لا مؤاخذة يا ريس.. ألّا هوا انت من غير زعل ولا حبس ولا اعتقال كده يعني، تِحتِكم على كام ف البنك؟؟؟ أنا مش بحسد يا ريس.. أنا بس لسه جاي طازة من بلاد بره.. وهناك الوله ريتشارد والبت فيكتوريا اصحابي الانجليز بيعايروني ويقولولي: يللا ياللي رئيسكو وِلا مؤاخذة عيلته وصحابه وشِلِّته عندهم مليارات، وانتو نايمين على ودانكو!! يخلصك كده يا ريس؟ أنا برضه قلت اسألك وعارف انك مش حتخبي على ابنك ـ اللي هو انا ـ حاجة هايفة زي دي!!!
الوله ريتشارد والبت فيكتوريا ـ ولاد الإيه ـ يسيران في شوارع لندن مرفوعي الرأس.. يثقان بأن الملكة ذات نفسها لا تستطيع استغفالهما، تعلم الصحافة ويعلم المواطنون ـ بمن فيهم الغلابة اللي زيي ـ كل شيء عن السادة المسؤولين وأصحاب النفوذ وصناع القرار: بيقبضوا كام؟ وبيصرفوا كام؟ وعندهم كام عربية؟ ونايمين على كام في البنك؟ وازاي بياخدوا قراراتهم المصيرية؟ ولو خنصروا قرش من أموال الشعب طوب الأرض بيعرف، وسيرتهم بتبقى على كل لسان.. ولن يجسروا على الإنكار إذا سألهم مواطن، زي الوله ريتشارد أو البت فيكتوريا، فما بالك بالإعلام أو القضاء؟
عندما وطئت قدماي بلاد الفرنجة لأول مرة قبل سنوات، وسمعتهم يفاخرون باحترام الحقوق وصون الكرامة على أرضهم، لم أفهم، ففي مصر تخرج من بيتك في الصباح متأنقاً بالبدلة اللانفان والكرافتة الببير كاردان، فتعود وانت مشتوم بالأم وجزمتك مردومة بالتراب وسيارتك مخبوطة ومتخربشة ف مليون حته، لكن في نهاية المطاف أنت مصري في بلدك، لا أحد يستطيع أن ينزع عنك هذه الهوية طالما أنت على أرض مصر.. وهذا بالتأكيد يعني أنك مواطن محترم وكرامتك محفوظة.. شوف القناعة!! لكن عندما قابلت الوله ريتشارد والبت فيكتوريا اكتشفت أن للحقوق والكرامة معان أخرى.. ففي عام ألفين صادق البرلمان بتاعهم على قانون اسمه بالصلاتو على النبي قانون حرية المعلومات.. قال إيه يا ريس يضمن هذا القانون حق العامة ـ يعني اللي زي حالاتي ـ في المعرفة! حق العامة في المعرفة؟؟ أي واللهِ! يعني بالبلدي أي حد عايز يعرف أي حاجة مستخبية يعرفها.. أكثر من مائة وعشرين ألف طلب تتلقاها الأجهزة الحكومية كل عام لنزع ستار السرية عن معلومات ولا مؤاخذة حساسة.. ستون بالمائة من هذه الطلبات يتقدم بها المواطنون، وعشرون بالمائة تتقدم بها الشركات، أما الصحفيون فيتقدمون بعشرة بالمائة فقط من هذه الطلبات، لأن الإعلام عند هؤلاء كِبِر ما شاء الله ولم يعد مراهقاً، ولديه مصادره النافذة في كل مكان.. المفاجأة أن البرلمان الذي صادق على القانون يلزم الدولة بإنفاق حوالي خمسين مليون جنيه استرليني سنوياً للوفاء بهذه الطلبات، من أجل أن يشعر المواطن فقط أنه يعيش في النور، ومن ثم يتمكن من ممارسة حقوقه السياسية وأداء واجباته المجتمعية.. شوف بقى الضلمة اللي احنا عايشين فيها محتاجة كام مِيت مليون!!
* * *
بكرهَك يا ريتشارد، وبكرهِك يا فيكتوريا..! كلما انخرط أيٌ منهما في قضية ما، يأتي بالأدلة والقرائن، ويستدل بثروة هائلة من المعلومات.. أما نحن فخيبتنا تقيلة، إذا سألني سائل: أين تذهب ثروة مصر من قناة السويس؟ وكيف يستفيد الشعب من حصيلة الضرائب والجبايات؟ وماذا يدور في كواليس لجنة السياسات؟ وما صلة القرابة والصداقة والنسب التي تجمع أعضاءها بعائلة الرئيس؟ وكيف يجري اختيار القيادات في مصر؟ وماذا يجري خلف أسوار السجون والمعتقلات؟ سأقول بالفم المليان على طريقة أم كلثوم: معرفش انا!!
أصابني هذا الشعور بالجهل الداهم غداة اليوم العالمي للصحفيين، عندما سألتني مذيعة صباح دريم برغبة مخلصة في المعرفة: لماذا لم يَصدُر في مصر حتى الآن قانون واحد يضمن حرية الوصول للمعلومات؟ اعتدلْتُ في جلستي وتنحنحْت، ثم قلت كلاماً كثيراً.. لا أعرف لماذا أيدني فيه الكاتب سعد هجرس زميلي في الفقرة، رغم أنني ـ بعد أن أطنبت وأسهبت ـ لم أقل أيضاً سوى: معرفش انا!! فالنظام على رأسه بطحة يتحسسها كلما تجدد الحديث عن حرية المعلومات.. من الجائز أن تطلق حكومته حرية الإعلام، ومن الممكن أن تتساهل في حرية الاعتصام والتظاهر، لكن كله إلا حرية المعلومات.. فالملفات السرية حافلة بالصفقات المشبوهة والفساد المالي والسياسي.. والكشف عن هذه المعلومات لن يزكم أنوفنا من عفونة رائحتها فحسب، بل سيوفر الذرائع والأسباب للإطاحة بأقطاب اللعبة السياسية أجمعين، وهذه المرة بالوثائق والمستندات.. فهل جنت حكومتنا ـ لا سمح الله ـ كي تسمح بذلك؟ هل يُعقل أن تقدم الحكومة بيدها مسوغات إحالتها للقضاء؟ هل يمكن مثلاً أن تتصور وزيراً مسنوداً من اياهم قاعد قعدة طارق عزيز في القفص؟؟.... ما ترد!!
لكن ما شاء الله على الوله ريتشارد والبت فيكتوريا.. عارفين كل حاجة!! بفضل قانون حرية المعلومات عَلِما أن عدداً من وزرائهم ونوابهم أنفقوا ستة ملايين جنيه استرليني كمصروفات سفر وهمية، فجَرّسَهم الإعلام، وقُدِموا للمحاكمة، وقُضِي على مستقبلهم السياسي.. وبفضل هذا القانون انفضح أمر العشرات من الديبلوماسيين الأجانب الذين استغلوا حصانتهم في ممارسة الاعتداء الجنسي على أطفال وقُصّر خلال عملهم على الأراضي البريطانية، وبفضل هذا القانون اعترفت الحكومة أنها وافقت على خطة إنقاذ إحدى المدارس المتعثرة بميزانية استثنائية قدرها مليون ونصف المليون جنيه استرليني قبل عشرة أيام فقط من الانتخابات العامة عام ألفين وخمسة، وهو ما اعتُبِر دعاية سياسية غير مباشرة وغير قانونية للتأثير على الناخب.. (يا بختك يا وله يا ريتشارد انت والمضروبة ف قلبها فيكتوريا).... لكن احنا هنا بنصَوْصَوْ منذ علمنا ـ من وسائل الإعلام الأمريكية ـ بأمر الرشوة التي تقاضاها مسؤول مصري من شركة مرسيدس، ولم تفلح توسلاتنا اليومية حتى الآن من أجل معرفة اسم هذا المسؤول الكبير كي يقدَّم إلى "العدالة"، رغم أنه قطعاً سيحظى بالبراءة في النهاية!! ولكن بعد أن يرتدي بدلة السجن لبضعة أشهر، عقاباً له ليس على ارتكاب الجريمة، وإنما على تركه ثغرة تم اكتشافه من خلالها.. وهكذا سيظل هذا المسؤول اللص ـ في قضية مرسيدس ـ كاللهو الخفي، محتمياً بسياسة التعتيم والتستر على المجرمين، طالما لا يوجد في بلادنا قانون صارم لحرية المعلومات، يعامل المواطنين على أنهم "بني آدمين"، وليسوا قطيعاً من الأغنام...
* * *
ضربت للمذيعة مثلاً بمرض الرئيس، وكيف تداولنا أخبار صحته التي جاد بها علينا الإعلام الرسمي دون أن يسفر ذلك عن انهيار الدولة، أو اندلاع ثورة، أو وقوع انقلاب.. الحكومة بقيت كما هي، والنظام لم يهتز، والأمن لم يتزعزع.. الشعب لم يحتشد أمام القصر الجمهوري، ولم ينقضّ على مؤسسات الدولة، ولم يفتك بحاشية النظام.. بل على العكس، تابعنا الأخبار الواردة بالقطّارة من ألمانيا باهتمام وصبر، وتمتمنا بالدعاء للرئيس وللبلد أن يستردا عافيتهما، وفيما عدا ذلك لم نفعل شيئاً.. لقد ذهبت الشفافية المفاجئة بعقولنا، وأعجزتنا عن التفكير، وكل ما فعلناه أننا جلسنا ننتظر عودة الرئيس.. شاكرين مهللين على نعمة الشفافية التي غمرنا بها النظام بلا مقدمات ولا تبرير.. يقاطعني سعد هجرس على الهواء مصححاً: ولكنها كانت "نصف شفافية"، منّت علينا ببعض الأخبار فقط عن صحة الرئيس ومنعت عنا بعضاً آخر.. فقلت للكاتب الكبير: أحسن من مفيش يا أستاذنا.. هوا احنا طايلين؟ وقلت في عقل بالي: انت حتعمل زي الوله ريتشارد والبت فيكتوريا اللذيْن اندهشا من انبهاري بشفافية حكومة جوردون براون عندما وفرت أطناناً من الوثائق السرية للجنة التحقيق في الحرب على العراق قبل بدء أعمالها رسمياً العام الماضي؟ كانت بي بي سي قد كلفتني بتغطية الجلسات الأولى في هذا التحقيق، وإذا برئيس اللجنة السير جون تشيلكوت يغيظني وهو يقول لي وللصحفيين الإنجليز مبتسماً: إن اللجنة حصلت من الحكومة على صلاحية الاطلاع على كل (ويمط اللام للتأكيد) المعلومات المطلوبة، ومن ضمنها كل (ويمط اللام مرة أخرى) الوثائق السرية ذات الصلة بالحرب على العراق، بما فيها أدلة الإدانة التي يمكن أن تذهب بالحكومة نفسها في أبو نكلة!! ولم يكتف التحقيق بذلك، بل أفسح المجال للجمهور كي يشهد جلسات الاستجواب والاستماع العلنية، سواء بالحضور في قاعة الملكة إليزابيث حيث يَجري التحقيق، أو بمتابعتها على الهواء من خلال التليفزيون أو الإنترنت، ثم الحصول على النص الكامل للتحقيقات على موقع اللجنة الإلكتروني بعد نحو ساعة من نهاية كل جلسة.. طب وماذا لو وجه عضو في اللجنة ـ وخاصة الست الأرشانة اللي اسمها البارونة يوشا براشار ـ سؤالاً محرجاً لمسؤول كبير زي جوردون براون نفسه، أو سلفه توني بلير؟ هل سيرى الجمهور عيني عينك الباشا المسؤول وهو يتصبب عرقاً، ويعترف على الملأ بأنه كان على خطأ؟ تصور آه... هذا بالفعل ما حدث.. وهي دي الشفافية بعينها، مش تقوللي أخبار مرارة وبنكرياس الرئيس.. أرى ذلك وأحاول أن أخفى دهشتي وأنا على الهواء أنقل وقائع التحقيق على تليفزيون البي بي سي من وستمنيستر، وفي المساء على أحد المقاهي يتحداني الوله ريتشارد والبت فيكتوريا، ويقولان ببرود: عااادي... هي دي الديمقراطية...!!
* * *
المصيبة إنه ليست بريطانيا وحدها هي التي تفاخر بقانون عادل وصارم لحرية الحصول على المعلومات وتداولها، خد عندك مثلاً بلغاريا، الهند، اليابان، المكسيك، باكستان، جنوب أفريقيا، السويد، تايلاند، الولايات المتحدة، وغيرهم... تتفاوت تشريعات الحصول على المعلومات في هذه الدول بطبيعة الحال في حدود التداول وواجبات النشر والاستثناءات المفروضة لاعتبارات أمنية وإجراءات الاستئناف إذا رُفض طلب الحصول على المعلومة.. كما تختلف كل دولة عن الأخرى في الآليات التعزيزية التي تضمن بها تطبيق القانون وجعل الأولوية لكشف المعلومة، وحماية المبلغين عن الفساد.. لكن كل هذه الدول تشترك في أنها مش خايفة من حصول الشعب على أي معلومة.. يا ترى لماذا تخاف منا الحكومة في مصر؟ هوا احنا شعب همجي للدرجة دي؟ يعني شعب تايلاند أحسن مننا؟ ولا شعب باكستان؟ ولا جنوب أفريقيا؟ إشمعنى هما عندهم مفتاح الكرار واحنا لأ؟ لماذا يكتب عليّ أن أبتلى بالبت فيكتوريا وهي تسخر مني ليلاً ونهاراً، وتقول بدلع وشماتة: الصراحة راحة يا عيني وانت مبتعرفش!! يخلصك كده يا ريس؟ ابنك الأسد يتقاله: إنت مبتعرفش؟؟
أنا عايز من ده يا ريس!! هوا احنا مش بني آدمين زيهم ولا إيه؟؟ عايز المعلومة تكون متاحة للجميع، فلا تستفيد منها جهة دون أخرى، أو فرد دون آخر، وألا يتعين على من يسعى للحصول على المعلومة أن يبرر دوافعه أمام المخابرات أو مباحث أمن الدولة، بل ينبغي على الجهة المعنية إثبات أن هذه المعلومة سرية بحكم القانون، وليس بحكم مزاج المسؤول الكبير وحفاظاً على سمعته، ولا يجب أن تستثنى من مثل هذا القانون أي جهة عامة، بل حتى الجهات الخاصة الممولة من الأموال العامة أو تقوم بوظائف عامة يجب أن تخضع للقانون، كما في جنوب أفريقيا...
نِفسي (على لحن أغنية إيمان البحر درويش هذه المرة) أن تتطوع الحكومة بنشر ما لديها من معلومات بصفة دورية حتى في غياب الطلب عليها.. معلومات بجد، مش ميزانيات وأرباح ومكاسب فقط.. ولن يكلف ذلك جيب الحكومة قرشاً واحداً، خاصة أن التكنولوجيا الحديثة تجعل من عملية نشر وتوزيع المعلومات أسهل وأقل تكلفة مما كانت عليه زمان.. يعني الحكومة ما لهاش حجة إلا إذا كان فيما لديها من معلومات ما يعيبها أو يكشف فساد مسؤوليها..
وأول الملفات السرية التي أحلم بأن تَستنفِر الحكومة ما لديها من شجاعة وضمير وتعلن أسرارها على الشعب هو ملف بيع البلد، قصدي ملف بيع القطاع العام، الذي تربحت منه رؤوس كبيرة، وقطعت فيه أرزاق ناس غلابة كتيرة.. مَن اشترى؟ وبِكَم؟ ولماذا تم البيع أصلاً؟ وأين ذهبت الأموال؟ كل هذه أسئلة على الحكومة أن تتعطف وتتنازل وتجيب عليها، إذا لم يكن فيها ما يلطخ سمعة أحد.. أما الصمت أو الكذب فيعني أن هناك بلاوي مستخبية...
* * *
يا ريس، ثمة ثقافة متجذرة من السرية لدى حكوماتنا من قديم الأزل، نعرف أنه من رابع المستحيلات فرض الشفافية بقوة القانون، ولكن علينا أن نغير هذه الثقافة، وذلك أولاً بملاحقة كل من يتعمد إعاقة الحصول على المعلومات الحيوية، إما عن طريق إخفائها أو إتلافها، وأول هؤلاء هم المستفيدون من سياسة التعتيم والمنتفعون من استمرار الفساد في الخفاء.. كما نريد من كل أجهزة الدولة أن تتكاتف وتتعاون على تعزيز مقاييس الحفاظ على البيانات والسجلات، وهذه من أهم وظائف الحكومة الحديثة والمفتوحة..
ومش عايزين مزيداً من الذرائع لحجب المعلومة، زهقنا من العبارات المطاطة مثل: ممنوع لدواعي الأمن القومي، أو للمصلحة العامة، أو لعدم زعزعة الاستقرار والسلم الاجتماعي... ماذا جرى لاستقرار بريطانيا عندما طبقت قانون حرية المعلومات؟ استقرارها زي الفل وعلى سنجة عشرة أهو.. يجب أن تكون الاستثناءات واضحة ومحددة وخاضعة لمعايير موضوعية، فأكثر القوانين عدالة يمكن تقويضها بالاستثناءات، والمبادئ الدولية في هذا الإطار تغفر بعض القيود في قوانين حرية المعلومات إذا كان الضرر أكبر من المصلحة في الحصول على المعلومة، واتفقت معظم القوانين العادلة على أن هذه القيود تتضمن: الأمن القومي، والعلاقات الدفاعية والدولية، والتحقيق في الأنشطة الإجرامية وملاحقتها، ومساواة الأطراف خلال التقاضي، وأثناء عمليات التفتيش والضبط والمراقبة من قبل السلطات العامة، وسياسات الدولة الاقتصادية والنقدية والخاصة بسعر الصرف.. وبس!! مسمعناش بقى عن السلم الاجتماعي وزعزعة الاستقرار في أي قانون محترم من دُوول!
متآخذنيش يا ريس.. لو معرفتش بالظبط إيه اللي بيحصل من ورايا في البلد، أنا مش حستحمل غلاسة الوله ريتشارد والبت فيكتوريا أكتر من كده.. مضطر اخترع لهم أي معلومات من دماغي عشان ميبقاش شكلي وحش... أيوه حيبقى اسمها شائعات... بس هوا انا عندي بديل؟؟؟؟
---------------------
* نشرت بصحيفة الدستور يوم ١٢ مايو ٢٠١٠
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق