الأحد، 30 مايو 2010

حرب اليوتيوب

إضافة صورةكل عام ويوتيوب بخير.. الأسبوع الماضي احتفل بعيد ميلاده الخامس، فخوراً بالمعارك التي خاضها، والوزارات التي أسقطها، والأنظمة التي كشف عوراتها.. غيّر هذا الموقع الإلكتروني من وجه العالم، جعل من مشاهدة مقاطع الفيديو العفوية والمدروسة طقساً يومياً لدي ملياري مستخدم للإنترنت، تزداد معرفتهم بأسرار مجتمعاتهم يوماً بعد يوم، وتتضاعف ـ بفضل ذلك ـ قدرتهم علي المقاومة والتغيير..

في عيد ميلاده نقول له من أعماق قلوبنا: شكراً! فلولاه لما شاهدنا عصا الشرطة في مؤخرة عماد الكبير سائق سرفيس بولاق الدكرور، وإلا لادعت وزارة الداخلية أنه يفتري عليها وخرجت من القضية كالشعرة من العجين! ولولاه لما شاهدنا صدام حسين يتقدم بثبات لحبل المشنقة ثم يتلو نصف الشهادة ويموت، وإلا لزعم خصومه أنه توسل إليهم وقبل أقدامهم وطلب منهم الصفح والمغفرة.. ولولا اليوتيوب لما شاهدنا كمائن المقاومة العراقية تقتلع الدبابات الأمريكية، بحيث لا يجرؤ جورج بوش وأعوانه بعدها علي الإنكار... اختصر يوتيوب المسافات، عبر الحدود وتجاوز الخطوط الحمراء، جعلنا نتسلل إلي غزة عبر أنفاق التهريب، ونتفاعل بهمجية مع تعصب بعض الجزائريين في مباريات كرة القدم، ونشمئز من التنكيل بجثة قاتل مصري في قرية لبنانية.. تحدي يوتيوب النظام الإيراني وفضح قمعه لمعارضيه في الانتخابات الرئاسية، وألقي في نفوس الأمريكيين الرعب من رسائل بن لادن، وحطم قيود الرقابة علي أتباع الديانات المغمورة والميول السلوكية المنبوذة.. رأينا وجوه المعارضين في بلداننا لأول مرة، واستمعنا إلي أصواتهم وأفكارهم بدون مونتاج أو مؤثرات.. لقد وجدت الأنظمة السياسية المستبدة نفسها في مأزق.. فلم يعد في عصر اليوتيوب شيء اسمه المجهول!

قصة مولد هذا الموقع الجسور لا يميزها شيء، قد تحدث لي ولك كل يوم عشرات المرات.. تصور نفسك مع أصدقائك في حفل عشاء، تقرعون الكؤوس ـ لا سمح الله ـ وتتناولون الطعام وتلتقطون صور الفيديو للذكري.. في نهاية الأمسية تلحّون في حصول كل منكم علي نسخته من هذه اللقطات المطوّلة، وتوفيرها لبقية الأصدقاء الذين لم يتمكنوا من الحضور.. تتبادلون الرأي في الكيفية المثلي لتنفيذ ذلك، لكن تجدون في الأمر صعوبة.. فإذا كان دأبكم في مجال التكنولوجيا محدوداً مثلي فسوف تتغاضون سريعاً عن هذا الأمل، وتعِدون أنفسكم بتكرار المناسبة قريباً في ظل إمكانات أوفر وأسهل.. لكن ذلك لم يكن رد فعل تشاد هيرلي وستيف تشن وجاويد كريم بعد أن تناولوا عشاءهم في سان فرانسيسكو.. لقد عكفوا بإصرار علي ابتكار وسيلة لتبادل ملفات الفيديو فيما بينهم، فكان «يوتيوب» في ليلة من ليالي شهر مايو عام 2005 تطورت الفكرة إلي موقع مفتوح، جذب إليه الملايين في أشهر قليلة، مما أغري جوجل بشرائه من الشبان الثلاثة بعد نحو عام بمبلغ مليار ونصف المليار دولار!

في عام 2009 كان يوتيوب قد حظي بالصدارة في عالم الإنترنت، لذا عوّل عليه باراك أوباما في حملته الرئاسية، فدعا مؤيديه إلي بث خطبه ومؤتمراته الانتخابية ورسائل التأييد له علي الموقع الشعبي، كي يشاهدها ملايين الناخبين في شتي أنحاء الولايات المتحدة.. لقد تحول يوتيوب إلي ساحة معركة لم يدفع فيها السود والفقراء والمستضعفون قرشاً واحداً من أجل التغيير.. وفي النهاية نالوه، ودخل الناشط الحقوقي الأسود إلي البيت الأبيض من بوابة اليوتيوب، مما شجع الأغلبية الصامتة في كثير من دول العالم ـ ومنها مصر ـ علي السير في نفس الطريق..

كان المناخ العام في مصر ـ حتي قبل مولد يوتيوب بسنوات ـ قد هيأ لظهور نشطاء الإنترنت، هؤلاء الذين أفرزهم الفقر مع تدهور الأوضاع المعيشية، والكبت السياسي مع احتكار الدولة للإعلام التقليدي، وعدم الرضا عن مواقف النظام الخارجية مع احتدام الصراع بين العرب والقوي الكبري في العالم.. كان عصر الأحزاب قد انتهي، وبعض قياداتها شارفت ـ هي الأخري ـ علي الثمانين، ولم يعد الإعلام ينقل عنها سوي أخبار الصراعات الداخلية والاجتماعات الروتينية فيما بينها للتنسيق من أجل تغيير لم يتوصل أحد لتعريفه.. تقاعد جمهور هذه الأحزاب بعد أن تحطمت أحلامه علي صخرة الكهولة السياسية في مصر، لتخلو الساحة أمام جيل جديد ساعدته الثورة المعلوماتية وما يسمي بالجيل الثاني من الإنترنت ذي الخواص التفاعلية علي أن يبدع أدوات جديدة للتغيير.. بدأت بالمدونات، مروراً باليوتيوب، وانتهاء بالفيس بوك وتويتر أشهر موقعين للتواصل الاجتماعي الآن علي الإطلاق..

كان التحدي الأكبر أمام هؤلا النشطاء هو مقارعة آلة الإعلام العتيقة التي تسيّرها الدولة وتغسل بها الأدمغة، خاصة مع استفحال الأمية والفقر.. الإعلام التقليدي يتحدث عن بلد مستقر وشعب راضٍ وحكومة نموذجية، بينما لا يجد أكثر من عشرين مليون مواطن قوت يومه وفقاً لأكثر الإحصاءات تفاؤلاً.. وجد معظم هؤلاء النشطاء ضالتهم في موقع يوتيوب، فكلفوا أنفسهم عبء توثيق الفقر والانتهاكات في كل مكان وبثها فوراً علي الموقع، لإحراج الحكومة وإرغامها علي الاستجابة لمطالب الإصلاح والتغيير، لكن هذا الجهد ظل متواضعاً..

في هذا الخضم عاد البرادعي إلي مصر، مسبوقاً بتصريحاته العفوية عن ترشحه للرئاسة إذا جري تعديل الدستور، حشد نشطاء الإنترنت الرأي العام الإلكتروني للالتفاف حوله، وبين عشية وضحاها صار الموظف الدولي زعيماً ورمزاً.. وانتقلت عدوي تأييده كالنار في الهشيم علي اليوتيوب وغيره من المواقع التفاعلية كالفيس بوك وتويتر..

وجد أقطاب النظام والمعارضة أنفسهم في حرج.. وكان عليهم لمواكبة هذه المسيرة الإلكترونية المندفعة أن يبحثوا لأنفسهم عن موطئ قدم في الفضاء الرقمي.. وفي أوقات متقاربة دخل الجميع الفيس بوك، أسهل طريق للتواصل مع المصريين البالغ عددهم علي هذا الموقع الضخم ثلاثة ملايين، علي رأسهم نشطاء الإنترنت، الذين نظموا من خلاله إضراب السادس من أبريل، وحملات مقاطعة السلع الأمريكية والدنماركية... علي أمل تطويعهم واستقطابهم.. لكن لا الحزب الوطني ولا أحزاب المعارضة استطاعت أن تحشد عليه سوي مناصريها التقليديين، الذين يتقاضون منها أجوراً علي الأرجح لتعمير صفحاتها الشاغرة علي الفيس بوك..

لحظة كتابة هذا المقال، يكاد الحزب الوطني أن يكون أكثر الأحزاب شعبية علي هذا الموقع، حيث تضم صفحته الرئيسية 1119 شخصاً، إلي جانب ثمانمائة وستة آخرين علي صفحات متفرقة منه تؤيد الحزب في المحافظات المختلفة، أي أن الإجمالي يقترب من الألفين.. الحزب العربي الناصري يتألف جمهوره علي الفيس بوك من 1381 فرداً علي الفيس بوك.. حزب الوفد ترك مهمة تأسيس حضوره علي الفيس بوك لصبي صغير السن ـ كما يبدو من صورته ـ أنشأ صفحة خصصها لما وصفه بأقوي حزب معارض في مصر، بينما لا نجد علي قائمتها سوي سبعة وستين عضواً فقط.. اعتقد حزب الوفد أنه قد يجذب مزيداً من الأعضاء إذا أنشأ صفحة باللغة الإنجليزية، لكن خاب ظنه، حيث لم ينضم إليها أحد علي الإطلاق! فأنشأ صفحة أخري مماثلة بالإنجليزية، ليظل عدد المعجبين صفراً! وأخيراً أنشأ صفحة ثالثة بالإنجليزية باسم حزب الوفد الجديد، فانضم إليها شخص واحد فقط! بينما تضم صفحة حزب التجمع علي الفيس بوك أربعمائة وسبعين عضواً..

حزب الغد، المرشح الأقوي لاستغلال وتوظيف الفيس بوك ـ بحكم اسمه علي الأقل ـ لديه صفحتان فقط علي الموقع، إحداهما باسم شباب حزب الغد تضم ثلاثة وأربعين عضواً، أما الصفحة الثانية فهي لحزب الغد في البحيرة، وعلي قائمتها مائة وتسعة وسبعون عضواً فقط.. الطريف أن الصفحة الرئيسية للحزب ترشح وصلات لثلاث صفحات أخري تعكس ميولاً ملتبسة لدي القائمين علي هذه الصفحة: منبر الجزيرة (قد يُفهم ذلك في ضوء تغطيات قناة الجزيرة المتواصلة لأخبار زعيم الحزب أيمن نور)، صفحة معجبي الإعلامي وائل الإبراشي (لا أدري لماذا زميلي وائل بالتحديد)، وصفحة ثالثة بعنوان (اجعل صفحة النبي رقم واحد علي الفيس بوك.. انشرها بقدر حبك للنبي).. وكنت أتوقع أن أجد هذا الرابط علي صفحة للإخوان المسلمين مثلاً، لا علي صفحة حزب الغد الليبرالي، ذي التوجهات العلمانية، والذي يقول إنه يمثل كل الأطياف!

وفيما تغيب الأحزاب الخمسة عشر الباقية تقريباً عن ساحة الفيس بوك، يقترب عدد مؤيدي الجمعية الوطنية للتغيير ـ برئاسة الدكتور محمد البرادعي ـ من خلال صفحاتها الثلاث من العشرين ألفاً.. ومن اللافت أنها حظيت بهذا الرقم ـ الذي يفوق إجمالي مؤيدي الأحزاب العريقة الأخري علي الفيس بوك ـ في ثلاثة أشهر فقط..

في المقابل لم تنتبه بعد رموزنا السياسية لتأثير اليوتيوب، رغم أنه أقوي هذه المواقع التفاعلية وأوسعها انتشاراً.. يردد «زعماؤنا» عبارات إنشائية عن مجتمع المعلوماتية والفضاء المفتوح وتزويد المدارس بالحواسب الآلية، لكن أتحداك أن تجد لوزيرين في الحكومة بريداً إلكترونياً أو حساباً علي أي من المواقع التفاعلية.. ولو وُجد ذلك لكان باقتراح وإشراف السكرتير أو المستشار الإعلامي من باب الفشخرة أو مسايرة الموضة.. في سفارتنا بإحدي الدول العربية قابلتُ مسئولة في المكتب الإعلامي لا تعرف الفرق بين الإيميل والموقع الإلكتروني! وعندما شرحت لها الفرق، سألتني بغباء منقطع النظير هل عليها أن تكتبه بأحرف «كابيتال» ولا «صمول»!! فما بالك بتوظيف اليوتيوب سياسياً وشعبياً؟ يكفي الحكومة إعلامها التقليدي الذي يدار علي مزاجها بينما يموله الشعب من الضرائب والجبايات.. فليهنأوا بإعلامهم التقليدي هذا، ولكن عليك أنت ـ أيها المصري الغلبان ـ باليوتيوب.. انضم إلي نشطاء الإنترنت وأد واجبك في كشف الحقيقة.. كيف؟

في مصر عشرات الجحور المنسية.. أطفال تسبح في مياه المصارف، ونساء تبعن أعراضهن مقابل رغيف خبز، وعجائز يموتون علي الأرصفة مع الكلاب الضالة.. قبور تؤوي الأحياء والأموات، وأنفاق تأتي لنا بالسلاح والمخدرات، وأوكار تمارس فيها الرذيلة وتستوطن فيها الأمراض.. مصر ليست حي المهندسين أو الزمالك أو محطة الرمل، ولا هي شبرا أو الأنفوشي أو مدن الصعيد.. إنها القري التي لا يصل إليها القطار ولا المياه النظيفة.. قري ليس فيها شبر من الأسفلت ولا سقف من الحجر.. نُجوع يولد ويموت فيها البشر دون أن يسمع لهم صوت أو تتحقق لهم أمنية.. مصر فيها بلاوي يتغافل عنها الإعلام التقليدي، ولن ينصفها سوي اليوتيوب بعيونه المفتوحة ليل نهار.. ولا يحتاج كشف هذا المستور سوي لتسجيل لقطة بكاميرا هاتفك المحمول ورفعها ببساطة علي هذا الموقع الحر.. اذهب إلي أقرب منطقة مهمشة إليك، ابحث عن أفقر وأغلب سكانها، ستجده في انتظارك منذ سنوات.. وثّق مأساته بأصغر وأتفه كاميرا لديك.. ليس مطلوباً منك أن تكون مصوراً محترفاً.. المطلوب هو أن تنقل معاناة هذا البائس أو ذاك ممن نسيهم أو تناساهم إعلامنا التقليدي الرسمي والخاص.. إذا فعلتَ أنت ذلك، وكل من صادف انتهاكاً أو فساداً أو قصوراً، فسوف نري بلدنا علي حقيقته.. لن يجرؤ إعلام مأجور علي خداعنا بتجميل الواقع أو حجبه وإبراز بعض جوانبه دون أخري..

عندما أنشأت حسابي علي يوتيوب خصص الكاتب الإماراتي المخضرم «علي عبيدا»ً مقاله الأسبوعي بصحيفة البيان لتهنئتي، والتعليق علي ظاهرة الإعلام البديل، وكيف صار لكل مواطن الحق في امتلاك قناته التليفزيونية وبث ما يراه مناسباً دون رقيب أو حسيب.. وفي بريطانيا يسمون مثل هذا الشخص بالمنتج المستهلك، أي الذي ينتج ما يستهلكه من مادة إعلامية، ومن ثم يتحكم في مواصفاتها ويستمتع بها.. وها أنذا أستكمل كتابة هذا المقال في القطار عائداً من مدينة بريستول البريطانية إلي لندن بعد أن شاركت في سيمبوزيوم دارت إحدي جلساته حول الفيلم الوثائقي الجمعي علي اليوتيوب، وهو الذي يتقاسم إخراجه عدد من الأفراد دون أن يتلاقوا إلا علي الإنترنت، وهذا هو مشروع رسالتي للدكتوراه.. يتباهي البريطانيون علي هذا النحو بتنقيح فكرة اليوتيوب واستثمارها وتأسيس العديد من الابتكارات عليها.. أما نحن فبعد خمس سنوات من إنشاء هذا الموقع العملاق، ما زلنا نُعرّف الناس به، ونحُضُّهم علي زيارته، وتزويده بمقاطع فيديو هادفة...

إن صوتك في الانتخابات ـ أي انتخابات ـ يجب أن ينبني علي حقائق لا يزيفها اليوتيوب، حقائق حول الواقع والمرشحين والناخبين.. فقبل أن تذهب إلي لجان الاقتراع توجه أولاً إلي يوتيوب، شاهد ما اغتنمه أقرانك من لقطات سرية تزيح النقاب عن وجه من بلادك لا تعرفه.. كيف تتنازل عن صوتك الثمين لشخص أو حزب أو نظام دون أن تفتش عن تاريخه؟ دون أن تعثر علي كل بقعة ـ ولو دقيقة ـ في ثوبه السياسي، وتتأمل فيها؟ في بلاد بره يفعلون ذلك.. ألم تسمع بحكاية جورج آلينحاكم فيرجينيا السابق الذي هزمه اليوتيوب بسبب «الماكاكا»؟

قبل أربع سنوات كان هذا السياسي الأمريكي العريق يخاطب عدداً قليلاً من أبناء دائرته في أحد التجمعات الانتخابية، وفي لحظة ما توجه بالحديث إلي أحدهم وكان أمريكياً من أصل هندي يدعي سيدارث، ويحمل في يده كاميرا صغيرة.. قال له جورج آلين بازدراء: أهلاً بالماكاكا في أمريكا!!.. لم يفهم أحد معني الماكاكا إلا سيدارث، فقد كانت ماكاكا هي إساءة بالغة في بعض مناطق شمال أفريقيا ـ كما تبين فيما بعد ـ تعني العبد الأسود، وقد تعلمها ألين فيما يبدو من أمه المنحدرة من أصل يهودي جزائري.. كانت كاميرا سيدارث في وضع التشغيل عندما انزلقت تلك الكلمة من لسان جورج آلين الفالت.. وما إن رفع سيدارث اللقطة علي يوتيوب برغبة منه في الانتقام، حتي شنت وسائل الإعلام حرباً ضروس علي جورج آلين، الذي انكشف وجهه العنصري أمام بقية ناخبيه، بعد أن شاهدوا المقطع المصور وأدركوا أنه ليس الشخص المناسب كي يمثلهم في البرلمان.. وهكذا انتهي مستقبله السياسي تماماً، ليرث مقعده في مجلس الشيوخ غريمه السيناتور جيم ويب... وهذا ما يفعله اليوتيوب في المجتمعات الواعية..

صدقني.. يوتيوب هو الذي ينفع مع هؤلاء!! هو البعبع الذي سيعمل له رجال السياسة عندنا ألف حساب.. هو الجُرسة التي يخشاها الفاسدون، ويتجنبها اللصوص النافذون.. ولكن كيف إلا إذا صار اليوتيوب سلوكاً وثقافة؟ إن يوتيوب هو أضعف الإيمان لتغيير المنكر وما أكثره في بلادنا.. هو التحرك الصامت لمن يكره الفساد ويخشي بطشه.. يوتيوب هو الذي يفتح ذراعيه بشجاعة لحقائقنا.. يبثها للعالم باسمه وعلي مسئوليته، فهل تستطيع حكومتنا أن تعتقل يوتيوب وتدخل العصا في مؤخرته؟!

------------------------

* نشر بصحيفة الدستور المصرية يوم 27 مايو 2010


الاثنين، 24 مايو 2010

طريفة الثملة



عندما بلغت قاع الحلم السينمائي الإسباني.. وجدت نفسي في طريفة! أسترخي في بار إسباني يلتحف بضوء الشمس.. تدغدغني نسمات هواء رقيقة، يتراقص قلبي على نغمات جيتار إسباني.. وأنتظر وجبة سمك مشوي صيد للتو من المضيق.. يا لها من لحظة!

أهي بنيلوب كروز، تلك التي تتبع نهديها هناك في رشاقة توقظ الشهوة؟! تعكف على نصب قوائم تحمل صوراً فوتوغرافية في ساحة المهرجان، فتعيدني إلى "فولفير" حيث تنهمك رايموندا بصمت في أداء واجباتها المنزلية الشاقة.. آهات المغنية مع الجيتار تشجع خيالي على تصديق الفكرة، ثم يوقظني التصفيق، ويتلوه الصمت....

يهتز سعف النخل الثابت في ثقة.. مع استغاثة جديدة من المطربة المجهولة.. هتافها يجمع بين الثورة والحزن في غياب الموسيقى.. يعود الجيتار وحيداً.. بينما يكتمل عمل فاتنة فولفير وتنصرف...

تسبح في فضاء خيالاتي مع العاصفة الطرية ومضات من أفلامي الأخاذة: "الزائر" لتوماس ماكارثي، "الحب في زمن الكوليرا" لمايك نيويل، "الحالمون" لبرناردو برتولوتشي، "زمن الغجر" لإمير كوستاريكا، "جنة السينما" لجوزيبي تورناتوري، "الكوراس" لكريسوف باراتييه، "تعليم سيء" لبدرو ألمادوفار..... ألمادوفار...

أراه في كل زاوية.. فهل ترك عمله في مدريد وأتاني هنا؟ هل يرفرف حولي احتفالاً باستقبالي بعد أن تعانقت أفكارنا زمناً عن بعد؟ أم أنها روحه تحتويني أينما ذهبت؟ وفي طريفة الإسبانية ينبغي لروح ألمادوفار أن تكون في الواجهة...

يشقيني العبث.. فهو أصيل في وجداني وعقلي.. أشعر به وأفكر.. آه.. بيانو! إنها قطعة جديدة.. إلى أين ستأخذني هذه المرة؟ آآآآه.. مع نبرة ذكورية حادة؟ إلى نفسي غذن! لا أفهم الكلمات، لكن خشونة الصوت وبحة النداء فيه يدفعاني دفعاً إلى الوراء..

يقرع رواد البار كؤوسهم من حولي، ويدللون كلابهم وأطفالهم.. ثم يرمونني بنظرات دهشة.. أنا الوحيد الذي يمسك بالقلم.. أجهزت على وجبتي نصف الشهية، وأسكب خزعبلاتي على حافظة المهرجان البيضاء.. لا أبالي! فأنا ثمل بافكاري.. أحاصرها بالأسطر كي لا تهرب!

فتاتان سحاقيتان تعبران من أمامي.. كيف عرفت؟ تعبث إحداهما في شعر الأخرى، بينما الأخرى تعانق خصر عشيقتها.. تتصالح هذه المدينة مع الجميع.. فالسعادة حق.. وليس لتعريفها نص وحيد!

يتقمص الجيتار شخصية عود، ويستدعي أحاسيسي الشرقية.. لكنه يبادر بتذكيري بالمكان عندما يمزج بين شخصيته الإسبانية وروحه الأندلسية، يكرر إيقاعه كما لو كان يبكي.. وتكيل لي الريح صفعة رقيقة تشد انتباهي نحو مشرد في أوسط عمره، يدخن سيجارة ويعبث في لحيته بلا اكتراث.. بينما يحل محل فاتنة فولفير شابان يرتديان فانلتين باللون الاسود، يعتليان سلماً حديدياً، ويثبتان مزيداً من اللوحات الفوتوغرافية.. وتهزم المقطوعة مشهدي اللاهث بدفة عصبية على الجيتار.. ويسود الصمت من جديد!!

الأربعاء، 19 مايو 2010

الفاتحة.. في كنيسة القديسين الأواخر!


دون أن يهتز إيماني بالله طرفة عين، قضيت ثلاثة أشهر في دهاليز دين جديد.. دينٍ أمريكي ينتشر في عالمنا في سرية وصمت.. ينفق أتباعه مليارات الدولارات على التبشير به.. يوّرث النبوة فيه كل عشر سنوات تقريباً لقطب نافذ في الاقتصاد أو السياسة، ويمنحه بموجبها (قوة ومفاتيح الكهنوت).. دينٍ يقول إن لإلهنا ـ سبحانه وتعالى ـ زوجة وأبناء في السماء على هيئة بشر، وإن جائزة الصالحين هي التحول إلى آلهة بجوار ربهم الأعظم في حياة الخلود، حيث يتساوى العبد والرب في القوة والتمكن والمعجزات.. دينٍ يزعم أن كتابه المقدس وُجد قبل نحو قرنين من الزمان بنص هيروغليفي على صفائح ذهبية في غابة بالولايات المتحدة، دفنه فيها أنبياؤه الأوائل بعد هجرتهم من القدس ومصر قبل الميلاد بستمائة عام...


يبحث هذا الدين بيننا عن أرضه الموعودة.. يحلم أتباعه بالعودة إليها والاستيطان فيها على غرار إسرائيل، يفتشون عنها بدأب وحذر، بينما لا نراهم نحن ولا نلتفت إليهم، لا نشعر بهم ولا نكترث لهم، مشغولون ومنهمكون في قضايانا وصراعاتنا وضغوطنا الدنيوية.. لكن أتباع هذا الدين الجديد لا يكِلّون.. يدخلون كل بيت، ويحتوون كل متردد بشأن دينه، يغوونه بكل الوسائل والمغريات، ويشملونه بعاطفة مشروطة لا نهائية.. أولويتهم الفقراء والمستضعفين وما أكثرهم.. يعطونهم الأمان وييسرون لهم السفر والمسكن والوظيفة والدخل الوفير.. سيقصدون بيتك ويطرقون بابك ذات صباح، ستراهم في كامل زينتهم، وعلى صدرهم شارة نحاسية باسم كنيستهم، وعلى وجههم ابتسامة رقيقة تخفي وراءها دعوة لعالم سري غامض.. لا يعرف حدوده وخفاياه إلا من يتسلل إليه مثلي بقلبٍ مؤمنٍ وموحدٍ بالله، ليعود منه بالحقيقة والسر..


عرفت بأمر هذا الدين في لندن مهد الغرائب.. أيقظتني في صباح مشمس على غير العادة طرقاتٌ على باب البيت.. كان اليوم هو عطلة رأس السنة.. فتحتُ وأنا أقاوم النعاس، فوجدت شابيْن متأنقيْن.. ظننت من الوهلة الأولى أنهما مبشران مسيحيان ممن اعتدت على زياراتهم الأسبوعية وتلقي مطبوعاتهم بل وقراءتها أحياناً بعناية واهتمام، خاصة بعد أن لاحظتُ اسم كنيستهما المحفور على شارة معلقة على صدر كل منهما: كنيسة يسوع المسيح لقديسي الأيام الأخيرة.. استقبلتُهما بابتسامةِ أخُوّة، وأخبرتهما بهدوء أنني مسلم.. تصورتُ أن ذلك سيوفر عليهما مشقة الشرح ويريحني من عناء الاستماع.. لكن ذلك بالتحديد ما كانا يبحثان عنه... قبل أن أشرع في وداعهما وإغلاق الباب سألني أحدهما بإنجليزيته ذات اللهجة الإيطالية الواضحة إذا كنتُ أمانع في بعض الدردشة حول الدين الذي يبشران به.. ثم أمدني بنشرة زاهية الألوان يتصدرها بالبنط العريض عنوانٌ يقول: المورمون وكلمة الحكمة للنبي جوزيف سميث....


استوقفتني هذه المفردات الجديدة والدخيلة على ثقافتي الواسعة نسبياً في الدين المسيحي بحكم اهتمامي بالمقارنة بين الأديان.. استيقظ فضولي وانتبهَت أحاسيسي.. وسمحت لهم بعد لحظة تفكير بالدخول...


(1)


شابان يتجاوز عمرهما العشرين بقليل، أحدهما إيطالي من روما، والآخر أمريكي من يوتاه.. ويوتاه هي الولاية الأمريكية التي شهدَت ـ وفقاً لروايتهما ـ مولد هذا الدين الجديد.. خلع الشابان حذاءيهما على عتبة الباب، ودخلا إلى غرفة الاستقبال مطرقي الرأس حياءاً وذوقاً.. بدأ الشاب الإيطالي حديثه بسؤال بدا لي تقليدياً: هل تؤمن بالأنبياء؟ قلت إن ديني بالطبع يؤمن بكل الرسل التي ورد ذكرها في القرآن، كما يؤمن بالإنجيل والتوراة إذا لم يتعرضا للتحريف.. نظر إلىّ المبشر الأمريكي ملياً، ثم قال: ماذا تفعل لو علمتَ بأن هناك نبي يعيش بيننا اليوم؟ قلت له مازحاً: لو كنا في عصر الأنبياء لتمنيت أن أكون واحداً منهم، أحمل عبء الإصلاح وتطبيق العدل! تصنّع الشابان الضحك، ثم عاد الإيطاليُ إلى جديته، وقال: إن نبي هذا العصر القديس توماس مونسون هو الخليفة الخامس عشر لنبي المورمون جوزيف سميث....


القصة كما يرويها المبشران الصغيران نقلاً عن وحيهم المزعوم بدأت في مساء اليوم الحادي والعشرين من سبتمبر عام 1823، عندما كان الصبي الأمريكي جوزيف سميث يصلي لله، وفجأة لمح نوراً يتجلى في غرفته، ثم ظهر شخص بالقرب من فراشه ماثلاً في الفضاء لا تلمس قدماه الأرض، وكان مُحَيّاه ـ كما يروي جوزيف سميث نفسه ـ خاطفاً للأبصار كالبرق.. نادى هذا الشخص "النوراني" جوزيف سميث باسمه، وأنبأه بأنه رسول من الله اسمه موروني، وأن الله قد أعد سميث لمهمة عليه إنجازها، وأن جميع الأمم ستتداول اسمه بالخير والشر.. ثم أخبره بوجود كتاب منقوش على صفائح ذهبية، يروي تاريخ السكان القدماء للقارة الأمريكية ويوضح أصلهم، كما يحتوي على ما يسمى الإنجيل الأبدي الذي علّمه الله لهؤلاء السكان القدماء.. يقول جوزيف سميث في شهادته إنه رأى أثناء ذلك فيما يشبه الرؤيا مقر الصفائح بالقرب من قرية مانشستر التابعة لمقاطعة أونتاريو بولاية نيويورك، في الجهة الغربية من تل عظيم، حيث تستقر تلك الصفائح داخل صندوق حجري تحت صخرة ضخمة....


في نفس اليوم من شهر سبتمبر بعد أربع سنوات تسلم جوزيف سميث من ذلك الرسول السماوي المزعوم صفائح الدين الجديد، وتلقى منه ما يقول إنها توجيهات تتعلق بما ينوي الرب أن يفعله بالبشر وبالطريقة التي سيدير بها مملكته في الأيام الأخيرة...


وفقاً لرواية المبشريْن فإن جوزيف سميث تعرض لاضطهادٍ في قريته للاستيلاء منه على هذه الصفائح الأثرية، لكنه نجح في الحفاظ عليها، إلى أن ترجمها من لغتها الهيروغليفية الأصلية إلى اللغات الحديثة بموهبة الله وقوته، ثم نشرها للعالم في عام 1830 تحت اسم (كتاب مورمون)...


(2)


توقف الشابان عن الحديث، فيما كنت أحاول جاهداً ابتلاع قصتهما.. ثم فتح المبشر الإيطالي حقيبته بحماس، وناولني منها كتاب المورمون بطبعته الفاخرة، ومكتوب على غلافه الأزرق بأحرف مذهّبة غائرة: شهادة ثانية ليسوع المسيح.. قلّبت في الكتاب ذي الصفحات الرقيقة فلم أفهم شيئاً من أسفاره الخمسة عشر، ولا من أسماء أنبيائه الذين لم أسمع بهم من قبل: نافي، أنوش، ياروم، عمني، موسايا (ربما كان موسى)، ألما، حيلامان، أثير، وموروني...


ولكن ما علاقة هذا الدين بالمسيح عيسى عليه السلام؟ وهل هو دين مستقل بفرائضه وسننه أم مذهب منشق عن المسيحية؟ وما هي حقيقة وخلفية جوزيف سميث هذا كي يقدسه أتباع المورمون؟ وأين وإلى أي مدى ينتشر هذا الدين المزعوم؟ لربما كان نزوة أو بدعة أو تمرداً محدوداً داخل إحدى الكنائس؟ أو ربما كان ديناً عصرياً بالفعل كالبهائية التي نعرفها في مصر، أو الرائيلية التي ظهرت في فرنسا قبل أربعين عاماً ويعبد أتباعُها كائناتٍ فضائية تسمى إلوهيم؟ ما رأي المسيحية التي يحمل اسمها هذا الدين ويناقضها في أسسه ومنهجه؟ وكيف لم أسمع بهذا الدين من قبل، ولم يصادفني أي من أتباعه طوال هذه السنوات في بريطانيا؟... تركني الشابان غارقاً في حيرتي وأسئلتي وغادرا بسرعة، معلليْن ذلك بأن عليهما زيارة جيراني في مقاطعة توتنهام هيل وتبشيرهم بالدين الجديد قبل حلول الظلام...


تحولَت عطلتي في رأس السنة إلى انهماك عميق في دراسة وسبر أغوار هذا الكتاب.. وجدته مسلياً وخطيراً في ذات الوقت، يدعو للحسنى لكنه يختلق رواية جديدة تماماً للكون والرسل.. يقص على لسان نبي ما يُدعى لِحي حكاية هجرته بأمر "الرب" مع زوجته سرايا وأبنائه الأربعة لامان ولموئيل وسام ونافي من القدس ـ أو أورشليم كما يحلو للكتاب أن يسميها في بعض المواضع ـ قبل هلاكها عن بكرة أبيها بعد أن انتشر فيها الفساد.. ترحل الأسرة إلى البرّية حيث يواجه أفرادها الشدائد والصعاب، ثم يبني الابن الصالح نافي سفينة في الصحراء وسط سخرية إخوته، يستأنفون بها مسيرتهم في مياه البحر وصولاً إلى القارة الأمريكية، وهناك يُخفون في مكان ما بولاية نيويورك سجل رحلتهم الشاقة هذه بما تضمنته من رؤى الأب لحي والابن الصالح نافي، والتي تلقى فيها الاثنان تعليمات وتحذيرات ونبوءات من الرب، منها ـ كما يرد في الإصحاح العاشر من سِفر نافي الأول من الكتاب ـ نبوءة مجيء المسيح مخلصاً وفادياً بين اليهود، ثم مجيء من يعمّده، ثم موته وقيامته.. غير أن هذه التعليمات والتحذيرات والنبوءات لن تتاح لذرياتهم من بعدهم إلى أن يشاء "ربهم" في الموعد المكتوب، والذي سَيَحِين في عام 1827 ميلادية.. ولكن ماذا عن أجيال وأجيال عاشت وماتت خلال نحو أربعة وعشرين قرناً في جهل بهذا الوحي إن صدق؟ لماذا بخل عليهم "ربهم" بنور المعرفة؟ يجيب المبشران على سؤالي هذا في أحد لقاءاتنا التالية بإجابة سهلة تجهض النقاش: إنها مشيئة الله...!!


(3)


استقبلتُ المبشريْن في منزلي مرة أخرى بعد أيام.. استهلا الحديث هذه المرة وختماه بعد نحو ساعة بدعاء إلى المسيح أن يهديني إلى دينهم وأن يعلن لي صحة كتاب المورمون بقوة الروح القدس.. بينما كنتُ في هذه اللحظات أتمتم بأدعية إلى ربي أن يمكنني من كشف حقيقة هذا الدين وأسراره.. سألت الشابيْن متى وكيف توليا هذا الدور التبشيري.. فقالا إن أي مورموني في العالم يجب أن يقضي عامين في مهام تبشيرية عندما يبلغ العشرين من عمره، يترك حينئذٍ بلده ويذهب أولاً إلى الولايات المتحدة ليتم تلقينه أصول التبشير وتعليمه اللغة الإنجليزية لبضعة أشهر إذا كان بحاجة لذلك، ينتقل بعدها إلى بلد آخر يمارس فيه مهامه التبشيرية، ويمنع خلال هذه المرحلة تماماً من التواصل مع أسرته إلا من خلال مكالمة هاتفية قصيرة كل أسبوع، ويمنع كذلك من الدخول على شبكة الإنترنت، ومن استخدام خدمة الرسائل على هاتفه المحمول، كما يُمنع من مغادرة الحي الذي يبشر فيه، إلا مرة للتسوق كل أسبوع، ويعيش في منزل برفقة ثلاثة مبشرين آخرين من جنسيات مختلفة.. وينبغي لكل فريق أن يتألف من اثنين من المبشرين، ولا يجب على أحدهما أن يتواصل بمفرده مع الشخص المستهدف، خشية أن يتزعزع إيمان المبشر الصغير حين لا يجد من يسعفه بالإجابة على سؤال صعب، أو حين يتعرف على حكايات أشد حبكة مما ورد في كتابهم "المقدس"...


سألت المبشريْن عن "أرض الموعد" التي يتكرر ذكرها في الكتاب، فأوضحا لي أنها المكان الذي شيد فيه نبيّهم نافي السفينة، فهي بالنسبة لأتباع هذا الدين ـ ويبلغ عددهم كما يزعمون أكثر من عشرة ملايين ـ أرضٌ مقدسة، يطمَحون للعودة إليها واستيطانها.. وقد ذهب بعضهم إلى أن هذه الأرض هي مدينة صلالة بسلطنة عُمان، ثم اتضح لهم أن مواصفات أرض الموعد هذه تتطابق أكثر مع مناطق أخرى تقع على ساحل محافظة ظفار العُمانية، استناداً إلى رحلة قام بها باحثان مورمونيان استراليان هما وارين أستون وزوجته ميشيليا، ونشرا تفاصيلها في كتاب بعنوان (على خطى لِحي) عام 1994.. وأكد هذه النظرية البروفيسور نول رينولدز بعد أن زار هذه المناطق بصحبة فريق من جامعة برجهام يونج المورمونية في ولاية يوتاه الأمريكية.. وتنظم هذه الجامعة رحلات بحثية دورية لهذه المناطق ومناطق أخرى شبيهة لتحديد موقع أرض الموعد قبل إعلانه لأتباع هذا الدين المشتتين في كل أنحاء العالم.. وليسرح كل منا بخياله ليتصور ما هو السيناريو المقترح حين يشار إلى إحدى تلك المناطق على أنها موطن دين جديد كهذا، تقدر ثروة زعمائه بعشرات المليارات من الدولارات، وهو ما تشي به دعايته التبشيرية ومراكز أقطابه وأنبيائه المزعومين... ألا يُذكِرنا ذلك بما حدث في فلسطين؟ إن التاريخ يعيد نفسه، فهل سنقف ونتفرج، كما تفرجنا من قبل على أرضنا في فلسطين وهي تنهب بخدعة مماثلة وتقام عليها دولة إسرائيل؟


(4)


في لقائي التالي بالمبشريْن كنت قد قطعت شوطاً في قراءة كتاب المورمون، وصعقني من جديد ما ورد في نهاية الإصحاح الثاني عشر من سِفر نافي الأول هذا، على لسان ملاك يخاطب الابن الصالح نافي بما يثبت ويفسر عنصرية المورمون ضد أصحاب البشرة السمراء، وهو أمر أثار في نفسي غضباً شديداً، فقد كان الملاك المذكور يصف لنافي ما يسمى بأرض الموعد، مدعياً أن من بين سكانها البارين سيهلك العاصون ويضمحلون، ثم يتحولون إلى (أناسٍ سمرٍ ممقوتين دنسين يسود بينهم الجمود وألوان من المبغضات) كما نص الكتاب! ولذا فقد استقر في نفس كل مورموني أن الشخص الأسود هو عبد ممقوت من الله، وأن لونه إنما هو عقاب على معصية آبائه.. ولعل هذا ـ كما علمتُ فيما بعد ـ ما جعلهم ينبذون السود ويمنعونهم من دخول كنائسهم وتقلد المناصب فيها.. ارتبك المبشران حين واجهتهما بهذا الأمر، ثم ادعيا أن كنيستهم أعادت النظر في تفسير ذلك النص "المقدس"، وقررت في النهاية أن تغفر للسود خطيئة أسلافهم، وبدأت ترحب بهم على مضض، لكنهم ما زالوا محرومين من النبوة واعتلاء الوظائف العليا في مؤسساتهم الدينية.. والحقيقة أن ذلك العفو جاء تحت ضغط هائل من منظمات حقوق الإنسان في الولايات المتحدة..


يتنبأ الكتاب كذلك بتأسيس دولة إسرائيل في الإصحاح الخامس عشر من نفس السِفر، حين ( يعيد نافي على إخوته أقوال إشعياء عن إرجاع اليهود في العصر الحديث إلى ما يسمى ببيت إسرائيل، وبعد إرجاعهم لا يُخزوْن فيما بعد ولا يشتتون مرة أخرى...) بنص الكتاب!... ويندهش المبشر الإيطالي الشاب من انزعاجي من هذه النبوءة، ويقول مهدئاً من ثورتي: ألستَ يهودياً بحكم نشأتك في مصر؟! إن بلادك جزء من أرض اليهود ودولة إسرائيل الكبرى!!.. ياللكارثة..!! أنا في نظرهم يهودي؟ بل وبلدي مصر يهودية؟ ويقولها المبشر المورموني بهذه البساطة والعفوية؟ إن حقيقة الدين الأمريكي الجديد بدأت تتكشف لي شيئاً فشيئاً.. ليزداد إصراري على التغلغل فيه أكثر واكتشاف كل ما في جعبته من سموم وأسرار...


(5)


قبلت أخيراً دعوتهم لحضور قداسهم الأسبوعي ظهر يوم الأحد بكنيسة القديسين الأواخر في منطقة والثاماستو سنترال على بعد محطتين بالقطار من منزلي.. استقبلني رواد الكنيسة بحفاوة بالغة، وتسابقوا على التعرف عليّ وإمدادي بالمطبوعات وكتيبات الترانيم.. بدت لي الكنيسة غير الكنائس التقليدية، تخلو جدرانها من اللوحات والنقوش، ويغيب عنها تمثال المسيح المصلوب، ويرتدي قساوستها بدلات عصرية أنيقة.. بدأت الطقوس بترديد بعض الترانيم على أنغام البيانو، ثم تناوُل جرعات من الماء المبارك (لم أعرف سر بركته)، ثم الاستماع إلى شهادات وقصص من المتحولين إلى المورمونية.. كنت مستمعاً ومشاهداً على هامش القاعة، لم أردد أغانيهم ولم أتناول ماءهم، ولم يحثني أي منهم على المشاركة في هذه الطقوس.. لكنني اكتفيت بترديد الفاتحة وبعض السور القصيرة بصوت هامس كي أشعر بالاطمئنان، محدقاً في كافة التفاصيل من حولي لتوثيقها فيما بعد..


خلال القداس دعا الكاهن إلى الاحتفال بمعتنق جديد لدينهم، انضم إليهم في ديسمبر من العام الماضي، وتم تعميده قبل أيام بغمره في ماء مقدس على الطريقة المورمونية، ثم نادى الكاهن على هذا الشخص، الذي عرّفه باسم جديد يختلف عن ذلك الذي كان يحمله إبان اعتناقه لدينه السابق.. هتف الكاهن بفخر: إن الأخ "كايل" تحول بإيمان وإخلاص من الإسلام إلى المورمونية، فلنهنئه جميعاً...


من الإسلام إلى المورمونية؟ إنها لمفاجأة نزلت عليّ كالرعد.. شعرت أن أصابع هذا الدين تعبث في جسد أمتي، وها هو البعض من أبنائها يستجيب... غادر "كايل" مقعده في خجل، وسار بخطوات متعثرة نحو المنصة، مطأطىء الرأس، محنيّ الظهر، غارقاً في بدلته الفضفاضة.. كانت ملامح وجهه الداكن تفصح عن هويته الباكستانية على الأرجح، وكانت هيئته تعكس فقره وضعفه، وكانت عيناه الغائرتان زائغتين بين الجمهور المحدق.. ثم وقف مرتعشاً إلى جوار الكاهن، وأمّن على كل عباراته المستفسرة عن مشاعره بعد التعميد بإجابة واحدة: نعم...


وما أن انتهى القداس حتى هممت بالانصراف، لكن المبشريْن ألحا في أن أبقى لحضور درس سيستغرق ساعة واحدة حول نشأة الكون، بعدها سيُعرفاني على المسلم السابق "كايل" كي أستفيد من تجربته.. ووجدت أن هذه قد تكون فرصة جديدة للاطلاع على حقائق جديدة من وجهة نظر ذلك الدين الغامض، وكذلك للتعرف على قصة تحول هذا المسلم الباكستاني إلى تلك المورمونية.. فتوجهتُ معهما إلى غرفة الدراسة، واستمعت إلى شرح من أحدهما لقصة الخلق كما يرويها كتاب مورمون، الذي يفترض أن أرواح البشر جميعاً عاشت قبل الخلق في مملكة السماء إلى جوار "الأب السماوي"، قبل أن يستجيب آدم ـ وكان اسمه آنذاك رئيس الملائكة ميخائيل ـ لأمر ربه بالتحول إلى هيئة بشرية والنزول إلى الأرض لاختبار إيمانه، متبوعاً بالأرواح الأخرى كلٍ حسب دوره بعد أن تمحى ذاكرته السماوية.. وبعد الفناء الجسدي تعود الأرواح إلى السماء لنيل ثوابها بنيل المكانة الإلهية ومجاورة الرب، أو عقابها بالنفي والحرمان من هذه المكانة.. كان المبشر الإيطالي يشير دائماً بنبرة طفولية مازحة إلى سعيه لإرضاء الله بترديد عبارة: أريد أن أكون إلهاً مثله!!


بدهاء حوّلت مسار النقاش إلى جوهر الإيمان، وهل يكفي له اطمئنان القلب، أم يتوجب في سبيله اقتناع العقل.. وكان ذلك رداً على المبشريْن في ادعائهما بأن الصلاة إلى الله تكفيني للتثبت من صحة مزاعم هذا الدين، حتى لو خالفَت عقلي وفطرتي.. توجهت إلى الشاب الباكستاني المتحول إلى المورمونية، وسألته بنبرة استجواب: أنت مثلاً.. لماذا تركتَ الإسلام؟ تلعثم قليلاً ثم قال: لأنني لم أشعر في الإسلام بما أشعر به الآن كمورموني..!! قلت له مستنكراً: هل يكفي شعورك كي تغير من دينك؟ هل درست ما يكفيك عن الإسلام والمورمونية كي تفضل أحدهما على الآخر؟

(6)

بعد ثلاثة أشهر كنت قد قرأت كل ما أمدني به المبشران المورمونيان من كتب ومطبوعات، وشاهدت أفلاماً دعائية عن دينهم صُنعت بأحدث التقنيات وأعلى الإمكانات، وبحثت عن كل ما بثته حولهم شبكة الإنترنت، ولم يستقر في وجداني سوى الإنكار لعقيدتهم ونظرياتهم.. ورغم أنني لم أفصح للمبشريْن فوراً باستنتاجي هذا، إلا أن الشك ساورهما، وبينما كنت في طريقي لعملي ذات صباح في شهر مارس الماضي، إذ أصرا على مقابلتي على محطة قطار توتنهام هيل، وهناك دعاني المبشر الإيطالي بوضوح إلى التحول إلى المورمونية.. وقال إن كنيسته تعلم الخطر الذي قد أتعرضُ له في بلادي إذا تركتُ ديني، وطمأنني إلى أن لديهم كنيسة في القاهرة بمنطقة المعادي بإمكانها حمايتي والدفاع عني!! وعرض عليّ إن شئتُ عملاً بكنيستهم في لندن إذا ضاق بي الحال!!


نظرتُ إلى الشابين الإيطالي والأمريكي.. كانا قد استنفذا كل الوسائل لدعوتي إلى دينهم الجديد.. لكنهما لم يعرفا أنني من ألد خصوم إسرائيل، وأشد أعداء السياسة الأمريكية وكل ما تفرزه من مخططات للعبث بعقيدتنا والاستيلاء على أراضينا وثرواتنا.. وأنني لم أرث إيماني بالله من والديّ، وإنما هو ثمرة بحث وتفكر واقتناع.. أمعنتُ النظر في وجه كل منهما وقد احتقن في انتظار إجابتي.. وما أن وصل قطاري إلى المحطة، حتى حملت حقيبتي، ومددت لهما يدي بالسلام، ثم قلت في هدوء: لكم دينكم ولي ديني! وتركتهما وحيديْن على رصيف القطار...

رأيي لا يعبر بالضرورة عن رأي أي مؤسسة عملت أو أعمل معها.

------------------------------

* نشرت بصحيفة الدستور يوم ١٩ مايو ٢٠١٠