتأكيد سأسعد برؤيتك.. غداً؟ لا بأس..

أعدت رأسي إلى الوسادة.. ونظرت إلى سقف الحجرة وأنا أفكر.. نصر الدين، زميلي في الجامعة خلال فترة الماجستير؟ كان يدرس في تخصص آخر، لكنني تعرفت عليه من خلال صديقنا المشترك زياد.. من اللطيف أن يتذكرني نصر الدين بعد طول غياب.. ولكن ما الذي دفعه للاتصال بي فجأة..

ظللت حائراً حتى التقيته وفق الخطة مساء أمس، اجتمعنا في ميدان ليستر الحيوي، وانضم إلينا بالصدفة مصطفي المنشاوي وأحمد زكي وزوجته شيماء.. بعضهم كان قد التقى نصر الدين ـ الجزائري الأصل ـ من قبل.. جلسنا بأحد المقاهي الإيطالية، وبدأنا واحدة من حلقاتنا النقاشية الممتعة..

على هامش الحديث، سألت نصر الدين عن طبيعة عمله الجديد، الذي يفخر بفعالياته دوماً على الفيس بوك.. فقال لي باعتزاز: باحث في تكنولوجيا الاتصالات..

حدقت فيه النظر، وسألته: ماذا؟ فأعاد الإجابة، لكنها وقعت على أذني هذه المرة مصحوبة بصدى رخيم، وقد محت كل من حولها من أصوات.. ثم أضاف: في مركز متخصص، يجمع الإحصاءات بشكل دوري عن كل ما يتعلق بسوق الاتصالات..
تاه صوته في صمتي المتأمل.. ألهذا أرسلك الله؟ ربما لم تكن تدر أنت أيضاً لماذا ـ وفجأة ـ فتشت عن رقمي واتصلت بي.. ربما كنت منهمكاً في عمل ما، ثم همس هامس في أذنك بهذا الأمر.. الأمر.. أن اتصل بمحمد سعيد، أنه بحاجة إليك..

ـ إنني بحاجة إليك..!

قلتها، واضعاً كفي على صدري ممتناً، ضاغطاً على الأحرف كما لو كنت أذيع نبأ النصر.. وشرعت في شرح موضوع رسالتي، الذي كان هو نفسه المجال الذي يجري عليه أبحاثه لصالح شركات كبرى..

طمأنني نصر الدين، سيمدني بالمعلومات التي سأحتاجها، أياً كانت وفق تأكيده.. سيقضي عطلة نهاية الأسبوع مع أسرته في باريس، وبعدها سنلتقي من جديد، ليزين بحثي بالأرقام والنسب المئوية اللازمة..

عدنا إلى دائرة الأصدقاء، واندمجنا مجدداً في الحديث، لكن كل منا كان قد استقر وجدانه الحائر، بعد أن عرف سر اللقاء، بعد طول الغياب..

وانتهت الليلة الجميلة، بابتسامات الرضا...

الأربعاء، 11 فبراير 2009

الأم المثالية


السادة أعضاء لجنة التحكيم في مسابقة الأم المثالية..

أكتب لكم من لندن، حيث أدرس للحصول على درجة الدكتوره في الإعلام بمنحة من جامعة رويال هولواي، بعد أن حصلت في العام الماضي من نفس الجامعة على درجة الماجستير بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف بمنحة من وزارة الخارجية البريطانية.. هذه الرحلة الدراسية، أعقبت مشواراً مهنياً حافلاً بالإنجازات والجوائز في مجال الصحافة والتليفزيون.. انتسبت فيه لأكبر المؤسسات الإعلامية العربية والعالمية (الأهرام، تليفزيون أبو ظبي، بي بي سي)، كما تنقلت بين عشرات الدول للدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان من خلال برامجي التليفزيونية، التي أنقذ أحدها ذات مرة مواطناً صومالياً بريئاً من السجن مدى الحياة في إيطاليا...

الحقيقة أنني ـ بمقاييس الكثيرين ـ أعد شخصاً ناجحاً.. لكنني أود في هذه الرسالة أن أشرح لكم، كيف أنني لا أملك على الإطلاق أي نصيب من هذا النجاح والتفوق، وأن كل الثناء والمديح والتكريم ينبغي أن يتوجه إلى إنسان واحد فقط، هو الذي صنع هذا المجد في صمت وبلا مصلحة، إنه أمي...

لقد صنعتني أمي.. قررت منذ طفولتي المبكرة ـ وربما منذ ولادتي، أو حتى قبلها ـ أن تجهزني لشأن عظيم، رسخت بداخلي العزيمة على أن أكون ذا رسالة ومكانة، وأن أسعى لتحقيق أرقى الأهداف.. بذكاء وحكمة زرعت داخلى بذرة الإرادة والصبر، وروتها بكلمات وأفعال ما زالت تهديني في ظلمات الغربة.. وها أنذا اليوم، أرفع صوتي بفخر، وأقول: أنا صنيعة أمي.. ما كنت لأبلغ ما بلغت، ما كنت لأحلم، ولا أقدر على تحقيق الحلم، لولا أمي.. كل شيء، كل شيء في حياتي منسوب لها: خلقي ومعاملاتي، ثقافتي وعملي، صبري وإيماني، لكل صفة من تلك القائمة الطويلة قصة، سعت فيها أمي لوضع حجر في بناء شخصيتي، كما لو كانت تؤسس مشروعاً ضمن برنامج من إعداد أفضل الخبراء...


شجعتني أمي على حب القراءة عندما تجاوزت منتصف عقدي الأول، بوضع قصص على المائدة، وحين أنتبه إليها، تزعم أنها مكافأة لتلاميذها النابغين.. ويدفعني الفضول للتعرف على تلك الهدية الثمينة، فأطلب من أمي استعارتها، لتقبل أن تعطيني إياها، متعهدة بشراء غيرها للتلاميذ... ومن هنا بدأت رحلتي الطويلة مع القراءة، ولا أظن أنني كنت لأمتهن الصحافة والفكر، دون أن أدخل من بوابة القراءة والاطلاع، التي أرشدتني أمي إليها، وكأنها تؤهلني بثقة وبصيرة لما سيقتضيه عملي في المستقبل..


وعندما بلغت الثانية عشر، نصحتني أمي بقراءة عمود صحفي في مناسبة عيد الأم، وزادني المقال حباً وتقديراً لأمي، لكنه أيضاً علق مشاعري بأسلوب كاتبه الأستاذ الكبير مصطفى أمين، فواظبت يومياً على قراءة أعمدته، وبحثت عن كتبه، وقرأت أغلبها، فتعلقت أكثر وأكثر بأسلوبه وحكاياته، وبعد أشهر قليلة كنت أردد اسمه مصحوباً بلقب (مثلي الأعلى)، وتمنيت أن أصبح مثله صحفياً وطنياً يساهم في صنع تاريخ بلاده، وسعدت أمي لذلك، بل وأرسلت إليه تطلب منه استقبالي ومراسلتي.. وزاد الحلم بداخلي، حتى درست الإعلام وتفوقت فيه، فرشحني مصطفى أمين لجائزته، ومنحها لي أمام نخبة من رجال السياسة والإعلام والفن، في حضور أمي، التي حيته بعد الاحتفال، فطمأنها إلى أن ولدها سيكون له شأن في المستقبل..


لم توفر أمي فرصة لإسعادي.. كانت ـ فيما بدا لي ـ تنفرد بنفسها ليلاً وتفكر، كيف لها أن تساعدني على الارتقاء والتقدم إلى الأمام.. كيف يمكن أن تصنع لي وبي تاريخاً تزهو به وتفخر..


كانت أمي كذلك زوجة صالحة.. وبرغم اقتسامها أعباء الأسرة مع والدي، إلا أن صوتها ظل خفيضاً حانياً في وجوده وحتى رحيله، لا تحتفظ ذاكرتي بمشهد واحد تعدت فيه أمي على منزلة أبي كرب وقائد للأسرة، أذكرها وهي تتبادل المزاح معه في الصباح، وهي تعد له ولنا الفطور، وهي تساعدنا على ارتداء ملابسنا، ثم تصطحبنا إلى المدرسة، وهناك عليّ أن أنسى تماماً أنها أمي، وأن أخاطبها كمعلمتي في الفصل، وقد قست عليّ كثيراً في حين دللت زملائي لغرس فضيلة التواضع لديّ، وبعد انتهاء اليوم الدراسي نعود للمنزل، ويعود أبي من عمله، ويتسابق الاثنان في إعداد وجبة الغداء، ثم يتبعاننا إلى المائدة، ويتباهي كل منهما بالتهامنا الطبق الذي أعده.. والحقيقة أن نكهتهما في الطعام كانت واحدة على نحو يصعب تصديقه..


ظلت أمي لسنوات تسعى لنيل فرصتها في السفر بحثاً عن رزق أوفر للارتقاء بمستوى الأسرة، أملاً في أن تحل محل أبي الذي لم يكف عن السفر لنفس الغرض منذ زواجهما، وعندما وقع عليها الاختيار لتعار إلى سلطنة عمان، لم يتردد أبي في العودة من السعودية، وإفساح المجال لها كي تخوض التجربة نزولاً على رغبتها، وتبادل الاثنان أدوارهما، غابت أمي عن الأسرة أربعة أعوام لتوفير دخل أكبر، بينما بقي أبي في البيت يمارس الأعمال المنزلية بمهارة، مازجاً بين حنان الأم وشدة الأب.. لكن رسائل أمي لم تنقطع، وعندما أراجعها اليوم، أدرك كيف اهتدى بها أبي في تلك السنوات الأربع.. إن العشرات من تلك الرسائل التي بعثت بها أمي إلى أبي وأختى وإلىّ من مقر عملها وإقامتها في مدرسة ابتدائية بقرية جبلية نائية في سلطنة عمان، تصلح منهاجاً يسترشد به الآباء في تقويم أبنائهم...


أنهكت هذه الرحلة الشاقة صحة أمي، فعادت منها مريضة، وتحتم ـ لكي تعود إليها عافيتها ـ نقل نحو خمسة لترات من الدم إلى جسدها الواهن، وسارعت بمد ذراعي لنقل كل نقطة دم في جسمي إلى أمي، لكن المستشفى لم توافق على سحب أكثر من لتر واحد فقط، فهرعت إلى أصدقائي أستغيث، وإذا بالعشرات منهم يفدون إلى المستشفى، مشمرين عن سواعدهم، وتم نقل الدم، وعادت أمي إلى البيت، مدينة بحياتها إلى أصدقائي، الذين فعلوا ما فعلوا بفضل تربيتها لي على كل الصفات الحميدة...


لم يأل أبي جهداً في رعاية أمي خلال مرضها، لكن سرعان ما أصابه المرض هو الآخر، وغادر الحياة.. وكان علي القارب أن يواصل المسيرة، فتولت أمي قيادته وحيدة.. بينما كنا في سنوات الجامعة، نتأهل لمواجهة المستقبل..


كنت ـ بعكس معظم أقراني من الشبان ـ ممنوعاً من اللهو في الشوارع والطرقات، أبت أمي إلا أن أجتنب رفقاء السوء، بتشجيعي على قضاء أوقات الفراغ في البيت بين القراءة والكتابة.. وبرغم ذلك الحرص الفائق على تنشئتي في ظلها كي يطمئن قلبها، خضعَت لرغبتي في الانتقال للقاهرة، بحثاً عن ذاتي وأحلامي.. دفعَت بي إلى زحام العاصمة، إيماناً بأن موسم الحصاد سوف يبدأ من هناك.. من حيث بدأت مسيرتي المهنية في صحيفة الأهرام..


بعد زواج أختى، صارت أمي وحيدة، لكنها لم تتمرد مطلقاً على تلك الوحدة، بل وظفت فراغها الجديد للتفكير في المستقبل، أعدت الكثير، ولم تكشف عنه إلا بعد سنوات، كأغراض زواجي والادخار وسداد الزكاة والصدقات نيابة عني..


وشاء القدر أن تسقط أمي في فخ المرض الخبيث، كان يوماً فارقاً في عمري، ذلك الذي خصتني فيه أمي بالسر، أذكره بأدق تفاصيله كأنه كان بالأمس.. وأشد ما أدهشني يومها هو أن أمي كانت تبلغني بنتيجة تحاليلها الطبية، وهي تضحك.. وأغلب ظني أنها أرادت بذلك أن تخفف عني أثر الخبر المفزع...


وانطلقت إلى سماعة الهاتف، وسألت كل من أعرف ومن لا أعرف عن الطبيب المناسب لإجراء العملية الجراحية اللازمة، حتى رشح لي كبار أساتذتي طبيباً مرموقاً، استقبلنا بمستشفى القصر العيني في اليوم التالي، وتمت العملية بدون أن يعرف بها من العائلة سواي.. حملت المسؤولية على كتفي الصغير، ولم أجد من أشكو له قلقي على أمي إلا الله.. حتى أختي ـ التي كانت حاملاً في أشهرها الأخيرة ـ أصرت أمي على ألا أبلغها..


بعد أن تعافت أمي بأيام تلقيت عرضاً سخياً للعمل في تليفزيون أبو ظبي، ولم أعرف ماذا أفعل.. حتى قطعت أمي حيرتي، وأمرتني بقبوله فوراً، خاصة أن صمودها اللافت جعلها تتخطى المرحلة الحرجة بعد الجراحة، وتعود للوقوف على قدميها..


خلال عملي التليفزيوني ظلت أمي جمهوري الأمين الذي يصدقني النصيحة حتى لو آلمتني، كثيراً ما كانت تناقشني في الطريقة المثلى التي ينبغي أن أناقش بها القضايا، وتلومني بقسوة إذا لم أزن بين ضيوفي بالعدل، وتسهر الليالي في جمع قصاصات من الصحف قد توحي لي بأفكار جديدة..


أنابت عني أمي في إنجاز مصالحي بمصر منذ انتقالي إلى أبو ظبي ومن بعدها إلى لندن للدراسة والعمل، تحملت عني مراراً عبء السفر إلى القاهرة لتجديد إجازتي من صحيفة الأهرام بكافة إجراءاتها المعقدة، وكانت تصر على ذلك بحماس ورضا..


لذا فقد كان سعيي الدؤوب لتحقيق حلمها في حصولي على الماجستير من بريطانيا، وتحول الحلم إلى حقيقة عندما شهدت حفل تخرجي الأسطوري، واستمعت إلى إشادة أساتذتي بي، وكنت أُعَرفهم بها مردداً بفخر: هذه هي أمي ومعلمتي، لولاها ما كان لي مكان بينكم..
تختزل هذه السطور عشرات القصص الملهمة، التي أنكرت فيها أمي ذاتها ودفعت بي للمقدمة.. نجحت أمي في مهمتها التي كلفت نفسها بها ربما قبل مولدي، قدمت للعالم إنساناً صالحاً يحب الخير ويسعى له، ويجتمع على حبه وتقديره الكثيرون.. لكن ربما لا يعلم هؤلاء أن أمي هي الأساس، إنها أم نادرة، مثالية بكل ما تنطوي عليه تلك الكلمة من دلالات ومعان..


إن أمي تستحق التكريم بما عانت، وما نالت.. ينبغي أن يُتوجها المجتمع بأرفع الألقاب، وأن يسجل اسمها في صفحات التاريخ، عنواناً للتضحية ونكران الذات..


أشكركم على سعة صدركم، ولكم مني كل التقدير والاحترام،،،

محمد سعيد محفوظ
لندن

الجمعة، 30 يناير 2009

ماذا تفعل؟

ماذا تفعل إذا كنت محاطاً بأكثرية من المتسلقين والانتهازيين وأنصاف الموهوبين؟
وماذا تفعل لو ترقّى معظمهم، فصار هراؤه قراراً، وهرطقاته حكمة؟

الاثنين، 26 يناير 2009

في اللحظة الأخيرة!

رأيت في الحلم أن أمي تستقل حافلة، فجأة انحرفت عن الطريق وانقلبت، وقبل أن تسقط.. اقتحمت الحافلة، وحملت أمي كالطفل، وأنقذتها، بينما كانت هي مطمئنة، وتمزح مع آخرين...!