
دون أن يهتز إيماني بالله طرفة عين، قضيت ثلاثة أشهر في دهاليز دين جديد.. دينٍ أمريكي ينتشر في عالمنا في سرية وصمت.. ينفق أتباعه مليارات الدولارات على التبشير به.. يوّرث النبوة فيه كل عشر سنوات تقريباً لقطب نافذ في الاقتصاد أو السياسة، ويمنحه بموجبها (قوة ومفاتيح الكهنوت).. دينٍ يقول إن لإلهنا ـ سبحانه وتعالى ـ زوجة وأبناء في السماء على هيئة بشر، وإن جائزة الصالحين هي التحول إلى آلهة بجوار ربهم الأعظم في حياة الخلود، حيث يتساوى العبد والرب في القوة والتمكن والمعجزات.. دينٍ يزعم أن كتابه المقدس وُجد قبل نحو قرنين من الزمان بنص هيروغليفي على صفائح ذهبية في غابة بالولايات المتحدة، دفنه فيها أنبياؤه الأوائل بعد هجرتهم من القدس ومصر قبل الميلاد بستمائة عام...
يبحث هذا الدين بيننا عن أرضه الموعودة.. يحلم أتباعه بالعودة إليها والاستيطان فيها على غرار إسرائيل، يفتشون عنها بدأب وحذر، بينما لا نراهم نحن ولا نلتفت إليهم، لا نشعر بهم ولا نكترث لهم، مشغولون ومنهمكون في قضايانا وصراعاتنا وضغوطنا الدنيوية.. لكن أتباع هذا الدين الجديد لا يكِلّون.. يدخلون كل بيت، ويحتوون كل متردد بشأن دينه، يغوونه بكل الوسائل والمغريات، ويشملونه بعاطفة مشروطة لا نهائية.. أولويتهم الفقراء والمستضعفين وما أكثرهم.. يعطونهم الأمان وييسرون لهم السفر والمسكن والوظيفة والدخل الوفير.. سيقصدون بيتك ويطرقون بابك ذات صباح، ستراهم في كامل زينتهم، وعلى صدرهم شارة نحاسية باسم كنيستهم، وعلى وجههم ابتسامة رقيقة تخفي وراءها دعوة لعالم سري غامض.. لا يعرف حدوده وخفاياه إلا من يتسلل إليه مثلي بقلبٍ مؤمنٍ وموحدٍ بالله، ليعود منه بالحقيقة والسر..
عرفت بأمر هذا الدين في لندن مهد الغرائب.. أيقظتني في صباح مشمس على غير العادة طرقاتٌ على باب البيت.. كان اليوم هو عطلة رأس السنة.. فتحتُ وأنا أقاوم النعاس، فوجدت شابيْن متأنقيْن.. ظننت من الوهلة الأولى أنهما مبشران مسيحيان ممن اعتدت على زياراتهم الأسبوعية وتلقي مطبوعاتهم بل وقراءتها أحياناً بعناية واهتمام، خاصة بعد أن لاحظتُ اسم كنيستهما المحفور على شارة معلقة على صدر كل منهما: كنيسة يسوع المسيح لقديسي الأيام الأخيرة.. استقبلتُهما بابتسامةِ أخُوّة، وأخبرتهما بهدوء أنني مسلم.. تصورتُ أن ذلك سيوفر عليهما مشقة الشرح ويريحني من عناء الاستماع.. لكن ذلك بالتحديد ما كانا يبحثان عنه... قبل أن أشرع في وداعهما وإغلاق الباب سألني أحدهما بإنجليزيته ذات اللهجة الإيطالية الواضحة إذا كنتُ أمانع في بعض الدردشة حول الدين الذي يبشران به.. ثم أمدني بنشرة زاهية الألوان يتصدرها بالبنط العريض عنوانٌ يقول: المورمون وكلمة الحكمة للنبي جوزيف سميث....
استوقفتني هذه المفردات الجديدة والدخيلة على ثقافتي الواسعة نسبياً في الدين المسيحي بحكم اهتمامي بالمقارنة بين الأديان.. استيقظ فضولي وانتبهَت أحاسيسي.. وسمحت لهم بعد لحظة تفكير بالدخول...
(1)
شابان يتجاوز عمرهما العشرين بقليل، أحدهما إيطالي من روما، والآخر أمريكي من يوتاه.. ويوتاه هي الولاية الأمريكية التي شهدَت ـ وفقاً لروايتهما ـ مولد هذا الدين الجديد.. خلع الشابان حذاءيهما على عتبة الباب، ودخلا إلى غرفة الاستقبال مطرقي الرأس حياءاً وذوقاً.. بدأ الشاب الإيطالي حديثه بسؤال بدا لي تقليدياً: هل تؤمن بالأنبياء؟ قلت إن ديني بالطبع يؤمن بكل الرسل التي ورد ذكرها في القرآن، كما يؤمن بالإنجيل والتوراة إذا لم يتعرضا للتحريف.. نظر إلىّ المبشر الأمريكي ملياً، ثم قال: ماذا تفعل لو علمتَ بأن هناك نبي يعيش بيننا اليوم؟ قلت له مازحاً: لو كنا في عصر الأنبياء لتمنيت أن أكون واحداً منهم، أحمل عبء الإصلاح وتطبيق العدل! تصنّع الشابان الضحك، ثم عاد الإيطاليُ إلى جديته، وقال: إن نبي هذا العصر القديس توماس مونسون هو الخليفة الخامس عشر لنبي المورمون جوزيف سميث....
القصة كما يرويها المبشران الصغيران نقلاً عن وحيهم المزعوم بدأت في مساء اليوم الحادي والعشرين من سبتمبر عام 1823، عندما كان الصبي الأمريكي جوزيف سميث يصلي لله، وفجأة لمح نوراً يتجلى في غرفته، ثم ظهر شخص بالقرب من فراشه ماثلاً في الفضاء لا تلمس قدماه الأرض، وكان مُحَيّاه ـ كما يروي جوزيف سميث نفسه ـ خاطفاً للأبصار كالبرق.. نادى هذا الشخص "النوراني" جوزيف سميث باسمه، وأنبأه بأنه رسول من الله اسمه موروني، وأن الله قد أعد سميث لمهمة عليه إنجازها، وأن جميع الأمم ستتداول اسمه بالخير والشر.. ثم أخبره بوجود كتاب منقوش على صفائح ذهبية، يروي تاريخ السكان القدماء للقارة الأمريكية ويوضح أصلهم، كما يحتوي على ما يسمى الإنجيل الأبدي الذي علّمه الله لهؤلاء السكان القدماء.. يقول جوزيف سميث في شهادته إنه رأى أثناء ذلك فيما يشبه الرؤيا مقر الصفائح بالقرب من قرية مانشستر التابعة لمقاطعة أونتاريو بولاية نيويورك، في الجهة الغربية من تل عظيم، حيث تستقر تلك الصفائح داخل صندوق حجري تحت صخرة ضخمة....
في نفس اليوم من شهر سبتمبر بعد أربع سنوات تسلم جوزيف سميث من ذلك الرسول السماوي المزعوم صفائح الدين الجديد، وتلقى منه ما يقول إنها توجيهات تتعلق بما ينوي الرب أن يفعله بالبشر وبالطريقة التي سيدير بها مملكته في الأيام الأخيرة...
وفقاً لرواية المبشريْن فإن جوزيف سميث تعرض لاضطهادٍ في قريته للاستيلاء منه على هذه الصفائح الأثرية، لكنه نجح في الحفاظ عليها، إلى أن ترجمها من لغتها الهيروغليفية الأصلية إلى اللغات الحديثة بموهبة الله وقوته، ثم نشرها للعالم في عام 1830 تحت اسم (كتاب مورمون)...
(2)
توقف الشابان عن الحديث، فيما كنت أحاول جاهداً ابتلاع قصتهما.. ثم فتح المبشر الإيطالي حقيبته بحماس، وناولني منها كتاب المورمون بطبعته الفاخرة، ومكتوب على غلافه الأزرق بأحرف مذهّبة غائرة: شهادة ثانية ليسوع المسيح.. قلّبت في الكتاب ذي الصفحات الرقيقة فلم أفهم شيئاً من أسفاره الخمسة عشر، ولا من أسماء أنبيائه الذين لم أسمع بهم من قبل: نافي، أنوش، ياروم، عمني، موسايا (ربما كان موسى)، ألما، حيلامان، أثير، وموروني...
ولكن ما علاقة هذا الدين بالمسيح عيسى عليه السلام؟ وهل هو دين مستقل بفرائضه وسننه أم مذهب منشق عن المسيحية؟ وما هي حقيقة وخلفية جوزيف سميث هذا كي يقدسه أتباع المورمون؟ وأين وإلى أي مدى ينتشر هذا الدين المزعوم؟ لربما كان نزوة أو بدعة أو تمرداً محدوداً داخل إحدى الكنائس؟ أو ربما كان ديناً عصرياً بالفعل كالبهائية التي نعرفها في مصر، أو الرائيلية التي ظهرت في فرنسا قبل أربعين عاماً ويعبد أتباعُها كائناتٍ فضائية تسمى إلوهيم؟ ما رأي المسيحية التي يحمل اسمها هذا الدين ويناقضها في أسسه ومنهجه؟ وكيف لم أسمع بهذا الدين من قبل، ولم يصادفني أي من أتباعه طوال هذه السنوات في بريطانيا؟... تركني الشابان غارقاً في حيرتي وأسئلتي وغادرا بسرعة، معلليْن ذلك بأن عليهما زيارة جيراني في مقاطعة توتنهام هيل وتبشيرهم بالدين الجديد قبل حلول الظلام...
تحولَت عطلتي في رأس السنة إلى انهماك عميق في دراسة وسبر أغوار هذا الكتاب.. وجدته مسلياً وخطيراً في ذات الوقت، يدعو للحسنى لكنه يختلق رواية جديدة تماماً للكون والرسل.. يقص على لسان نبي ما يُدعى لِحي حكاية هجرته بأمر "الرب" مع زوجته سرايا وأبنائه الأربعة لامان ولموئيل وسام ونافي من القدس ـ أو أورشليم كما يحلو للكتاب أن يسميها في بعض المواضع ـ قبل هلاكها عن بكرة أبيها بعد أن انتشر فيها الفساد.. ترحل الأسرة إلى البرّية حيث يواجه أفرادها الشدائد والصعاب، ثم يبني الابن الصالح نافي سفينة في الصحراء وسط سخرية إخوته، يستأنفون بها مسيرتهم في مياه البحر وصولاً إلى القارة الأمريكية، وهناك يُخفون في مكان ما بولاية نيويورك سجل رحلتهم الشاقة هذه بما تضمنته من رؤى الأب لحي والابن الصالح نافي، والتي تلقى فيها الاثنان تعليمات وتحذيرات ونبوءات من الرب، منها ـ كما يرد في الإصحاح العاشر من سِفر نافي الأول من الكتاب ـ نبوءة مجيء المسيح مخلصاً وفادياً بين اليهود، ثم مجيء من يعمّده، ثم موته وقيامته.. غير أن هذه التعليمات والتحذيرات والنبوءات لن تتاح لذرياتهم من بعدهم إلى أن يشاء "ربهم" في الموعد المكتوب، والذي سَيَحِين في عام 1827 ميلادية.. ولكن ماذا عن أجيال وأجيال عاشت وماتت خلال نحو أربعة وعشرين قرناً في جهل بهذا الوحي إن صدق؟ لماذا بخل عليهم "ربهم" بنور المعرفة؟ يجيب المبشران على سؤالي هذا في أحد لقاءاتنا التالية بإجابة سهلة تجهض النقاش: إنها مشيئة الله...!!
(3)
استقبلتُ المبشريْن في منزلي مرة أخرى بعد أيام.. استهلا الحديث هذه المرة وختماه بعد نحو ساعة بدعاء إلى المسيح أن يهديني إلى دينهم وأن يعلن لي صحة كتاب المورمون بقوة الروح القدس.. بينما كنتُ في هذه اللحظات أتمتم بأدعية إلى ربي أن يمكنني من كشف حقيقة هذا الدين وأسراره.. سألت الشابيْن متى وكيف توليا هذا الدور التبشيري.. فقالا إن أي مورموني في العالم يجب أن يقضي عامين في مهام تبشيرية عندما يبلغ العشرين من عمره، يترك حينئذٍ بلده ويذهب أولاً إلى الولايات المتحدة ليتم تلقينه أصول التبشير وتعليمه اللغة الإنجليزية لبضعة أشهر إذا كان بحاجة لذلك، ينتقل بعدها إلى بلد آخر يمارس فيه مهامه التبشيرية، ويمنع خلال هذه المرحلة تماماً من التواصل مع أسرته إلا من خلال مكالمة هاتفية قصيرة كل أسبوع، ويمنع كذلك من الدخول على شبكة الإنترنت، ومن استخدام خدمة الرسائل على هاتفه المحمول، كما يُمنع من مغادرة الحي الذي يبشر فيه، إلا مرة للتسوق كل أسبوع، ويعيش في منزل برفقة ثلاثة مبشرين آخرين من جنسيات مختلفة.. وينبغي لكل فريق أن يتألف من اثنين من المبشرين، ولا يجب على أحدهما أن يتواصل بمفرده مع الشخص المستهدف، خشية أن يتزعزع إيمان المبشر الصغير حين لا يجد من يسعفه بالإجابة على سؤال صعب، أو حين يتعرف على حكايات أشد حبكة مما ورد في كتابهم "المقدس"...
سألت المبشريْن عن "أرض الموعد" التي يتكرر ذكرها في الكتاب، فأوضحا لي أنها المكان الذي شيد فيه نبيّهم نافي السفينة، فهي بالنسبة لأتباع هذا الدين ـ ويبلغ عددهم كما يزعمون أكثر من عشرة ملايين ـ أرضٌ مقدسة، يطمَحون للعودة إليها واستيطانها.. وقد ذهب بعضهم إلى أن هذه الأرض هي مدينة صلالة بسلطنة عُمان، ثم اتضح لهم أن مواصفات أرض الموعد هذه تتطابق أكثر مع مناطق أخرى تقع على ساحل محافظة ظفار العُمانية، استناداً إلى رحلة قام بها باحثان مورمونيان استراليان هما وارين أستون وزوجته ميشيليا، ونشرا تفاصيلها في كتاب بعنوان (على خطى لِحي) عام 1994.. وأكد هذه النظرية البروفيسور نول رينولدز بعد أن زار هذه المناطق بصحبة فريق من جامعة برجهام يونج المورمونية في ولاية يوتاه الأمريكية.. وتنظم هذه الجامعة رحلات بحثية دورية لهذه المناطق ومناطق أخرى شبيهة لتحديد موقع أرض الموعد قبل إعلانه لأتباع هذا الدين المشتتين في كل أنحاء العالم.. وليسرح كل منا بخياله ليتصور ما هو السيناريو المقترح حين يشار إلى إحدى تلك المناطق على أنها موطن دين جديد كهذا، تقدر ثروة زعمائه بعشرات المليارات من الدولارات، وهو ما تشي به دعايته التبشيرية ومراكز أقطابه وأنبيائه المزعومين... ألا يُذكِرنا ذلك بما حدث في فلسطين؟ إن التاريخ يعيد نفسه، فهل سنقف ونتفرج، كما تفرجنا من قبل على أرضنا في فلسطين وهي تنهب بخدعة مماثلة وتقام عليها دولة إسرائيل؟
(4)
في لقائي التالي بالمبشريْن كنت قد قطعت شوطاً في قراءة كتاب المورمون، وصعقني من جديد ما ورد في نهاية الإصحاح الثاني عشر من سِفر نافي الأول هذا، على لسان ملاك يخاطب الابن الصالح نافي بما يثبت ويفسر عنصرية المورمون ضد أصحاب البشرة السمراء، وهو أمر أثار في نفسي غضباً شديداً، فقد كان الملاك المذكور يصف لنافي ما يسمى بأرض الموعد، مدعياً أن من بين سكانها البارين سيهلك العاصون ويضمحلون، ثم يتحولون إلى (أناسٍ سمرٍ ممقوتين دنسين يسود بينهم الجمود وألوان من المبغضات) كما نص الكتاب! ولذا فقد استقر في نفس كل مورموني أن الشخص الأسود هو عبد ممقوت من الله، وأن لونه إنما هو عقاب على معصية آبائه.. ولعل هذا ـ كما علمتُ فيما بعد ـ ما جعلهم ينبذون السود ويمنعونهم من دخول كنائسهم وتقلد المناصب فيها.. ارتبك المبشران حين واجهتهما بهذا الأمر، ثم ادعيا أن كنيستهم أعادت النظر في تفسير ذلك النص "المقدس"، وقررت في النهاية أن تغفر للسود خطيئة أسلافهم، وبدأت ترحب بهم على مضض، لكنهم ما زالوا محرومين من النبوة واعتلاء الوظائف العليا في مؤسساتهم الدينية.. والحقيقة أن ذلك العفو جاء تحت ضغط هائل من منظمات حقوق الإنسان في الولايات المتحدة..
يتنبأ الكتاب كذلك بتأسيس دولة إسرائيل في الإصحاح الخامس عشر من نفس السِفر، حين ( يعيد نافي على إخوته أقوال إشعياء عن إرجاع اليهود في العصر الحديث إلى ما يسمى ببيت إسرائيل، وبعد إرجاعهم لا يُخزوْن فيما بعد ولا يشتتون مرة أخرى...) بنص الكتاب!... ويندهش المبشر الإيطالي الشاب من انزعاجي من هذه النبوءة، ويقول مهدئاً من ثورتي: ألستَ يهودياً بحكم نشأتك في مصر؟! إن بلادك جزء من أرض اليهود ودولة إسرائيل الكبرى!!.. ياللكارثة..!! أنا في نظرهم يهودي؟ بل وبلدي مصر يهودية؟ ويقولها المبشر المورموني بهذه البساطة والعفوية؟ إن حقيقة الدين الأمريكي الجديد بدأت تتكشف لي شيئاً فشيئاً.. ليزداد إصراري على التغلغل فيه أكثر واكتشاف كل ما في جعبته من سموم وأسرار...
(5)
قبلت أخيراً دعوتهم لحضور قداسهم الأسبوعي ظهر يوم الأحد بكنيسة القديسين الأواخر في منطقة والثاماستو سنترال على بعد محطتين بالقطار من منزلي.. استقبلني رواد الكنيسة بحفاوة بالغة، وتسابقوا على التعرف عليّ وإمدادي بالمطبوعات وكتيبات الترانيم.. بدت لي الكنيسة غير الكنائس التقليدية، تخلو جدرانها من اللوحات والنقوش، ويغيب عنها تمثال المسيح المصلوب، ويرتدي قساوستها بدلات عصرية أنيقة.. بدأت الطقوس بترديد بعض الترانيم على أنغام البيانو، ثم تناوُل جرعات من الماء المبارك (لم أعرف سر بركته)، ثم الاستماع إلى شهادات وقصص من المتحولين إلى المورمونية.. كنت مستمعاً ومشاهداً على هامش القاعة، لم أردد أغانيهم ولم أتناول ماءهم، ولم يحثني أي منهم على المشاركة في هذه الطقوس.. لكنني اكتفيت بترديد الفاتحة وبعض السور القصيرة بصوت هامس كي أشعر بالاطمئنان، محدقاً في كافة التفاصيل من حولي لتوثيقها فيما بعد..
خلال القداس دعا الكاهن إلى الاحتفال بمعتنق جديد لدينهم، انضم إليهم في ديسمبر من العام الماضي، وتم تعميده قبل أيام بغمره في ماء مقدس على الطريقة المورمونية، ثم نادى الكاهن على هذا الشخص، الذي عرّفه باسم جديد يختلف عن ذلك الذي كان يحمله إبان اعتناقه لدينه السابق.. هتف الكاهن بفخر: إن الأخ "كايل" تحول بإيمان وإخلاص من الإسلام إلى المورمونية، فلنهنئه جميعاً...
من الإسلام إلى المورمونية؟ إنها لمفاجأة نزلت عليّ كالرعد.. شعرت أن أصابع هذا الدين تعبث في جسد أمتي، وها هو البعض من أبنائها يستجيب... غادر "كايل" مقعده في خجل، وسار بخطوات متعثرة نحو المنصة، مطأطىء الرأس، محنيّ الظهر، غارقاً في بدلته الفضفاضة.. كانت ملامح وجهه الداكن تفصح عن هويته الباكستانية على الأرجح، وكانت هيئته تعكس فقره وضعفه، وكانت عيناه الغائرتان زائغتين بين الجمهور المحدق.. ثم وقف مرتعشاً إلى جوار الكاهن، وأمّن على كل عباراته المستفسرة عن مشاعره بعد التعميد بإجابة واحدة: نعم...
وما أن انتهى القداس حتى هممت بالانصراف، لكن المبشريْن ألحا في أن أبقى لحضور درس سيستغرق ساعة واحدة حول نشأة الكون، بعدها سيُعرفاني على المسلم السابق "كايل" كي أستفيد من تجربته.. ووجدت أن هذه قد تكون فرصة جديدة للاطلاع على حقائق جديدة من وجهة نظر ذلك الدين الغامض، وكذلك للتعرف على قصة تحول هذا المسلم الباكستاني إلى تلك المورمونية.. فتوجهتُ معهما إلى غرفة الدراسة، واستمعت إلى شرح من أحدهما لقصة الخلق كما يرويها كتاب مورمون، الذي يفترض أن أرواح البشر جميعاً عاشت قبل الخلق في مملكة السماء إلى جوار "الأب السماوي"، قبل أن يستجيب آدم ـ وكان اسمه آنذاك رئيس الملائكة ميخائيل ـ لأمر ربه بالتحول إلى هيئة بشرية والنزول إلى الأرض لاختبار إيمانه، متبوعاً بالأرواح الأخرى كلٍ حسب دوره بعد أن تمحى ذاكرته السماوية.. وبعد الفناء الجسدي تعود الأرواح إلى السماء لنيل ثوابها بنيل المكانة الإلهية ومجاورة الرب، أو عقابها بالنفي والحرمان من هذه المكانة.. كان المبشر الإيطالي يشير دائماً بنبرة طفولية مازحة إلى سعيه لإرضاء الله بترديد عبارة: أريد أن أكون إلهاً مثله!!
بدهاء حوّلت مسار النقاش إلى جوهر الإيمان، وهل يكفي له اطمئنان القلب، أم يتوجب في سبيله اقتناع العقل.. وكان ذلك رداً على المبشريْن في ادعائهما بأن الصلاة إلى الله تكفيني للتثبت من صحة مزاعم هذا الدين، حتى لو خالفَت عقلي وفطرتي.. توجهت إلى الشاب الباكستاني المتحول إلى المورمونية، وسألته بنبرة استجواب: أنت مثلاً.. لماذا تركتَ الإسلام؟ تلعثم قليلاً ثم قال: لأنني لم أشعر في الإسلام بما أشعر به الآن كمورموني..!! قلت له مستنكراً: هل يكفي شعورك كي تغير من دينك؟ هل درست ما يكفيك عن الإسلام والمورمونية كي تفضل أحدهما على الآخر؟
(6)
بعد ثلاثة أشهر كنت قد قرأت كل ما أمدني به المبشران المورمونيان من كتب ومطبوعات، وشاهدت أفلاماً دعائية عن دينهم صُنعت بأحدث التقنيات وأعلى الإمكانات، وبحثت عن كل ما بثته حولهم شبكة الإنترنت، ولم يستقر في وجداني سوى الإنكار لعقيدتهم ونظرياتهم.. ورغم أنني لم أفصح للمبشريْن فوراً باستنتاجي هذا، إلا أن الشك ساورهما، وبينما كنت في طريقي لعملي ذات صباح في شهر مارس الماضي، إذ أصرا على مقابلتي على محطة قطار توتنهام هيل، وهناك دعاني المبشر الإيطالي بوضوح إلى التحول إلى المورمونية.. وقال إن كنيسته تعلم الخطر الذي قد أتعرضُ له في بلادي إذا تركتُ ديني، وطمأنني إلى أن لديهم كنيسة في القاهرة بمنطقة المعادي بإمكانها حمايتي والدفاع عني!! وعرض عليّ إن شئتُ عملاً بكنيستهم في لندن إذا ضاق بي الحال!!
نظرتُ إلى الشابين الإيطالي والأمريكي.. كانا قد استنفذا كل الوسائل لدعوتي إلى دينهم الجديد.. لكنهما لم يعرفا أنني من ألد خصوم إسرائيل، وأشد أعداء السياسة الأمريكية وكل ما تفرزه من مخططات للعبث بعقيدتنا والاستيلاء على أراضينا وثرواتنا.. وأنني لم أرث إيماني بالله من والديّ، وإنما هو ثمرة بحث وتفكر واقتناع.. أمعنتُ النظر في وجه كل منهما وقد احتقن في انتظار إجابتي.. وما أن وصل قطاري إلى المحطة، حتى حملت حقيبتي، ومددت لهما يدي بالسلام، ثم قلت في هدوء: لكم دينكم ولي ديني! وتركتهما وحيديْن على رصيف القطار...
• رأيي لا يعبر بالضرورة عن رأي أي مؤسسة عملت أو أعمل معها.
------------------------------
* نشرت بصحيفة الدستور يوم ١٩ مايو ٢٠١٠
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق